أعرفت أنّك بالمدينة؟


 
تعد الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة من أبرز الجامعات في العالم تأثيراً؛ فقد انتشر طلابها في كل أنحاء العالم لينقلوا العلم الشرعي والعقيدة السلفية الصحيحة التي تعلموها في المدينة المنورة إلى بلادهم أو إلى أي وجهة اتجهوا إليها. فهنيئاً للمدينة المنورة جامعتها والشكر موصول لولاة الأمر لإنشائهم هذه الجامعة ودعمها المستمر. وقد حظيت الجامعة الإسلامية وما تزال بنخبة من أهل العلم الشرعي الذين يشهد لهم بالعلم والاستقامة والفضل من شتى أرجاء العالم الإسلامي.

ومن العلماء الذين قاموا بالتدريس في الجامعة الإسلامية الشيخ الدكتور عبد الفتّاح  العشماوي رحمه الله تعالى الذي كان يدرّس الحديث. وقد كان للشيخ محاضرة سنوية في رحاب الجامعة ومن أشهر محاضراته "مفاتح الغيب الخمسة"ومحاضرته "أعرفت أنّك في المدينة؟" التي سأتحدث عنها هنا.

لقد استمعت إلى المحاضرة مسجلة في شريط قبل سنتين أو أكثر من انتقالي للعمل في المدينة المنورة فوجدتها محاضرة رائعة تشجع على العيش في المدينة المنورة والانتقال إليها مع التأكيد على آداب جوار المصطفى صلى الله عليه وسلم فهو جوهر المحاضرة لما رآه الشيخ رحمه الله من سلوكيات مخالفة لأدب الجوار في مدينة المصطفى صلى الله عليه وسلم، وغَيْرَة على محارم الله عز وجل. وها أنا بعد سنوات من إلقاء المحاضرة أعود إليها لأنقل إلى القراء الكرام طرفاً من هذه المحاضرة العظيمة. وأبدأ بالقول إن الشيخ رحمه الله أحب المدينة حباً عظيماً وقد وصل سنّ التقاعد فعاد إلى بلاده (مصر)، ولكنه اشتاق للمدينة بعد مدة فعاد للزيارة فمرض وتوفي في المدينة رحمه الله رحمة واسعة ودفن بها.

أما المحاضرة فإنه تحدث فيها عن المدينة المنورة ما قبل البعثة ثم تناول بالحديث المدينة المنورة بعد البعثة وبعد الهجرة الشريفة. وأورد المحاضر الكريم نصوصاً اجتهد في البحث عنها في مظانها والتأكد من صحتها سنداً ومتناً. وقد ترك عرض أسانيد ما نقل لأنه اجتهد ألّا ينقل إلاّ الصحيح أو المتفق عليه وحرصاً على الإفادة من الوقت.

ومن هذه الأحاديث ما يأتي:

* (تفتح اليمن فيأتي قوم يبسّون (أي يرغبون في الخروج) فيتحملون بأهليهم ومن أطاعهم والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون)

·       (المدينة مهاجري ومنها مبعثي وبها قبري وأهلها جيراني، ومن لم يحفظ وصيتي في جيراني سقاه الله من طينة الخبال)

·       (هذه أرواح طيبة ..هي ريح طيبة اللهم من أرادني وأهل بلدي بسوء فعجل هلاكه ومن نعاها ( أي عابها بشيء) وكادها بسوء أذابه الله كما يذوب الملح في الماء ، أو كما يذوب الرصاص في النار)

·       (من خفر فيها مسلماً (أي ظَلَمه) فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين)

·       (اللهم إني أسألك للمدينة ضعفي ما جعلت لمكة من البركة)

·       (اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد)

·       (ليعودن هذا الأمر إلى المدينة كما بدأ حتى لا يكون إيمان إلاّ بها)

·        (لا يثبت أحد لأوائها وجهدها إلاّ كنت له شفيعاً أو شهيداً يوم القيامة)

وتناولت المحاضرة فضل الصلاة في المسجد النبوي الشريف وسواري المسجد وما في الصلاة عندها من فضل وهي التي يجهلها كثير من الناس الآن. كما تحدث عن مسجد قباء وما جاء من الفضل من الصلاة فيه حتى عدّه الشيخ الحرم الثالث. ثم تناول الحديث عن بقيع الغرقد وفضله وطريقة زيارته وما أحدث البعض من البدع في زيارته.

 وتحدث عن العقيق فذكر حديث الرسول صلى الله عليه وسلم (أتاني الليلة آت من ربي عز وجل فقال: صل في هذا الوادي المبارك. وقل حجة في عمرة) (رواه البخاري). وقوله صلى الله عليه وسلم (إني أحب العقيق) وقد ذكر الشيخ أن العقيق كان في يوم الأيام مزدحماً بالسكان حتى وصل عدد سكانه أربعين ألف نسمة وازدهر البناء والعمران فيه وانتشرت فيه البساتين الغنّاء والحقول


                       

تناولت في الأسطر السابقة جانباً من محاضرة الشيخ العشماوي رحمه الله وأكمل اليوم ما تبقى منها، وكم كنت أود لو طبعت هذه المحاضرة مع تخريج أحاديثها التي نقلها الشيخ. وأتساءل أين تلاميذ الشيخ من مثل هذا العمل الكريم الذي يكتب لهم وللشيخ أجره بإذن الله. ولعل الجامعة الإسلامية المحبة للمدينة المنورة تقوم بهذا العمل المبارك ويمكن أن يسهم مركز بحوث المدينة المنورة بهذا العمل الكريم.

وتحقيقاً لعنوان المحاضرة (أ عرفت أنّك بالمدينة) فقد تضمنت المحاضرة انتقاد الشيخ رحمه الله أنواعٍ من السلوك الشائن من بعض الوافدين أو الذين استوطنوا المدينة حتى أصبحوا من أهلها حين انقرض أهلها الأصليون أو كادوا. وتكلم عن المدخنين للسجائر أو الجراك. وتحدث عن النساء وتبرج بعضهن في أنحاء المدينة وبخاصة حول الحرم النبوي الشريف. وما آل إليه المسجد عند البعض من عدم احترام قدسية المسجد ونظافته باصطحاب أطفالهن.

وتحدث عن حدوث سرقات في المدينة المنورة التي لم يكن يُسمع بها رغم ما تبذله الجهات الأمنية من جهود مباركة في الحفاظ على الأمن. ولكن تنوع الوافدين ونقلهم لأنواع من السلوك لم تعرفه المدينة من قبل أدى إلى حدوث هذه التجاوزات. وذكر عن بعض الوافدين شكواهم من المدينة المنورة فذكر أن بعضهم يقول: المدينة باردة جداً ونسي كم قتل البرد في بلاد أخرى، وبعضهم يقول المدينة شديدة الحر، وكم قتل الحر في غيرها من البلاد، ويقول بعضهم المدينة شديدة الغلاء مسكناً ومطعماً وأن صحتهم توعكت في المدينة ولا يكادون يذكرون لها حسنة واحدة.

وختم الشيخ محاضرته بما ورد من ذكر للمدينة في القرآن الكريم (وقل ربي أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق واجعل لي من لدنك سلطاناً نصيراً) الآية صيغة دعاء أمر الله رسوله أن يدعو به ودخول المدينة في الهجرة والخروج منها لفتح مكة. والسلطان النصير من الأنصار والمهاجرين الذين خرجوا من المدينة ليفتحوا الدنيا وينيروها بنور الإيمان.وتناول الوجوه الأخرى لتفسير هذه الآية الكريمة وآية أخرى ذكرت المدينة المنورة.

وما كان لمحاضرة عن المدينة أن تخلو من الحديث عن ساكنها حياً وميتاً صلى الله عليه وسلم  واكتفى الشيخ بكلمات لبعض المستشرقين الذين تناولوا حياة المصطفى صلى الله عليه وسلم ومنهم ألفونس الفرنسي: "إن حياة مثل حياة محمد وقوة كقوة تفكيره وجهاده ووثبته على خرافات قومه وبأسه فيما لقيه من عبدة الأوثان، وإيمانه بالظفر بإعلاء كلمته ورباطة جأشه لتثبيت عقيدته، إن كل ذلك أدلة على أنه لم يكن يضمر خداعاً، أو يعيش على باطل فهو هادي الإنسان إلى العقل وناشر العقائد المعقولة الموافقة للذهن واللب ومؤسس دين لا فردية فيه ومنشئ عشرين دولة في الأرض وفاتح دولة السماء من ناحية الروح والفؤاد. فأي رجل أدرك من العظمة الإنسانية مثل ما أدرك وأي إنسان بلغ من مراتب الكمال مثلما بلغ" أ.هـ.

ويقول توري وجورج في كتابهما العالم الشرقي:" كان محمد شجاعاً يخوض المعركة بنفسه وفي نفس الوقت كان رحيماً بالضعفاء. وكان مع احتفاظه بهيبته كاملة بسيط الحركات لا يتكلف شيئاً. وكان محمد رجلاً حمل إلى الناس مثلاً رفيعاً من الدين والخلاق وسما سمواً بالغاً عن الآراء القديمة التي كانوا يرزحون تحت ثقلها " ويعلق الشيخ العشماوي:" فما أعظم شهادة الكافر إذا جرى كلامه بالحق على غير إرادته.

وأختم المقالة ببعض الأبيات التي اعتاد الشيخ أن يختم بها محاضراته ومنها:

أ عرفتَ أنّك بالمدينة عندما

                تُلقي التحية للرسـول مُسَلّما

وعلى رفيقِ الغار نام بجنبـه      

        وعلى مُعِزّ الدين ساعة أسلما

فتقول نعم الصاحبان ترافقا     

        في قبر خير الخلق قُلْها مُقْسِما

وإذا رجاؤك قد تحقق حينما    

        أَلْفَيْتَ نفسَك ساجداً أو قائما

في مسجد ضم النبي وصحبه   

        وجليسه جبريل حزت الأنعما

أو بعد هذا تستبيح حبيبـة              

              عند الإلـه تكون عبـداً آثما

يا درة الإسلام طيبي خاطراً

                سترين من يؤذيك يوماً نادما

فكما بدأت يعود مجدك ثانياً   

         ويكون حكمك في البرية حاسما.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

تلخيص كتاب منهج البحث التاريخي للدكتور د. حسن عثمان

الكلمات النورانية: وتحمل الكل

الإسلام وتعلم اللغات الأجنبية