ودعت أبي وكان الأشد ألما رحمه الله

تحدثت عن وداعات في حياتي ولكن الوداع الذي كان الأشد إيلاماً فما زالت لحظاته ماثلة أمامي ناظري وهو عندما ودّعت أبي وهو مسافر إلى بريطانيا للعلاج فكان منظره يوحي بأنه لن يعود إلى المدينة المنورة، وكان حزن تلك اللحظات يؤكد أنه الوداع الأخير حتى إن تلك اللحظات الصعبة كانت تمهيداً لما حدث بعدها من علمنا بخبر وفاته رحمه الله بعد العملية الجراحية التي أجريت له في القلب.
ودّعت أبي في مطار المدينة المنورة ...ووداعي لأبي ليس كأي وداع آخر ... لقد كنت قريباً إليه رحمه الله قرباً خاصاً، وسأبدأ من السنوات الأولى فقد استقبلني بحب كبير واختار لي اسماً لقبيلة عرفت بالعزة والمكانة بين العرب فهي قبيلة مازن وكان يردد بيت الشعر الذي يدل على ذلك:
لو كنت من مازن لم تستبح إبلي بنو اللقيطة من ذهل بن شيبان
أحبني رحمه الله وكان كريماً في التربية بل أعتقد أن له فلسفة خاصة في التربية أو إنها كانت بعد نظر وعمق فكر وفراسة... لا أدري كان يعطيني من الثقة ما لا يمكن أن أتخيله. وعلى الرغم من قوة شخصيته والمهابة التي أعطاه الله إياها لكنه كان رحب الصدر يسمع للنقاش والرأي المخالف لرأيه بل كان يعجبه أن يكون لأبنائه رأياً...
عدت من المدرسة ذات يوم وكنت في الصف الثالث الابتدائي منتقداً أن المدرسة كلّفت أستاذ التربية البدنية بتدريس المواد جميعها، فما كان من أبي رحمه الله إلاّ أن حضر إلى المدرسة في اليوم التالي ليخبر المدير بما قلت، فاستدعاني المدير لأقول هذا الرأي أمام الأساتذة... ثم شرح لي أن الأستاذ في الأصل مؤهل لتدريس جميع المواد... فهل بربكم هناك أب يسمع أو يسمح لابنه أن ينتقد المدرسة ثم لا يكتفي بذلك بل يشجع ابنه على أن يقول رأيه أمام الجميع؟ أين نظريات التربية التي ندرسها ونفخر بأننا ابتعثنا المئات أو الآلاف لدراستها في الغرب من هذه التربية الرائعة..
وكان يصر على أن أحمل هدية بعد ظهور النتائج لأستاذ الفصل لتربيتي على أهمية العناية بالأستاذ وإكرامه..لقد كان مطمئناً إلى مستواي العلمي وواثقاً بنزاهة المعلمين، وما كان في أيامنا من يشكك في تلك النزاهة .. لقد خربت كثير من الضمائر بعد ذلك الزمن.
وبعد عودتي من أمريكا بدأت الكتابة الصحفية بمقالة في صحيفة المدينة المنورة بعنوان (عندما تصبح القيم فريسة للحياة المادية) ثم تجرأت وبعثت بمقالة إلى مجلة المجتمع بعنوان (مشاهدات عائد من أمريكا: وحيث ضاعت الروح) فنشر فتجرأت وأرسلت مقالة أخرى ثم ثالثة..وفي يوم من الأيام استشهد الأستاذ أحمد محمد جمال رحمه الله ببعض ما قلت في تلك المقالات. فقال لي والدي رحمه الله هذه شهادة مهمة من كاتب كبير لكاتب مبتدئ مما يدل على أنه قرأ ما كتبت وأعجبه.. لم أفهم معنى تلك الإشارة حتى دخلت سلك التدريس الجامعي الذي يعتني بمثل هذه الاستشهادات (يسمونها الاستشهاد العلمي) –هذا في الجامعات الراقية وليس في الجامعات العربية عموماً-  
ثم كانت لي زاوية في ملحق المرأة بصحيفة المدينة المنورة بعنوان (كلمة رجل) فكان يعجبه العنوان، وكان رحمه الله ينظر إلى ما وراء الألفاظ، وكان يقرأ ولا يعلق ولكن نظرات الإعجاب والرضا لم يكن صعباً ادراكهما في لهجته أو نظراته.
وفي يوم من الأيام كنت أسير معه في أحد شوارع المدينة فقال لي لقد أخطأت – والمجتمع أيضاً مخطئ-حين كنت أصر على أن تكون طبيباً أو مهندسا، فالطبيب يمكن أن يعالج حتى عشرين مريضاً في اليوم، ويصبح العدد مائة وعشرين مريضاً في الأسبوع، ثم يتكرر المرضى أنفسهم في الأيام التالية، والطبيب يعالج أمراض البدن أما الكاتب أو المفكر أو المصلح فيكتب المقالة فيقرأها عشرات الألوف، فالكاتب أبعد أثراً وأكثر نفعاً وأضاف إن صاحب الكلمة المكتوبة تبقى بعده أجيال وأجيال.
لقد كان وداعاً صعباً وإني أعترف أنني لا أجيد التصرف في هذه اللحظات حيث إنني أنسحب بسرعة ولا أنظر إلى الخلف لأشير لمن أودع، ويظن المودع أنني سرت مسرعاً لا أريد أن أراه مرة أخرى، ولكن الأمر فيما أعتقد أنني أفقد القدرة على التركيز في تلك اللحظات فأهرب بسرعة من المكان. ولكن منظر تلك اللحظات مازال ماثلاً أمامي وهو يدخل مبنى المطار أتخيله كأنه أمامي اللحظة.
وكلما تذكرت والدي –وكثيراً ما أتذكره-أتساءل هل كان موجوداً حقاً.. هل كان لي أب يملأ علي الدنيا وكان قريباً مني وكنت قريباً منه حتى إنني في لحظات كنت أتخيل صعوبة الحياة بدونه أو حتى استحالة الحياة بدونه.
لقد كان لوالدي رحمه الله بصمات في حياتي لا يمكن أن أنساها، فهو الذي قادني إلى عالم المؤتمرات وهو الذي لم يدخل جامعة ولم يحضر المؤتمرات وربما لا يعرفها حقيقة. فقد اتصل بي أستاذ جزائري كبير هو الدكتور أبو القاسم سعد الله –كان مناقشاً لي في رسالة الماجستير وأسهم في إرشادي وتوجيهي في أثناء البحث-ليخبرني بأن المجلس الشعبي البلدي في قسنطينة بالجزائر سيعقد مؤتمرا بمناسبة يوم العلم وبإمكاني أن أتقدم بموضوع وسيوجهون لي الدعوة. وراسلتهم، وكانت الرسائل عبر البريد –يصل بعضه وكثير منه كان يضيع-فجاءتني الدعوة من خلال برقية وحتى إني ذهبت أنا ووالدي لتسلم البرقية. وهنا قال لي لا تنتظر أن يرسلوا إليك التذكرة، إن لم يكن معك قيمتها فاقترض مبلغا واشتر التذكرة وسافر.. لم يكن في ذلك الوقت عوائق ضد سفر المحاضر على حسابه، لكن لم يكن متخيلاً أن الجامعة ترسلني على حسابها-فسافرت وشاركت في المؤتمر، ودعيت إلى المؤتمر في السنة التالية، ولقيت باحثاً من تونس فدعاني إلى حضور مؤتمر في تونس. فحضرت ثلاث مؤتمرات قبل أن أحصل على الدكتوراه وألقيت محاضرة عامة في النادي الأدبي قبل حصولي على الدكتوراه فلا نامت أعين الكسلاء... المثبطون الجهلاء..



تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

تلخيص كتاب منهج البحث التاريخي للدكتور د. حسن عثمان

الكلمات النورانية: وتحمل الكل

الإسلام وتعلم اللغات الأجنبية