مقدمة المترجم



عندما شرعت في إعداد رسالتي للماجستير حول جمعية العلماء المسلمين ودورها في الحركة الوطنية الجزائرية لفت انتباهي الدكتور أبو القاسم سعد الله لوجود رسالة دكتوراه في جامعة ماقيل بكندا حول الشيخ عبد الحميد بن باديس رحمه الله أنجزت عام 1971م فبادرت إلى الحصول عليها، ورجعت إليها في بحثي عن الجمعية وفي كتابي الذي تلاها بعنوان: عبد الحميد بن باديس: العالم الربّاني والزعيم السياسي أفدت منها  أيما إفادة  ذلك أن البروفيسور أندريه ديرلك أنجزها في وقت مبكّر بعد حصول الجزائر على استقلالها، وقد شرع في إعداد رسالته ولم يمض على هذا الحدث العظيم ست سنوات أو أكثر قليلاً. لقد زار الجزائر وتونس وربما المغرب، ولقي كثيراً من العلماء والشخصيات السياسية التي كان لها دور في الأحداث.
فكّرت في ترجمة الرسالة ولكن شغلني الاستشراق والبحث فيه أمداً طويلاً كما أني طُلّقت طلاق المكره من تخصصي في شمال أفريقيا بحكم أن رغبتي في هذا التخصص تعارضت مع رغبة من كان بيده القرار، ولله الأمر من قبل ومن بعد. لكني والحمد لله لم تنقطع صلتي بالجزائر وأهلها. فتجدد العهد بطلب من الأخ العرابة نصر الدين بأن رسالة الباحث الكندي لا بد من ترجمتها وضربت له موعداً أنجز فيه الترجمة، وبالفعل بدأت العمل، وأرسلت له الفصول تباعاً.
كان دائم الحث والتشجيع أن أكمل العمل، وها هو قد توّجه بموافقة مقام وزارة الشؤون الدينية على القيام بنشر الكتاب.
جميل أن يأتي باحث كندي وفي ذاك الوقت المبكّر فيكتشف أن الشيخ عبد الحميد بن باديس هو زعيم القومية الجزائرية ومفكر الإصلاح. وقد سعى في رسالته كلها إلى تأكيد هذا الأمر فقد اجتهد أيما اجتهاد في نقل النصوص العربية بالحرف اللاتيني من مختلف صحف الجميعة وسجل مؤتمرها السنوي (لم يُطبع سوى تقرير واحد) ورجع إلى مجالس التذكير وصحف جزائرية كثيرة.
بدأ الباحث الكندي بفصل تمهيدي عن تاريخ الاحتلال وعلى الرغم من الجهد الكبير الذي بذله في تجلية وقائع الاحتلال وبيان المقاومة الجزائرية الكبيرة لكني شعرت أحياناً أنه لم يقل كل شيء عن هذا الاحتلال وفظائعه وجرائمه. لكن يمكن أن نجد له العذر أن الرسالة قدّمت في جامعة كندية وفي مقاطعة تنتمي بطريقة ما إلى الثقافة والفكر الفرنسيين. ولعله كذلك وفّر جهده ووقته إلى البحث في القومية الجزائرية والإصلاح الجزائري بعد الفصلين الخاصين بالشيخ عبد الحميد بن باديس وهما الفصل الخامس والسادس.
تتمثل الجوانب الإيجابية في هذه الرسالة (الكتاب) في الفصول الأولى التي تناول فيها المؤلف الاحتلال الفرنسي في القرن التاسع عشر وأوضاع الجزائر في تلك المرحلة، ثم الفصل الذي عنونه إنشاء الجزائر الفرنسية والجهود الفرنسية المحمومة لفرض اللغة والثقافة الفرنسية على الشعب الجزائري.
وأوضح الأمر أكثر في الفصل الرابع المعنون (عواقب تأثير فرنسا على المسلمين) تناول فيه إذابة بل محاولة محو الطبقة الوسطى الجزائرية، وانهيار المجتمع الجزائري التقليدي، والوضع الخاص بقسنطينة التي حافظت على كثير من خصائص المجتمع الجزائري وتماسكها وربما يعود هذا الأمر إلى محاولة أعيان قسنطينة مهادنة الاحتلال وإبداء نوع من الاستسلام الظاهري. وقد يرى كثيرون ما ينتقد في هذا الموقف ناسين أن شرارة حركة عبد الحميد بن باديس انطلقت من هذه المدينة العريقة، ولو لم يكن لعائلة ابن باديس تلك المكانة الخاصة لما تمكن عبد الحميد بن باديس من الانطلاق في حركته العلمية بل ربما لم يكن ممكناً أن يسافر إلى الزيتونة لتلقي العلم هناك، ولما أتيح له قدر كبير من حرية الحركة والعمل.
وقدم الكاتب في الفصل الخامس والسادس تعريفاً بابن باديس من حيث نسبه وتربيته وتعليمه وسفره إلى تونس لتلقي العلم في الزيتونة موضحاً أن ابن باديس تأثر بالأجواء العلمية والفكرية في تونس، وكيف أن ابن باديس في هذه المرحلة كان متفاعلاً مع الأوضاع التونسية وأفاد من كبار العلماء هناك وكانت له مكانة مرموقة لدى أساتذته حتى كلفوه بالتدريس. وفي الفصل السادس تناول انطلاق ابن باديس نحو العمل العام ابتداءً بالتعليم في المسجد القريب وهو مسجد سيدي قموش ثم انطلاقه إلى المسجد الأخضر. كما تناول الكتاب ممارسته للعمل الصحفي  وحركته ونشاطاته العلمية والصحفية والثقافية والسياسية، ومن ذلك مشاركته في المؤتمر الجزائري وموقفه من فرنسا وموقفها منه.
وفصل طويلاً في الفصل السابع والثامن فهما لب الرسالة وجوهرها فكان الفصل السابع بعنوان: (معنى الإصلاح الجزائري) تناول فيه معنى البدعة والتجديد وأسباب الانحطاط في المجتمع الجزائري وعوامل النهضة وتجديد العلوم الجزائرية. ويكاد المرء  أن يظن أن كاتب الرسالة جزائري لتعمقه في هذه القضايا وصدق عاطفته ومنطلقه في تناولها بل كنت في أثناء الترجمة أظن لبعض الوقت أن صاحب الكتاب مسلم. ولكن أتراجع فمن الصعب أن تشهد لشخص بالإسلام دون أن تعرف ذلك بجد ولكني حين سألت عنه وعرفت قبل أكثر من عشرين سنة أن اسمه أندريه غندور ديرلك، فمن أين له عندور إلّا أن يكون من أصل لبناني.
وكان الفصل المطوّل الآخر هو الفصل الثامن الذي تناول فيه معنى القومية الجزائرية مستدعيا ذلك الجدال بين من اعتقد أن الجزائر لم تكن موجودة وانه حين بحث ونبش بين المقابر فلم يجدها فأطلق كلمته الصريحة التي تؤكد عروبة الجزائر وإسلامها وانتمائها لأمة الإسلام. وفي ثلاثة فقرات مفصّلة عنونها:
1-              الجزائر ليست فرنسا
2-              لا يمكن للجزائر أن تكون فرنسا
3-              لا تريد الجزائر أن تكون فرنسا.
وتناول التحديث والعلمنة ومعنى القومية.
             وفي الأخير أقر أنني استمتعت قارئاً ومترجماً ومحباً للإسلام والجزائر بأن وجدت من أعطى الجزائر هذا الوقت والجهد ليكتب عنها وليس عن الثورة التي كانت أكثر إغراءً للكتابة عنها لما ظهر فيها من إصرار الشعب الجزائري وبطولاته وشجاعته وتضجياته يقوده في ذلك كله روح الجهاد الإسلامية، ولكن ديرلك اختار الموضوع الأقل شعبية ولكن الأكثر صعوبة وجوهرية وهو الشيخ عبد الحميد بن باديس. ومع ذلك فقد أقر أن عبد الحميد بن باديس لا يزال لم يعط حقه من البحث والدراسة، ولو كانت الدراسة قد أعدت بعد الوقت الذي أعدت فيه لرأى كيف أن بعضنا ينكر الجميل ويطعن فيمن كان السبب بعد الله في عودة الجزائر لعروبتها وإسلامها، وكيف طغت أفكار ماركس وإنجلز والاشتراكية وما سواها من فلسفات حتى غدا ابن باديس شخصاً ثانوياً إن لم يهاجموه ويقللوا من شأنه ومكانته.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

تلخيص كتاب منهج البحث التاريخي للدكتور د. حسن عثمان

الكلمات النورانية: وتحمل الكل

الإسلام وتعلم اللغات الأجنبية