خطوة موفقة في الاتجاه الصائب نحو تصحيح صورتنا المشوهة في الغرب للدكتور عبد القادر طاش رحمه الله


اعتمدت صناعة الصورة النمطية المشوهة للإسلام والعالم العربي في الغرب على دراسات مراكز البحوث والدرسات الشرقية والإسلامية في كثير من الجامعات الغربية، ذلك الدور الفعال الذي قامت به كتابات المستشرقين. وليس من التجني القول ان من يطلق عليهم الآن وصف "الخبراء" في شؤون الإسلام والعرب والشرق الأوسط في مراكز الدراسات تلك، هم الذين يكملون ما بدأ به المستشرقون في حملتهم الشعواء لتشويه صورة الإسلام والعرب تحت ستار من "الأكاديمية" المزعومة!
وهناك مؤشرات عديدة تدل على وجود تماثل كبير بين الصورة السيئة التي يقدمها "خبراء" الدراسات الشرقية والإسلامية في الدوائر "العلمية" عن الإسلام والعرب وبين الصورة السيئة التي تروج لها وسائل الإعلام الغربي.
ويذكر ادوارد سعيد – الباحث الأميركي ذو الأصل الفلسطيني – أن نتائج دراساته تؤكد تطابق وجهات نظر هؤلاء الخبراء الذين تستعين بهم الدوائر السياسية في الغرب، وبين الطريقة التي تعالج بها وسائل الإعلام الغربي أمور الشرق والإسلام.
وقد أبرزت تلك الدراسات – كما يقول ادوارد سعيد – أن الفكرة المركزية التي يحملها الطرفان – الخبراء ووسائل الإعلام – هي أن الإسلام يمثل تهديدا للغرب. وهذا واضح من نظرية برزنسكي عن "هلال الأزمات" إلى نظرية الأستاذ الجامعي برنارد لويس عن "دعوة الإسلام".
ويستنتج ادوارد سعيد من مجمل مقولات الطرفين أن الإسلام – بالنسبة إليهم – يعني نهاية الحضارة الغربية باعتباره دينا لا إنسانياً وغير ديمقراطي ولا عقلانيا" ولذلك فإن الإسلام – في نظرهم – "يمثل تهديدا ينبعث من حركة ناهضة لا تحمل خطر العودة إلى القرون الوسطى فحسب، بل وكذلك يمثل تدميرا للنظام الديمقراطي في العالم الغربي" ويخلص سعيد إلى القول أن هذه النظرة للإسلام تتفق مع التفكير الاستشراقي الذي رسخ الاعتقاد بأن "الإسلام لا يمثل الاستشراقي رهيبا فحسب بالنسبة إلى الغرب، بل أنه يمثل كذلك تحديا متأخرا للمسيحية".
وإذا أدركنا هذا الدور الفاعل لمراكز البحوث والدراسات و"خبرائها" في تشويه صورتنا، فإن ما يمكن أن تقوم به من دور فاعل أيضاً في تصحيح الصورة بالغ الأهمية. أن هذه المراكز وخبراءها هم الذين "يغذون" وسائل الإعلام من جهة، وراسمي السياسات في الدوائر الحكومية والمؤسسات الاقتصادية في الغرب بـ"مضمون" صورتنا المشوهة، وبذلك فهم يسهمون في صياغة سياسات الغرب وتحديد "بوصلة" توجهاتها بصورة أو بأخرى.
ومن هذا المنطلق تتضح الأهمية القصوى للسعي نحو تغيير رؤى مراكز البحوث والدراسات الشرقية والإسلامية وتوفير رؤى بديلة من خلال إنشاء أقسام جديدة أو دعم أقسام ومراكز ترغب في تكوين صورة موضوعية تبنى على البحث العلمي، بدلا من الاستناد إلى الآراء المسبقة التي توالدت من التراث القديم. وليس المطلوب أن تكون هذه الأقسام الجديدة أو التوجهات الجديدة منحازة لما نريد، أو قنوات للدعاية لنا. إن المطلوب هو إعادة تكوين الصور على نحو أكثر موضعية وواقعية.
وفي هذا السياق يصبح الابتهاج بمشروع إنشاء مركز للدراسات الإسلامية في جامعة هارفارد – وهي أعرق الجامعات الأميركية – أمرا له مسوغاته الواقعية. إن مبادرة المملكة العربية السعودية – بتوجيه خادم الحرمين الشريفين الملك فهد وتبرعه السخي بمبلغ خمسة ملايين دولار – إلى إنشاء هذا المركز تعد – بلا ريب – نقلة حضارية مميزة في العمل الجاد من أجل تغيير صورة الإسلام في العقل الغربي. إنها خطورة موفقة في الاتجاه الصحيح، فمثل هذا المركز يؤمل منه أن يخدم ذلك الهدف من جهتين، أولاهما توفير بحوث ودراسات ذات مستوى علمي رفيع تعين على تصحيح الصورة، أو تقديم الصورة البديلة عن الصورة القديمة التي ترسخت في الدوائر العلمية والإعلامية والثقافية في الغرب.
ومن جهة أخرى سيعمل المركز على تخريج خبراء جدد يمتازون عن "الخبراء" القدماء بأنهم يقدمون زادا معرفيا مختلفا عما هو معهود سابقا، وهو زاد مؤسس على منهجية موضوعية منصفة وربما أكثر قدرة على الاقناع والتأثير.
إن هذه المبادرة السعودية التي جاءت دون ضجيج أو صخب دعائي تمثل إحدى ثمرات الاستثمار الذكي للعلاقات المميزة التي تربط المملكة العربية السعودية بالولايات المتحدة الأمريكية منذ زمن بعيد.
وتأتي هذه المبادرة – مع غيرها من المبادرات – لتثبت وتؤكد أن ثمرات النهج السعودي في التعامل مع الغرب – ومع أميركا بخاصة – تصب في النهاية في خانة خدمة قضايا الأمة التي يعتز السعوديون بالانتماء إلياه وبالعمل دون كلل في سبيل قوتها وعزتها.
وقد نجحت المبادرة السعودية التي استندت إلى استثمار العلاقات المميزة مع الولايات المتحدة: تاريخيا وثقافيا وسياسيا واقتصادياً، في استقطاب قطاع مهم من قطاعات المجتمع الأميريكي مثل القطاع الصناعي – التجاري للمشاركة والإسهام في تحقيق الهدف المنشود، فقد أعلنت مؤسسة "ماكدونل دوجلاس" وهي مؤسسة خيرية منبثقة من مجموعة "ماكدونل دوجلاس" لصناعة الطائرات – أنها ستتبرع بمليون دولار أمريكي لدعم إنشاء مركز الدراسات الإسلامية بجامعة هارفارد.
ولا شك أن هناك كثيرين في الولايات المتحدة ممن يتسمون بالانفتاح الحضاري ويؤمنون بقيم التسامح والتعاون، وممن لهم مصالح عديدة في العالم العربي والإسلامي يشتركون معنا في ضرورة التعاون من أجل تهيئة البيئة المناسبة لتنمية التفاهم والتعاون بين الغرب والعالم الإسلامي.
وقد عبر السيد جون اف ماكدونل رئيس مجلس إدارة المؤسسة وكبير المديرين التنفيذين لمجموعة "ماكدونل دوجلاس" – عن ذلك بقوله: "يتركز اهتمامنا على رغبتنا الأكيدة في مساعدة زبائننا وأصدقائنا في العالم العربي والقيام بكل ما نستطيع القيام به من أجل التشجيع على تفهم أفضل للثقافة العربية والإسلامية داخل الولايات المتحدة".
ويشير إلى أن هناك صورة مشوهة عن ثقافتنا في الغرب تحتاج إلى تغيير فيقول: "واود أن أضيف هنا أننا اليوم في حاجة ماسة لمثل هذا التفهم، ففي داخل الولايات المتحدة وسائر البلدان الغربية هناك تقدير ضئيل جدا – والكثير من سوء الفهم – للثقافة الإسلامية".
إن هذا الاستثمار الإيجابي البناء للعلاقات السعودية – الأميركية لتنمية الاهتمام بالقضايا الثقافية الكبرى، وتهيئة المناخ الصحي للتبادل الفكري والتفاعل الحضاري انجاز مقدر للجهود الدبلوماسية والثقافية السعودية.

ولا نشك ابدا في أن تضافر جهود السعوديين والأميركيين في هذا المضمار سيسفر عن نتائج مفيدة تسهم في تحقيق الهدف المأمول. ولا شك ان العمل الدؤوب المتواصل – وإن كان قليلا ومحدودا في البداية – أجدى كثيرا من استمرارنا في التباكي على صورتنا المشوهة في الغرب، والشكوى من آثارها السيئة علينا وعلى قضايانا.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

تلخيص كتاب منهج البحث التاريخي للدكتور د. حسن عثمان

الكلمات النورانية: وتحمل الكل

الإسلام وتعلم اللغات الأجنبية