تريد أن تحفظ آية الكرسي([1])


                           بسم الله الرحمن الرحيم


                             

                            

عجوز في السبعين أسرت لابنها ألا تساعدني أن أحفظ آية الكرسي؟ تعجبت من هذا الطلب فهل تستطيع أن تحفظها بالفعل وهي عندما دخلت الكتّاب في بداية حياتها لم تستطع أن تتجاوز بضع دروس في اللغة العربية ثم اضطرت إلى ترك الكتّاب. ولكن هذه العجوز استطاعت أن تربي أبناءً وصل أكثر من واحد منهم إلى درجة الدكتوراه ولدى أحد أبنائها من المؤلفات ما يزيد على العشرة مؤلفات. (زادت على العشرين الآن)

كانت هذه الأم تحرص على أن يتعلم أبناؤها فكانت تسألهم عما درسوه في المدرسة كما تسألهم عن درجاتهم في الامتحانات. وكانت تعرف أن مائة درجة هي أعلى درجة يحصل عليها فإذا ما أخبرها الابن أنه حصل على تسعين أو خمسة وتسعين تغضب منه. وكان يخبرها بصدق إما خوفاً أنها ستقرأ النتيجة أو لأنه تربّى على قول الصدق. وكانت تنظر في أوراق الامتحانات وتعرف الفرق بين علامة الصح والخطأ فتغضب إن رأت علامات الخطأ في الورقة.

ولحرصها الشديد على متابعة أبنائها وهي الأمية التي لا تقرأ ولا تكتب ظن أبناؤها أنها قادرة على القراءة والكتابة ولم يكتشف أكبر أبنائها أنها أميّة حتى بلغ الصف السادس الابتدائي. ولكن هل الأمية عيب في حد ذاتها ؟ لو رجعنا إلى طريقة تربيتها لأبنائها لوجدنا أنها كانت أقدر من كثير من حملة الشهادات العليا في هذه الأيام.

ومن الأمثلة على قدرتها على التربية أنها حرصت أن تغرس فيهم عزة النفس والإباء ففي الوقت الذي كانت تعاني وأبناءها من الفقر والفقر ليس عيباً- كان بعض أقاربها يعيشون في بحبوحة من العيش. فإذا اصطحبت أبناءها معها كانوا غاية في الأخلاق والهدوء لا يعبثون بأثاث المنزل الذي يزورونه ولا يظهرون رغبتهم فيما في أيدي أقرانهم من الحلوى والفواكه. وكانت مضرب المثل حتى إذا تفوق أبناؤها في الدراسة أصبحت نساء العائلة يسخرن منها: هذه الأم الأمية استطاع أبناؤها أن يكونوا متفوقين وبعض القريبات لها كن نساء متعلمات ويأتين بالمدرسين الخصوصيين لأبنائهن في المنـزل ومع ذلك يرسبون أو إذا نجحوا كان النجاح بدرجة مقبول في أحسن الأحوال.

ومن مزايا هذه العجوز السبعينية أنها ظلت تدعو أبناءها إلى أن يحب بعضهم بعضاً فإذا رأت من أحدهم ظلماً لأخيه أو أخته حاسبته بشدة. ومن وسائلها في التقريب بينهم وإزالة الخصومات أنها تعرف من من أبنائها أكثر طاعة لها فتلزمه بالتنازل حتى لو كان محقاً، وتقول له أعرف أنك على حق ولكن اذهب من أجلي وز أخاك.

وعندما صدرت مجلة حياتي وكانت مجلة جادة عزمت على دعوة رئيسة التحرير لتبعث إحدى المحررات لزيارة هذه العجوز لتجري معها حديثاً حول تربيتها لأبنائها وحول حياتها وتعاملها مع أقاربها. فليست الحكمة حكراً على الذين يقرؤون ويكتبون. وقد قال الحق سبحانه وتعالى(ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً) ولا تأتي الحكمة من الكتب والدراسة. وأذكر أن إحدى مسرحيات شكسبير تتحدث عن أخوين أحدهما غارق في الكتب والمؤلفات والثاني عامي أو شبه عامي ولكن الأخير هو الأكثر حكمة والأكثر رزانة والأكثر قدرة على التعامل مع الناس. حتى أصبحت قصتهما مثار عجب الناس.

فمن كانت عنده عجوز في مثل هذا السن فليحرص على رضاها وليحرص على التقرب منها فليس كل من بلغ السبعين أصابه الخرف. ومن الطريف أنه رغم كل تلك السنين فإن لها ذاكرة عجيبة لبعض مراحل حياتها ولبعض الأقوال والأشعار والأهاجيز. ومن ذلك أنها رددت أمامي ذات مرة:            شُم الورد وكل تفاح وخلي بالك دايماً مرتاح

                داوي الحاضر بالحاضر ولا تندم على اللي راح.

أليس في هذا ما جاء في الآية الكريمة (لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم)

 



[1] هذا المقال مهدى إلى والدتي التي لا تعرف القراءة ولا الكتابة (أميّة) رحمها الله رحمة واسعة
 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

تلخيص كتاب منهج البحث التاريخي للدكتور د. حسن عثمان

الكلمات النورانية: وتحمل الكل

الإسلام وتعلم اللغات الأجنبية