ذكريات الرحلة إلى إكستر-10جمادى الآخرة 1427هـ- الموافق (6يوليو 2006م-



         كنت أود أن أكون خالي الذهن لأكتب باستفاضة وإسهاب عن هذه الرحلة إلى مرابع الإنجليز للبحث في اهتمامهم بنا ولأهتم بهم وأدرسهم كما يدرسوننا، ولكن لأنني حتى الآن لم أجد السكن المناسب المريح فقد وجدت غرفة في بيت امرأة أفغانية تبيع السجاد الأفغاني وعندما تتاح لي الفرصة سأتحدث عنها وعن شخصيتها الطريفة. ولكن حتى لا تطول الوعود التي لامتني إحدى بناتي بأنني أكثرت منها
        لماذا هذه الرحلة إلى بريطانيا؟ لقد تقدمت مثل غيري للحصول على منحة المجلس الثقافي البريطاني لما بعد الدكتوراه وهي خمسة آلاف جنيه تعطى للشخص ليقضي في بريطانيا مدة ثلاثة أشهر يعمل مع أحد الأساتذة الإنجليز في بحث علمي ضمن تخصصه، فأسرعت إلى إعداد موضوع للبحث وراسلت عدداً من الأساتذة الإنجليز للمشاركة معي في البحث أو الإشراف (لا بد أن يشرف عليك إنجليزي!) ولكن الأوراق تأخرت في الرحلة من مجلس القسم إلى مجلس الكلية إلى عمادة البحث العلمي فكان أن سبقنا كليات علمية كالطب والصيدلة والحاسب وغيرها وأخذوا المنح السبعة المخصصة لجامعة الملك سعود التي أنتسب إليها. ولكني في الوقت نفسه تعرفت إلى أستاذ يعمل في جامعة إكستر كان باحثاً زائراً في مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية ويدرّس في جامعة إكستر. فأرسلت إليه الموضوع فعرضه على عدد من أساتذة معهد الدراسات العربية والإسلامية الذي يحظى بدعم سخي من أمير الشارقة الدكتور محمد بن سلطان القاسمي. وأعجب الأساتذة بالموضوع فاقترحوا أن يعرضوا عليّ القدوم باحثاً شرفياً لا أحتاج إلى أي مشرف وأن أكون على حسابي مدة الإقامة
لا أعرف الحساب ولكن رزق الله بعض المال الذي اعتقدت أنه قد يكفي، وتلك واحدة من أخطائي وحسناتي لا أعرف الحساب فأسافر وأغامر ويرزق الله وييسر الله والحمد لله. وكان الأمر أنني حصلت على التفرغ العلمي فوجدت أن التذاكر بالدرجة الأولى يمكن أن تصبح تذكرتين إلاّ قليلاً بالدرجة السياحية، فما لي وللأولى تلك لأصحاب المناصب الكبرى مثل المدير والوكلاء والوزراء أما أنا فيكفيني السياحية لأسافر وأقوم بالبحث، وأبحث بنفسي. فهناك من تصدر بحوث بأسمائهم ولكنهم قد لا يكونون تعبوا لا في الحصول على المعلومة أو ربما حتى قراءتها.
لم أكن متأكداً أنني سأقوم بهذه الرحلة أولاً لأن موافقة (معالي) وزير التعليم العالي على محضر اجتماع مجلس الجامعة الذي يتضمن الموافقة لي على التفرغ قد تأخرت كثيراً، ولو كانوا يعلمون لكانت الموافقة قد صدرت منذ منتصف العام حتى يستطيع الأستاذ أن يرتب أموره في البلاد التي سيزورها أو يقيم فيها. ليس لي راتب مدير الجامعة حتى أسكن في غرفة في فندق وأنتظر العالم تخدمني ولكن عليّ أن أبحث عن السوق وعن الطعام الأرخص وأن تقوم زوجتي بالطبخ والكنس ورعاية الابن (أحياناً يكونون عدة
المهم كان عليّ أيضاً أن أتخطى بعض العقبات الخاصة لماذا تسافر؟ وكيف تسافر؟ وغير ذلكم من الأسئلة التي تنهال على المسكين إذا أراد أن يقوم بأي عمل. فهو معتاد أن يسأله الآخرون ويتدخلون في شؤونه رغم أنه ترك لهم شؤون الدنيا كلها فلا يتدخل في شأن أحد.
وأراد الله أن تتم الأمور وأجد نفسي في صبيحة يوم الأحد في مطار الرياض الساعة الخامسة صباحاً لأن الرحلة تقلع إلى جدة وهناك عليّ أن أنتظر أربع ساعات بعد أن أتسلم العفش وأنقله إلى الطابع الأعلى. وعندما تصل إلى مطار جدة فتصيبك حالة من الحزن والغم والنكد فهذا المطار أصبح خردة أو أصبح من الآثار البائدة لأمم كانت سائدة. والله إن كل قطعة منه تستحق أن توضع في متحف، وقال لي الموظف تضايقت وأنت تأتي هنا خمس دقائق فما بالك بمن يعمل فيه طوال النهار وخمسة أيام في الأسبوع إلى أخرة (العمر كله) كيف يعيش هؤلاء وهم يعملون في مطار أكل عليه الدهر وشرب
وامتطينا الطائرة المقلعة إلى لندن وبعد وصولنا وجدنا سيارة ليموزين (ليه مو زين) تنتظرنا لتأخذها إلى فندق أجرة الحجرة فيه (ليس فيها هاتف ولا ثلاجة ولا ولا) وإنما هي حجرة حقيرة ولكن الأجرة خمس وثمانون جنيه (جنيه ينطح جنيه) وما أغلى الجنية أو ما أرخص الريال. وكل جنيه يسوى سبعة ريالات فكانت الحسبة بضع مائة جنيه أو بضع آلاف من الريالات لمدة لا تزيد على ثلاثة أو أربعة أيام.
أما سائق الليموزين فكان لبنانياً والغالب أنه من الجنوب وشيعي حيث أكثر من الحديث عن حزب الله ومواقفه العظيمة (في نظره) وامتدح الرئيس الإيراني وشجاعته. وعرفت أنه مقيم في لندن منذ ست عشرة سنة، وانتقد العالم العربي وزعاماته وتحدث عن العلاقات بين الشعوب والحكومات، وكان عليّ أن اسكت بعض الشيء حيث إنه لا يستطيع أن يأتمن الإنسان أي أحد وبخاصة أن هؤلاء يمكن أن تقوم جهات معينة بتشغيلهم فيوفر هذا لهم دخلاً إضافياً.
وفي لندن تعرفت على من أوصلني إلى قناة المستقلة ليجروا معي حديثاً طويلاً عن مؤلفاتي وعن الاستشراق والاستغراب مدة الحديث حوالي الساعة والنصف ومجاناً وحتى إني دفعت أجرة الانتقال إلى مقر القناة في مكان فقير من لندن أو مكان تجتمع فيه الصناعات. لا أدري أين التمويل الذي يزعمون أن قناة المستقلة تحصل عليه، ولعلها ولكن ما رأيت لا يدل على ذلك. وتم الحوار وبُثّ على الهواء وهو موجود في قناتي اليوتيوب.
أردت أن أتعرف أو أعود إلى زيارة بعض معالم لندن مرة أخرى؛ فقد كانت رحلتي الأخيرة إليها في عام 1408هـ حينما منّت(!) عليّ جامعة الإمام بالموافقة على قيامي برحلة علمية إلى كل من بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية لجمع المادة العلمية لبحثي للدكتوراه حول المستشرق البريطاني الأصل الأمريكي الجنسية اليهودي الملة والصهيوني النزعة برنارد لويس. وفي تلك الرحلة قررت الجامعة أن تعاملني معاملة طالب مبتعث (كما زعموا) فكانت المكافأة ألفين وستمائة ريال شهرياً، بالإضافة إلى إعطائي بعض النقود للتصوير والتنقلات الداخلية. ولكم أن تتخيلوا ألفين وستمائة ريال شهرياً ماذا يمكن أن تكفي مدة شهر كامل في لندن، يا لها من كارثة!! وعندما عدت ووجدت الغلاء وأن ما أُعطيت من مال لا يكفي أسبوعاً واحداً قلت للعميد حينذاك: "هل كان من المفروض أن آخذ معي خيمة لأقيم في إحدى الحدائق وأحمل كيساً من الخبز الجاف لطعامي؟" فكان رده أن هذه قلة أدب! كيف يجرؤ مثلك على قول مثل هذا الكلام؟ 
ولكن لمّا كان الله هو الرزاق ذو القوة المتين عدت من أمريكا وأخرجت أربعة كتب هي: من آفاق الاستشراق الأمريكي المعاصر، والغرب في مواجهة الإسلام، ونبش الهذيان من تاريخ جرجي زيدان، (تأليف أمين بن حسن حلواني المدني- تحقيق) وكتاب أصول التنصير في الخليج العربي( ترجمة عن الإنجليزية لباحث أمريكي) واشترت مني وزارة الإعلام بما قيمته أربعين ألفاً تقريباً، مع أنني لم أفهم لعبة وزارة الإعلام بأن أبالغ في السعر حتى أكسب أكثر لأنني أبيع على الدولة
أردت أن أعود إلى معالم لندن وكان منها ساحة البيكاديللي والطرف الأغر وقصر ببكنغهام فركب هاشم (ابني الذي لم يتجاوز السنتين بعد) عربته وبدأت أنا وزوجي خديجة المشي فقد كان معنا خريطة لمعرفة الطرق حتى وصلنا إلى الطرف الأغر وقصر ببكنغهام وساحة بيكاديللي، وكان مشوراً طويلاً تقطعت معه أصابع قدمي وما زال الحرج موجوداً حتى بعد قرابة الأسبوعين. وكان المشي ممتعاً، 
وفي الطريق إلى قصر باكنغهام وساحة الطرف الأغر رأينا العديد من المهاجرين إلى بريطانيا الذين استقدمت بعضهم بريطانيا ذات يوم للقيام بالأعمال التي أنف أو يأنف الإنجليز أن يقوموا بها (قال لي بريطاني يعمل سبّاكا:" نحن البريطانيين أصحاب حوانيت أو بياعين، ونأنف العمل في بعض المهن") وقلت كل واحد من هؤلاء يزعم : أنا بريطاني، فجميل أن يكون في البلد نظام يعطي الجنسية لمن يخدمها عدد من السنين أو يقدم لها خبرة معينة أو يسد لها حاجة ويمكن أن يصعد من العمل زبالاً أو حمّالا ليكون نائباً في البرلمان أو أكبر من ذلك. وبعض هؤلاء القادمين إلى بريطانيا ويحملون جنسيتها يصرون على ارتداء أزيائهم التي كانوا يرتدونها في بلادهم الأصلية فالجلباب موجود وعمامة السيخ موجودة والحجاب الكريم موجود، ومن المسلمين من يحتفظ بلحية مباركة ومنهم من تخلى عن الشارب واللحية، وارتدى ملابس الإنجليز وربما بالغ في التقليد فتجد الرجل يلبس السروال القصير (الشورت) وهناك سراويل بين الشورت والطويل لا أدرى ما يسمونها
وأردنا أن نعود إلى ساحة الطرف الأغر ليلاً فقيل لنا إن الحافلة رقم 453 تنقلكم إلى هناك واشترينا تذكرة من آلة بيع تذاكر على الرصيف، ولأن الحافلة كانت واقفة فأسرعت إلى شراء تذاكر بأكثر من قيمة التذكرة ذهاباً وعودة فقررت أن أتنازل عن حقي في الباقي أو أركب الحافلة مرة أخرى دون أن أدفع لأسترجع حقي منهم

وسار بنا الباص وتجاوزنا الطرف الأغر وأردنا أن نسير معه حتى آخر مشواره فإذ به يصل إلى أحياء لندن النائية والفقيرة والتي يكثر فيها البلاء والمصائب، فأصاب خديجة الذعر والخوف الشديد، وظلت من خوفها تدعو في سرّها وتقرأ المعوذات والفاتحة وغيرها من السور، وكنت أنا أحاول أن أرى جنبات الطريق، هل كنت غير خائف؟ دائماً أقول لخديجة: ثلاثة لا يخافون: المجنون والطفل الصغير والملك، فأيهم أنا لا أريد أن أقول. هل كنت غير خائف؟ هل لأني تجاوزت من العمر الخمسين وهي لم تصل الأربعين بعد فخافت وكنت غير خائف؟ 
وصلت الحافلة إلى آخر المطاف وقال السائق هيا انزلوا، فأسرعنا على الجانب الآخر من الشارع لنأخذ الحافلة التي تعود إلى وسط لندن (الرقم نفسه) والحمد لله أن تلك الحافلة لم تتأخر، وركبناها حتى وصلنا إلى ساحة الطرف الأغر وكانت كأس العالم قد ذهبت إلى الإيطاليين وبدأت الاحتفالات وأغلقت الشوارع فوقفت الحافلة وأمرنا السائق أن نهبط أو نترجل واذهبوا حيثما شئتم فشركة النقل ليست مسؤولة عنكم الان.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

تلخيص كتاب منهج البحث التاريخي للدكتور د. حسن عثمان

الكلمات النورانية: وتحمل الكل

الإسلام وتعلم اللغات الأجنبية