إذاعة لندن والاستشراق الجديد

    بسم الله الرحمن الرحيم



          كلفت قبل مدة بإلقاء درس حول الاستشراق المعاصر، فأعددت بعض الأفكار في ذهني وفي وريقات معي، ولما حان موعد الدرس انطلقت إلى المكان المحدد وفي الطريق أدرت المذياع فإذا بالإذاعة لندن باللغة الإنجليزية تجري لقاء مع الدكتورة منى مكرم عبيد الأستاذة الجامعية المصرية القبطية (عضوة مجلس الشعب)، فأوقفت سيارتي، وأخرجت ورقة وبدأت أدون ما تقوله الدكتورة، ثم أكملت الطريق حتى وصلت وجهتي وقد عزمت على ألا أتحدث عن الأفكار التي أعددت أو كتبت ذلك أنني وجدت بغيتي في هذا الحديث الإذاعي.
          لم يعد الاستشراق المعاصر يعتمد على جون وجورج وبل ومايكال وغيرهم فقد اكتشف هذا الاستشراق أننا مدركون جدا للآراء والأفكار التي يطرحها هؤلاء، لذلك سعي أن يوصل أفكاره ومؤامراته من خلال أبنائنا الذين يحملون أسماء حسن ومحمود وعلى وحسين ومنى وعائشة وهدى وغيرهم.
          ولما كان من أبرز أهداف الاستشراق قديما وحديثا السعي إلى تفتيت وحدة الأمة الإسلامية، وخلق النزعات داخل المجتمعات الإسلامية وبخاصة تلك التي تضم أقليات نصرانية فإن حديث الدكتورة منى يسعى جادا إلى تحقيق هذا الهدف.
          ولننتظر كيف يعمل الاستشراق المعاصر خلال أمثال الدكتورة منى عبيد من واقع الأفكار التي قدمتها في هذا اللقاء مع إذاعة لندن باللغة الإنجليزية. لقد أبدت الدكتورة مخاوفها الشديدة من تطبيق الشريعة الإسلامية في مصر، وزعمت أن ذلك لن يكون في مصلحة النصارى، كما زعمت أن المناهج الحالية بما تحتوي من اهتمام وتركيز على الإسلام أمر غير مقبول فكيف إذا ما تمت أسلمة هذه المناهج كليا، وهذا يعني في نظرها أسلمة المجتمع المصري. لا شك أن من ديدن الاستشراق قديما وحديثا إلغاء التهم والافتراضات دون تقديم الدليل والبرهان ذلك أن المتحدث -الدكتورة منى -تتحدث بلغة الواقع لغة العالم المرجع فيما يقول. فالدكتورة للأسف الشديد لم توضح كيف أن تطبيق الشريعة الإسلامية سيضر بمصالح الأقلية النصرانية. لقد نسيت الدكتورة أو تناست أن مصر عاشت قرونا طويلة في أمن وسلام حقيقية في ظل الشريعة الإسلامية. وإن الحقوق التي تكفلها هذه الشريعة لأهل الذمة لا يوجد مثلها في أي تشريع آخر. ولننقل صورة من الماضي حينما شعر مصري قبطي بأن ظلم فتوجه من فوره إلى المدينة المنورة عاصمة الدولة الإسلامية حينذاك ليشكو وإلى مصر الصحابي الجليل عمرو ابن العاص. وأنصف المصري تماما بل إن عمر بن الخطاب قال قولته المشهورة والتي هي أساس مهم في الإسلام ((متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا)) هذا المصري الذي كان خاضعا لشتى أنواع الاضطهاد تحت الحكم الروماني المسيحي دينيا واجتماعيا واقتصاديا وغير ذلك لم يكن ليدور في مخيلته أن يشكو حاكما رومانيا أو يتظلم. أليست الشريعة الإسلامية إذن هي التي حققت العدل للأقباط المصريين؟
          وعسى أن تتذكر الدكتورة منى من الماضي القريب كيف أن كثيرا من النصارى أيدوا الشيخ حسن البنا رحمه الله ووقفوا إلى جانب المسلمين في صراعهم ضد الاحتلال البريطاني الغاشم رغم أن بريطانيا لم يفتها استغلال بعض النصارى كما استغلهم نابليون من قبل في حربه للإسلام والمسلمين.
        أما قولها بأن المناهج الدراسية الإسلامية الحالية أو ما يتوقع أن يقات إليها من أسلمة تضر بالأقلية النصرانية مهل من المنطق أو يدرس خمسة وتسعون بالمئة من أبناء البلاد مناهج علمانية لا تربط بدين الشعب من أجل خمسة بالمائة؟ وهل يصح أن تفرض مناهج غير إسلامية في بلد مسلم ثم ما العيب في المناهج الإسلامية؟ هل تستطيع الدكتورة أن تقدم دليلا واحدا على أن المناهج تضر أو تتحيز ضد النصارى؟ إنها تنسى أو تتناسى وصية الرسول صلى الله عليه وسلم بمصر وأهلها. إن المناهج الإسلامية تدعو إلى حسن معاملة أهل الذمة وتحترم نبيهم عيسى عليه السلام وتؤمن بما جاء به من عند الله.
        وتناولت الدكتورة أيضا ما زعمته من اهتمام الدولة بقضية مقتل السياح الأجانب وإهمالها للقتلى من النصارى، وزعمت الدكتورة أن كنائس هدمت وبيتا سرقت ومتجر غصبت، وهي في هذه الاتهامات لم تخرج عن المنهج الاستشراقي في إلقاء التهم جزافا فكيف أهملت الدولة قتلى النصارى؟ وهل حقا قتل نصارى دون أن يكون للطرف الآخر حجة في القتل؟ وأين الدليل على الكنائس التي هدمت ما عددها، فالدكتورة لم تذكر مثالا واحدا.

        وهكذا فالاستشراق المعاصر يتكلم الآن باللهجة القديمة ويسعى للأهداف نفسها ولكنه يقدمها بلسان أبناء البلاد الإسلامية أنفسهم. وهذا هو الخطر الداخلي الذي يفوق كثيرا الخطر الخارجي فهل ننتبه إليه؟

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

تلخيص كتاب منهج البحث التاريخي للدكتور د. حسن عثمان

الكلمات النورانية: وتحمل الكل

الإسلام وتعلم اللغات الأجنبية