الاستبداد السياسي وتداعياته العلامة الدكتور يوسف عبد الله القرضاوي


الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله
      من أعظم هموم الوطن العربي والإسلامي هو الاستبداد و الاستبداد السياسي خاصة: استبداد فئة معينة بالحكم والسلطان، برغم أنوف شعوبهم، فلا هم لهم إلا قهر هذه الشعوب حتى تخضع، وإذلالها حتى يسلس قيادها، وتقريب الباحثين بالباطل، وإبعاد الناصحين بالحق.
     هذا الاستبداد خطر على الأمة في فكرها وفي أخلاقها، وفي قدرتها على الإبداع والابتكار، ولسنا في حاجة إلى أن نعيد ما كتبه، الشيخ عبد الرحمن الكواكبي في كتابه الشهير (طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد) عن مضار الاستبداد، وآثاره في حياة الفرد، وحياة الجماعة، وإن كان الاستبداد اليوم أشد خطرا من قبل بمراحل ومراحل، مما أصبح في يد السلطة من إمكانات هائلة تستطيع بها أن تؤثر على أفكار الناس وأذواقهم وميولهم، عن طريق المؤسسات التعليمية والإعلامية والتثقيفية والترفيهية والتشريعية، وجلها ـ إن لم يكن كلها ـ في يد الدولة.
       ولكن الذي أؤكده أن الإسلام أول شيء يصيبه الأذى والضرر البالغ من جراء الاستبداد والطغيان.  وتاريخنا الحديث والمعاصر ينطق بأن الإسلام لا ينتعش ويزدهر، ويدخل إلى العقول والقلوب، ويؤثر في الأفراد والجماعات، إلا في ظل الحرية التي يستطيع الناس فيها أن يعبروا عن أنفسهم، وأن يقولوا: (لا) و(نعم) إذا أرادوا ولمن أرادوا، دون أن يمسهم أذى أو ينالهم اضطهاد.
     كما أثبت التاريخ الحديث والمعاصر أن الدعوة إلى الإسلام، إنما تضمر وتنكمش حين يطغى الاستبداد، أو يستبد الطغيان. ولولا الاستبداد الذي استخدم الحديد والنار، ما تمكنت العلمانية في تركيا من فرض سلطانها على التعليم والتشريع والإعلام والحياة الاجتماعية كلها، على الرغم من معارضة الجماهير الإسلامية الغفيرة، والتي لم يستطع الحكم العلماني بعد حكم ستين سنة أن يستأصل جذورها الإسلامية، أو يخمد جذوتها. ومعظم أقطار الوطن العربي ـ والإسلامي ـ قد ابتليت بفئة من الحكام عناهم الشاعر بقوله:
أغاروا على الحكم في ليلة ففر الصباح ولم يرجع!
     القلوب تكرههم، والألسنة تدعو عليهم، والشعوب تترقب يوم الخلاص منهم لتجعله عيدا أكبر، ومع هذا يستفتى الشعب على حكمهم، فلا ينالون أقل من 99.999 (التسعات الخمس) المشهورة في كثير من بلادنا، وبلاد العالم الثالث المقهور المطحون.
     إن الاستبداد ليس مفسدًا للسياسة فحسب، بل هو كذلك مفسد للإدارة، مفسد للاقتصاد، مفسد للأخلاق، مفسد للدين، مفسد للحياة كلها. هو مفسد للإدارة، لأن الإدارة الصالحة هي التي تختار للمنصب القوي الأمين، الحفيظ العليم، وتضع الرجل المناسب في المكان المناسب، وتثيب المحسن وتعاقب المسيء.
    ولكن الاستبداد يقدم أهل الثقة عند الحاكم، لا أهل الكفاية والخبرة، ويقرب المحاسيب والمنافقين، على حساب أصحاب الخلق والدين.  وبهذا تضطرب الحياة وتختل الموازين، وتقرب الأمة من ساعة الهلاك، كما أشار إلى ذلك الحديث الصحيح: "إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة قيل: وكيف إضاعتها؟ قال: إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة".  وكما أن هناك ساعة عامة تطوى فيها صفحة البشرية كلها، توجد لكل أمة ساعة خاصة، يذهب فيها استقلالها وعزها، إذا أسندت أمورها إلى من لا يرعى أمانتها، ولا يقوم بحقها، ولا يتقي الله فيها.
       والاستبداد مفسد للاقتصاد، لأن كثيرا من الأموال لا تنفق في حقها، ولا توضع في موضعها، بل تذهب لحماية أمن الحاكمين، والتنكيل بخصومهم في الداخل وتدبير المؤامرات لأعدائهم في الخارج، وتكثيف الدعاية لأشخاصهم ونظامهم وتغطية ما يفشل من مشروعاتهم التي لم تأخذ حقها من الدرس، أو درست وضرب عرض الحائط بآراء الخبراء والدارسين، وتمويل المغامرات الجنونية الحربية والسياسية لإرضاء طموح الزعيم في فتح البلاد، وقهر العباد! وخراب المؤسسات العامة، وتفاقم خسائرها السنوية نتيجة سوء الإدارة، وشيوع ألوان النهب والسرقات، المكشوفة والمقنعة، لأموال الشعب، وانتشار الرشوة باسمها الخاص أو باسم العمولات والهدايا، والتستر على صفقات مريبة يكسب أفراد من ورائها ملايين، ويخسر الشعب من ورائها ملايين؟ والوقوع في شراك قروض وديون لا تبني بها صناعة ثقيلة، ولا قواعد إنتاجية، ولكن تنفق في أمور استهلاكية، لا تغني من فقر، ولا تقدم لغد، وهذا كله يؤدي إلى خلق حالة من اليأس والإحباط وعدم المبالاة لدى الفرد العادي، يؤثر في مردود الإنتاج، ومسيرة التنمية كلها.
      يحدث كل هذا في غيبة الحرية والشورى الحقيقية، فلا معارضة ولا صحافة ولا ضمانات، حتى منبر المسجد نفسه لا يستطيع أن يأمر بمعروف، أو ينهى عن منكر لأنه لو فعل كان تدخلا في السياسة ولا دين في السياسة، ولا سياسة في الدين!
     وإذا قرر الزعيم أمرا، فليس من حق أحد أن يسأله: لم؟ بله أن يقول له: لا، فليس في الشعب أحد مثله ذكاء عقل، وشفافية قلب، وحسن إدراك للعواقب وإحاطة بالأمر من جميع الجوانب، فهو العلامة في كل فن، والفهامة في كل شيء وأما من حوله فمهمتهم أن يؤمنوا إذا دعا، وأن يصدقوا إذا ادعى. من اجترأ واعترض، فيا ويله ماذا يلقى، لأنه باعتراضه يصبح عدو الحرية ولا حرية لأعداء الحرية!
      والاستبداد مفسد للأخلاق، إذ لا ينفق في سوق الاستبداد إلا بضائع النفاق والملق والجبن والذل والخنوع، وهي الرذائل التي تقتل العزة في الأنفس، والشجاعة في القلوب، وتميت الرجولة في الشباب، وفي هذا دمار الأمم، وفي الحديث: "إذا رأيت أمتي تهاب أن تقول للظالم، يا ظالم فقد تودع منهم" فكيف إذا كان الاستبداد يلقنها كل يوم أن تقول للظالم: أيها البطل المنقذ العظيم؟!
     والحديث الشريف يقول: "احثوا في وجوه المدّاحين التراب" ولكن هؤلاء المداحين المطبلين في مواكب النفاق هم أول المحظوظين والمقربين!
              والاستبداد كثيرا ما يتغاضى عن المجرم والمنحرف إذا كان من أنصاره فهو يظله ويستره، فإذا انكشف حماه ودافع عنه، ليعلم أتباعه دوما أن ظهرهم مسنود وأن ذنبهم مغفور، على نحو ما قال الشاعر قديما:
·       وإذا الحبيب أتى بذنب واحد جاءت محاسنه بألف شفيع!
     وفي المقابل يحسن الكثيرون من غير أنصاره فلا يثابون ولا يكافئون، وقد تعمدت أن أقول: من غير أنصاره، لأفهم أنهم ليسوا من خصومه وأعدائه، ولكن شعار الاستبداد دائما: من ليس معنا فهو علينا، أكثر من ذلك: أن يأخذ القاعد المتبطل مكافأة العامل المجد، وأن يعاقب البريء بدل المسيء! وتلك هي الطامة الكبرى.
     والاستبداد بعد ذلك مفسد للدين أيضا، لأنه يعادي التدين الصحيح الذي ينير العقول، ويبين الحقوق، ويقيم العدل، ويرفض الظلم، ويربي المؤمنين على قول الحق، ومقاومة الباطل، وبجرئهم على أن يأمروا بالمعروف، وينهوا عن المنكر، ويعتبر أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر، وفي مقابل هذا يبارك الاستبداد التدين المغشوش تدين الموالد والأضرحة، والنذور، وصيحات المجاذيب، وحلقات الدراويش، وما إلى ذلك من ألوان التدين السلبي الذي ينعزل صاحبه عن المجتمع ومشكلاته والأمة وقضاياها، وحسبه ـ إن كان مخلصا ـ أن يبحث عن النشوة الروحية لنفسه، تاركا الطغيان يفعل ما يشاء، مردودا قول من قال: أقام العباد فيما أراد!
      ولهذا ترى الحكام المستبدين يحرصون على حضور احتفالات التدين الزائف، ويدعمون مؤسساته، ويقفون وراء المزيفين من المشايخ المتحدثين باسمها، ليتخذوا منها أداة لضرب تيار الصحوة الإسلامية الحي المتحرك.
      أما هذا التيار الإسلامي الحقيقي فلا يجهل أحد أن ـ دون غيره من التيارات اليمينية واليسارية ـ لقي من مظالم الاستبداد وطغيان زبانيته، ما تقشعر من مجرد ذكره الجلود.  ولا دواء لداء الاستبداد إلا بالرجوع إلى نظام الشورى، والنصيحة، الذي جاء به الإسلام، مستفيدين من كل الصيغ والضمانات التي انتهت إليها الديمقراطية الحديثة.  وهنا يجب أن نوعي الجماهير، ونربي النخبة على معان مهمة، وقيم أصيلة، وأحكام شرعية بينة، طالما أخفيت عنه، أو أهمل بيانها ودعوة الناس إليها.
     يجب أن تقوم التوعية والتربية على مقاومة روح السلبية، والجبرية السياسية، التي تؤمن بأن ما تريده الحكومة نافذ، كأنه قدر الله الذي لا يرد، وقضاؤه الذي لا يغلب، فإن الحكومات من إفراز الشعوب، وقد ورد في الأثر "كما تكونوا يول عليكم" فإذا غيرنا ما بأنفسنا من الأفكار والمخاوف تغيرت حكوماتنا.
      يجب أن تقاوم روح اليأس والانهزامية المميتة، التي تشيع بين الناس، أن لا فائدة، ولا أمل في تغيير أو إصلاح، وأن الذي يأتي أسوأ من الذي يذهب فهذه الروح الانهزامية منافية لمنطق الحياة التي يعقب الله فيها النهار بعد الليل، والخصب بعد الجدب، ومنافية لمنطق الكفاح الذي نهضت به الأمم، وسادت به الشعوب، وهي ـ قبل ذلك كله ـ منافية لمنطق الإيمان الذي يرفض اليأس ويعتبره من دلائل الكفر (فإنه لا ييئس من روح الله إلا القوم الكافرون).
         يجب أن نعلم الشعب أن الساكت عن الحق كالناطق بالباطل، وأن الساكت عن الحق شيطان أخرس، وأن نحيي بين الناس الفريضة الإسلامية العظيمة: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والنصيحة لأئمة المسلمين وعامتهم، وأن أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر، وأن الأمة إذا هابت أن تقول للظالم: يا ظالم، فقد تودع منها، وبطن الأرض خير لها من ظهرها، هذا مع رعاية الأدب والرفق في الدعوة والخطاب والأمر والنهي، اتباعا لما أمر الله به موسى وهارون حين أرسلهما إلى فرعون، فأوصاهما بقوله: (فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى)
     يجب أن نوعي الجماهير أن الشعوب مسئولة مع حكامها، إذا هي مشت في ركابهم، ولم تقل لهم (لا) حيث يجب أن تقال، فقد ذم الله قوم فرعون بقوله (فاستخف قومه فأطاعوه، إنهم كانوا قوما فاسقين) (سورة الزخرف:54) وقال نبي الله صالح لقومه ثمود (فاتقوا الله وأطيعون، ولا تطيعوا أمر المسرفين الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون) (سورة الشعراء:151).
     يكمل ذلك أن يعلم كل الناس أن أعوان الظلمة معهم في جهنم، وأن مجرد الركون إليهم موجب لسخط الله تعالى وعذابه (ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار) (سورة هود:113)
      حكوا عن الإمام أحمد أنه حين سجن وعذب في محنة القول بخلق القرآن سأله سجّانه عن الأحاديث التي وردت في وعيد أعوان الظلمة، فقال: هي صحيحة.   فقال السجّان: وهل تراني من أعوان الظلمة؟ قال الإمام: لا. أعوان الظلمة من يخيط لك ثوبك، أو يقضي لك حاجتك أما أنت فمن الظلمة أنفسهم!
      أن نعلم الجماهير أن الانتخاب (شهادة) والشهادة لا يجوز كتمانها ولا التخلف عن أدائها، كما قال الله تعالى (ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا) (سورة البقرة:282) (ولا تكتموا الشهادة، ومن يكتمها فإنه آثم قلبه) (سورة البقرة:283) فإن آفة الانتخابات في كثير من بلادنا أن جمهرة الناس لا يذهبون للإدلاء بأصواتهم، لاعتقادهم أن الحكومة ستفعل ما تريد!  كما يجب أن يعي الناس: أن الذي ينتخب غير الصالح، أو ينتخب شخصا وهناك من هو أولى منه قوة وأمانة، وحفظا وعلما، قد خان الله ورسوله وجماعة المؤمنين، ولم يقم بحق (الشهادة) التي ائتمن عليها، بل (شهد زورا) وشهادة الزور من أكبر الكبائر، حتى قرنها القرآن بعبادة الأوثان (فاجتنبوا الرجس من الأوثان، واجتنبوا قول الزور) (سورة الحج:30) وإذا كان هذا التغليظ في الحقوق الفردية، فهو في حقوق الأمة أغلظ وأكبر في الإثم، لما يترتب عليه من تضييع الأمانة، وتوسيد الأمر إلى غير أهله وفيه الهلاك والدمار للأمة.

·       وأود أن أذكر هنا أن الطغاة والمستبدين لن يدعوا التيار الإسلامي يقوم بما يريد من توعية وتربية للأمة يكون حصادها التمرد على أولئك المتسلطين.   ولكن إصرار المؤمنين ـ مع الحكمة اللازمة ـ سيذيب الحواجز ويتخطى كل العقبات، لأن إرادتهم من إرادة الله، والله ولي المؤمنين

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

تلخيص كتاب منهج البحث التاريخي للدكتور د. حسن عثمان

الكلمات النورانية: وتحمل الكل

الإسلام وتعلم اللغات الأجنبية