أكره الوداع وأهرب منه


هل صحيح أنني أودع إكستر ...؟

ودعت في حياتي كثيراً واستقبلت كثيراً...

      كان أول وداع في حياتي وداعاً رسمياً حين صدر قرار ابتعاثي من التعليم الفني بوزارة المعارف إلى الولايات المتحدة الأمريكية لدراسة الإدارة الصناعية. فاجتمعت الأسرة ليلة السفر وكانت حفلة كبيرة اجتمع فيها أهلي والدي ووالدتي رحمهما الله ، وعمي عصام وخالتي نظيرة رحمهما الله وجدتي أم عصام رحمها الله. وكانت سهرتنا تلك الليلة في الدكّة –وهي مجلس يطل على حديقة المنزل، وكان في السابق أول مجلس حين تدخل بيوت المدينة القديمة. حين كانت لنا حديقة صغيرة فيها بعض الأشجار والشجيرات. وكانت عواطفهم وأحاسيسهم قوية يودعون ابناً نجيباً سيغادر إلى العالم الجديد للعلم والدراسة..وكانوا مع الوداع كرماء حيث تلقيت بضع هدايا نقدية..وكان النقد عزيزاً في تلك الأيام حيث تخرجت في الثانوية العامة ولم لدي مصروف محدد ولم أعرف كيف أكون مسؤولاً عن نفسي ..حتى مقصف المدرسة أو البوفيه فلم أعرف طريقه طيلة ثلاث سنوات، وها أنا الآن في يدي المال لأنفق على نفسي..

        ودعتهم وتطلعاتي إلى الأمام إلى البعيد المجهول أكثر من اهتمامي بالماضي الذي أودع أو الناس الذين جاءوا ليسلموا علي..فهل الحماسة للذهاب إلى أمريكا أنستني أهمية تلك اللحظات ؟

وتكرر الوداع في كل مرة أعود فيها من أمريكا ثم أغادر المدينة مجدداً وهم ينتظرون قرب اليوم الذي أحصل فيه على الشهادة....

ومرت خمس سنوات ورجعت بلا شهادة...

وكان لقاء والدي وأهلي لي عظيماً فقد ظنوا أنني حصلت على شهادة، وأما أنا فقد كنت في عالم آخر ...كنت قد تأثرت بموجة التمرد على الشهادات وعلى جوانب في التعليم الجامعي، وكانت قد دارت مراسلات بيني وبين أبي لمحت إلى مثل هذه الآراء، ومع ذلك لم يكن يتوقع أن يعود ابنه فاشلاً فأقيمت حفلة كبيرة لتكريمي، وبعد أن انتهت الحفلة عرف والدي رحمه الله أنه ليس معي شهادة. فاختلى بنفسه وبكى بكاءً حاراً فهذا ابنه معقد الأمل ومحل الرجاء يعود خائباً...ثم فكر قليلاً وحاول أن يواسى نفسه أن ابنه عاد سليماً معافى فلم يصبح مدمن مخدرات أو مدمن خمور ، وهذه ليست نهاية الدنيا.. ولمّا بدأت البحث عن وظيفة علمت كم هي مهمة تلك الورقة التي يسمونها الشهادة حتى لو كانت من أتفه الجامعات فقد كانت كافية للحصول على الوظيفة.

وأراد الله أن يفتح الانتساب بجامعة الملك عبد العزيز عام 1394هـ فالتحقت بقسم التاريخ بكلية الآداب وكان أن حصلت على وظيفة مساعد إداري في الخطوط السعودية بعد معاناة طويلة مع الواسطات والرجاءات، ولكنها كانت وظيفة جيدة وكانت الخطوط السعودية في ذلك الوقت من أفضل الجهات في امتيازات الموظفين وفي التشجيع على الدراسة.
وحدث وداع آخر في حياتي وكان مؤلماً حقاً حين وجدت غيث وأروى بلا أم أو مع زوجة أب فكتبت كلمات أصف تلك الحالة ومما أذكر أنني كتبت في تلك اللحظات ....."قتلت ابني وابنتي حين حرمتهما من أمهما ..ماذا سيقول صغيراي غداً عندما يناديان أمي أمي فلا جواب..ستجيبهم امرأة أخرى تزعم لهما أنها أمهما أو في مقام الأم وهيهات هيهات... وكانت لحظات لا أستطيع وصف مشاعري وقتها ... ولم يكن حزني على نفسي أن أعود إلى حياة المطلَّق مرة أخرى بقدر حزني على الصغيرين الذين كنت أصفهما بالوليفين لتقاربهما في السن فلم يكن الفرق بينهما سوى سنة وشهران فقط

وعانى غيث وأروى أشياء لم أعرفها على الرغم من أنني حاولت أن أعوضهما فَقْدَ الأم حيث كنت أقوم بدور الأم والأب في آن، وحرصت على أن لا يغيبا كثيراً عن أمهما فقد كنت أعيش في جدة ووالدتهما في المدينة فكنت أسافر بهما كل أسبوعين أو ثلاثة وكانت فرصة لي لزيارة أبواي في المدينة فما أن نصل المدينة حتى أوصلهما إلى أمهما، وأعود إليهما بعد يومين أو ثلاثة ...ولكن كم من الآلام عاشا وعاشت أمهما ..فأحمد الله أن أصبح غيث الآن طبيباً وأروى أماً لستة أبناء ثلاثة بنات خديجة وخلود وناجية وأحمد ومازن وحمزة. وثمة وداع ثالث كان الأشد إيلاماً فما زالت لحظاته ماثلة أمامي ناظري وهو عندما ودّعت أبي وهو مسافر إلى بريطانيا للعلاج فكان منظره يوحي بأنه لن يعود إلى المدينة المنورة، وكان حزن تلك اللحظات يؤكد أنه الوداع الأخير حتى إن تلك اللحظات الصعبة كانت تمهيداً لما حدث بعدها من علمنا بخبر وفاته رحمه الله بعد العملية الجراحية التي أجريت له في القلب.

ودّعت أبي في مطار المدينة المنورة ..ووداعي لأبي ليس كأي وداع آخر .. لقد كنت قريباً إليه رحمه الله قرباً خاصاً، وسأبدأ من السنوات الأولى فقد استقبلني بحب كبير واختار لي اسماً لقبيلة عرفت بالعزة والمكانة بين العرب فهي قبيلة مازن وكان يردد بيت الشعر الذي يدل على ذلك:

لو كنت من مازن لم تستبح*** إبلي بنو اللقيطة من ذهل بن شيبان

أحبني رحمه الله وكان كريماً في التربية بل أعتقد أن له فلسفة خاصة في التربية أو إنها كانت بعد نظر وعمق فكر وفراسة... لا أدري كان يعطيني من الثقة ما لا يمكن أن أتخيله..وعلى الرغم من قوة شخصيته والمهابة التي أعطاه الله إياها لكنه كان رحب الصدر يسمع للنقاش والرأي المخالف لرأيه بل كان يعجبه أن يكون لأبنائه رأياً..

عدت من المدرسة ذات يوم وكنت في الصف الثالث الابتدائي منتقداً أن المدرسة كلّفت أستاذ التربية البدنية بتدريس المواد جميعها، فما كان من أبي رحمه الله إلاّ أن حضر إلى المدرسة في اليوم التالي ليخبر المدير بما قلت، فاستدعاني المدير لأقول هذا الرأي أمام الأساتذة... ثم شرح لي أن الأستاذ في الأصل مؤهل لتدريس جميع المواد... فهل بربكم هناك أب يسمع أو يسمح لابنه أن ينتقد المدرسة ثم لا يكتفي بذلك بل يشجع ابنه على أن يقول رأيه أمام الجميع؟ أين نظريات التربية التي ندرسها ونفخر بأننا ابتعثنا المئات أو الآلاف لدراستها في الغرب من هذه التربية الرائعة...

وكان يصر على أن أحمل هدية بعد ظهور النتائج لأستاذ الفصل لتربتي على أهمية العناية بالأستاذ وإكرامه... لقد كان مطمئناً إلى مستواي العلمي وواثقاً بنزاهة المعلمين، وما كان في أيامنا من يشكك في تلك النزاهة ... لقد خربت كثير من الضمائر بعد ذلك الزمن..

وبعد عودتي من أمريكا بدأت الكتابة الصحفية بمقالة في صحيفة المدينة المنورة بعنوان (عندما تصبح القيم فريسة للحياة المادية) ثم تجرأت وبعثت بمقالة إلى مجلة المجتمع بعنوان (مشاهدات عائد من أمريكا: وحيث ضاعت الروح) فنشر فتجرأت وأرسلت مقالة أخرى ثم ثالثة...وفي يوم من الأيام استشهد الأستاذ أحمد محمد جمال رحمه الله ببعض ما قلت في تلك المقالات. فقال لي والدي رحمه الله هذه شهادة مهمة من كاتب كبير لكاتب مبتدئ مما يدل على أنه قرأ ما كتبت وأعجبه.. لم أفهم معنى تلك الإشارة حتى دخلت سلك التدريس الجامعي الذي يعتني بمثل هذه الاستشهادات (يسمونها الاستشهاد العلمي) –هذا في الجامعات الراقية وليس في الجامعات العربية عموماً-

ثم كانت لي زاوية في ملحق المرأة بصحيفة المدينة المنورة بعنوان (كلمة رجل) فكان يعجبه العنوان، وكان رحمه الله ينظر إلى ما وراء الألفاظ، وكان يقرأ ولا يعلق ولكن نظرات الإعجاب والرضا لم يكن صعباً ادراكهما في لهجته أو نظراته.

وفي يوم من الأيام كنت أسير معه في أحد شوارع المدينة فقال لي لقد أخطأت – والمجتمع أيضاً مخطئ- حين كنت أصر على أن تكون طبيباً أو مهندسا، فالطبيب يمكن أن يعالج حتى عشرين مريضاً في اليوم، ويصبح العدد مائة وعشرين مريضاً، ثم يتكرر المرضى أنفسهم في الأيام التالية، والطبيب يعالج أمراض البدن أما الكاتب أو المفكر أو المصلح فيكتب المقالة فيقرأها عشرات الألوف، فالكاتب أبعد أثراً وأكثر نفعاً وأضاف إن صاحب الكلمة المكتوبة تبقى بعده أجيال وأجيال.

لقد كان وداعاً صعباً وإني أعترف أنني لا أحيد التصرف في هذه اللحظات حيث إنني أنسحب بسرعة ولا أنظر إلى الخلف لأشير لمن أودع، ويظن المودع أنني سرت مسرعاً لا أريد أن أراه مرة أخرى، ولكن الأمر فيما أعتقد أنني أفقد القدرة على التركيز في تلك اللحظات فأهرب بسرعة من المكان. ولكن منظر تلك اللحظات مازال ماثلاً أمامي وهو يدخل مبنى المطار أتخيله كأنه أمامي اللحظة..
وكلما تذكرت والدي –وكثيراً ما أتذكره- أتساءل هل كان موجوداً حقاً... هل كان لي أب يملأ علي الدنيا وكان قريباً مني وكنت قريباً منه حتى إنني في لحظات كنت أتخيل صعوبة الحياة بدونه أو حتى استحالة الحياة بدونه..

لقد كان لوالدي رحمه الله بصمات في حياتي لا يمكن أن أنساها، فهو الذي قادني إلى عالم المؤتمرات وهو الذي لم يدخل جامعة ولم يحضر المؤتمرات وربما لا يعرفها حقيقة. فقد اتصل بي أستاذ جزائري كبير هو الدكتور أبو القاسم سعد الله –كان مناقشاً لي في رسالة الماجستير وأسهم في إرشادي وتوجيهي في أثناء البحث- ليخبرني بأن المجلس الشعبي البلدي في قسنطينة بالجزائر سيعقد مؤتمرا بمناسبة يوم العلم وبإمكاني أن أتقدم بموضوع وسيوجهون لي الدعوة. وراسلتهم، وكانت الرسائل عبر البريديصل بعضه وكثير منه كان يضيع- فجاءتني الدعوة من خلال برقية وحتى إني ذهبت أنا ووالدي لتسلم البرقية. وهنا قال لي لا تنتظر أن يرسلوا إليك التذكرة، إن لم يكن معك قيمتها فاقترض مبلغا واشتر التذكرة وسافر... لم يكن في ذلك الوقت عوائق ضد سفر المحاضر على حسابه، لكن لم يكن متخيلاً أن الجامعة ترسلني على حسابها- فسافرت وشاركت في المؤتمر، ودعيت إلى المؤتمر في السنة التالية، ولقيت باحثاً من تونس فدعاني إلى حضور مؤتمر في تونس. فحضرت ثلاث مؤتمرات قبل أن أحصل على الدكتوراه وألقيت محاضرة عامة في النادي الأدبي قبل حصولي على الدكتوراه فلا نامت أعين الكسلاء... المثبطون الجهلاء....

******************************************************

كان لوالدي رحمه الله أثر في مسيرتي في الكتابة، فكانت نصيحته لي ذات يوم: اكتب ولا يهمك أن ينشر لك: في بريد القراء أو في أي صفحة من الصحيفة، سيأتي اليوم الذي تجد مقالك منشوراً في أهم صفحات الجريدة.. لم يضع والدي شروطاً ومنها مثلاً عليك أن تطور نفسك، كأنه كان رحمه الله من شدة الثقة التي أعطاني إياها يدرك أن هذا ما سأفعله. وتذكرته يوم أن أرسلت مقالة إلى صحيفة (المسلمون)، وكان رئيس تحريرها حينذاك الدكتور عبد القادر طاش رحمه الله تعالى، وكانت مقالتي بعنوان (لماذا يخوفون الغرب بالإسلام؟) وكان هذا عام 1410هـ (هذه من أول المقالات في الصحافة العربية التي تناولت الخوف من الإسلام) ونشرت المقالة في صفحة الرأي مع مقالات كبار الكتاب من أنحاء العالم الإسلامي. وقال لي الدكتور عبد القادر إنه اعتقد هو والدكتور بكر بصفر المشرف على صفحة الرأي أن تلك المقالة كانت من أفضل المقالات في تلك الصفحة. وذكرا أن من مزايا المقالة أنها تقدم حقائق وفكر ورأي، وليست مجرد خواطر ودردشة كما يفعل كثير من الكتاب.

ودعت والدي حين سافر إلى لندن، ثم ودعته بعد وفاته إلى رحمة الله ومازلت لا أعرف وداعاً أصعب منه.

ولكن وداعاً آخر حدث في عام 1421هـ(2001م) أعادني إلى لحظات الوداع الصعبة، وهو ما سأحكيه هنا..

في عام 1419هـ كان قد صدر قرار وكيل جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية د. سليمان أبا الخيل (مدير الجامعة حالياً) بإحالتي إلى العمل الإداري ومنعي من التدريس في كلية الدعوة بالمدينة المنورة. وكانت أوضاعي الأسرية قد تدهورت ووصلت إلى حد الطلاق بعد زواج دام اثنتين وعشرين سنة.

في تلك السنة كنت أنتظر إجراءات ترقيتي من أستاذ مساعد إلى أستاذ مشارك وكانت أوراقي متعثرة في أدراج عميد الكلية الدكتور علي بن دخيل الله الحازمي، فإذ بصديق يزورني ومعه الأخبار السارة : توقف عن النشاطات العلمية من مؤتمرات ومحاضرات وغير ذلك حتى يرضى عنك العميد ويرفع أوراق ترقيتك ويكتب تقريراً جيداً عنك- انظروا إلى المعايير العوجاء- وكنت حينها أنوي حضور مؤتمر مهم في إكستر في شهر مايو 2001م. ولكني خططت أن أسافر إلى إكستر عن طريق المغرب حيث أخطب فتاة مغربية في طريق سفري. وشاء الله أن أصل إلى المغرب وألغي فكرة حضور المؤتمر. فقضيت أسبوعاً في المغرب تعرفت إلى أهل خطيبتي وأهلها (زوجتي حالياً) ولكني اتصلت باثنين من الأساتذة في مدينة فاس لأقدم محاضرات حول الاستشراق لطلابهما وهما الدكتور حميد لحمر الإدريسي والدكتور حسن عزوزي. وبالفعل كانت المحاضرة الأولى في كلية الآداب بجامعة سيدي محمد بن عبد الله ب سايس بفاس لطلاب الدراسات العليا. والمحاضرة الثانية في اليوم نفسه بعد الظهر لطلاب كلية الشريعة. وحضرت خطيبتي المحاضرتين وحضر أخوها علي واحدة من المحاضرتين. وقال لها بعد المحاضرة كنت متردداً في الحضور فماذا عسى سعودي أن يقدم في محاضرة فكرية حول الاستشراق، ولكنه في الحقيقة يستحق أن يُسمع...

وخطيبتي كانت تعرفت إلي قبل أن أصل إلى المغرب من خلال موقع (مركز المدينة المنورة لدراسات وبحوث الاستشراق) في الإنترنت كما شاهدت محاضرة لي ألقتيها في مهرجان المدينة المنورة الثقافي لعام 1410 بعنوان (العولمة وهويتنا الثقافية) كما اطلعت على بعض مؤلفاتي. ومما شجع أهلها على قبول الخاطب أن الدكتور عبد السلام الهراس وهو نزيل فاس حضر معي في الخطبة وزكاني. والدكتور الهراس تعرفت إليه أول مرة في الجزائر في أول مؤتمر أحضره هناك. واستمرت الصلة بالمراسلات بيني وبينه وقابلته ذات مرة لقاءً قصيراً في مطار المدينة المنورة حين كان عضواً في المجلس الأعلى للجامعة الإسلامية (حين كان للجامعة مجلساً أعلى يضم علماء من أنحاء العالم الإسلامي قبل أن يقتصر المجلس على عدد من عمداء الكليات ووزير التعليم العالي)

وقضيت تسعة أيام بين الدار البيضاء وفاس، ولما حان موعد سفري بعد ذلك الأسبوع كان ذلك الوداع صعباً وحزيناً ... وإني ما زلت أتعجب كيف تنعقد الصلات بين الناس بهذه السرعة. وبعد أن أنهيت إجراءات السفر سرت دون أن ألتفت إلى الوراء –قلت هذا أحد عيوبي- ولكني كنت مذهولاً من صعوبة الموقف فهل أنا أكره لحظات الوداع؟ هل أفقد قدرتي على التركيز في تلك اللحظات؟ لماذا لم أتوقف وأنظر إلى مودعتي وألوح بيدي كما يفعل كل الناس؟ ولكن ربما هناك اختلاف في شخصيتي عن الآخرين؟ ربما هروباً أو تهرباً مني من تلك اللحظات؟ ربما لا أدري.

وها أنا أودع إكستر.. لقد جمعت هذه المدينة وبين أسرتي أوقاتاً لا يمكن أن تتوفر في أي بلد آخر، فالأوقات التي قضيتها مع هاشم وأم هاشم ثم فاطمة في أربعة أشهر تعادل ما يقضيه الزوج عادة مع أسرته وفي بتيه في سنوات. فلا حياة اجتماعية في إكستر قابلت أناس قليلين ولكن لم تنعقد الصلات بيني وبيهم إلى الدرجة التي نلتقي فيها خارج إطار الجامعة، فأخرج أحياناً أسير في الشارع الذي أقيم فيه وأنظر إلى البيوت ومنها بيت جاري أو الجيران فأقول أليس هناك أحد يهمه أن يعرف من هذا الغريب المقيم بيننا؟ من هذا الذي يخرج يومياً هو وزوجه المحجبة وأطفاله؟ لا أحد يريد أن يعرفك، ومن الصعب أن تفرض نفسك على الآخرين.

أودع إكستر بحزن شديد لأنني سأفتقد الخضرة التي أراها في كل مكان، ويفتقد هاشم الملاعب والحدائق القريبة والبعيدة. لقد أصبحت الملاعب جزءاً مهما من برنامجه اليومي ليصرف طاقته في المراجيح، أو الانزلاق على لعبة الانزلاق أو المشي على الحبل أو اللعبة بالكرة. فأين سأذهب بهاشم كل يوم في الرياض...

سأفتقد في إكستر الخدمات الطبية التي تستطيع أن تحصل على موعد مع الطبيب من خلال الاتصال الهاتفي- في أغلب الأحيان لا تستطيع أن تتحدث مع أحد في عيادات أعضاء هيئة التدريس هاتفياً- عليك أن تحضر بنفسك وتقود سيارتك أكثر من عشرين كيلومتراً ثم توقف السيارة وتمشي في حر الرياض اللاهب أكثر من ربع ساعة لتصل إلى الموظف وتطلب الموعد. ثم إن العيادات ليس فيها سوى طبيب عام واحد (بخلوا على الأساتذة بطبيب) فالطبيب العام تنتظره أكثر من أسبوعين، وقلت للموظف ذات مرة يجب أن أكون على علم بأنني سأمرض بعد أسبوعين أو ثلاثة فأطلب منكم الموعد؟

أما إن أردت طبيب عيون فعليك أن تنتظر عدة أشهر. وأتعجب كيف تهمل الجامعة عندنا علاج الأستاذ بهذا الشكل، فهو لو كان عاملاً في شركة متعاقدة مع مستشفى خاص يستطيع أن يرى أي طبيب متخصص خلال أيام. كدت أتوقف عن العمل لأن الأستاذ يحتاج نظره ليقرأ ويرى فكيف لا تعالجه الجامعة إلاّ بعد أربعة أو خمسة أشهر؟ أما لو أراد أن يرى طبيب قلب فمسكين قلب ذلك الأستاذ ليموت قبل أن يرى الطبيب..

سأفتقد في إكستر الاتصال بالإنترنت السريع المجاني – كنت محظوظاً أن أحد الجيران عنده اتصال بالإنترنت اللاسلكي ومفتوح ويعمل يومياً من السادسة صباحاً حتى العاشرة ليلاً- فعلي الآن أن أدفع فاتورة هاتف وانترنت بطيء والحمد لله على كل حال.

وداعاً إكستر ولكني سأعود إن شاء الله لأسمع الأذان –حبذا لو تعاقدوا في الرياض مع مؤذنين حسني الأصوات – وستكون الفرصة للصلاة الجماعة في أغلب الصلوات، وسأعود إن شاء الله لأرى الزملاء والطلاب ومن يهمه أن يعرف عن الاستشراق.

وداعاً إكستر ولكني سأعود لأرى مديني الحبيبة مدينة سيد الخلق المدينة المنورة وأزور الحبيب صلى الله عليه وسلم وأزور طيبة الطيبة وأتنسم عبيرها، وأزور والدتي الحبيبة التي غبت عنها مدة طويلة وأنا في أشد الشوق لرؤيتها لألثم يديها وقدميها وأتزود من دعائها ورضاها، وألتقي إخواني وأخواتي وأقاربي جميعاً..


فوداعاً إكستر فقد كانت أياماً أكثرها راحة واستجمام وقليل من النشاط العلمي، ولكنها كما يقولون استراحة المحارب

تجاوب مع أعضاء المنتدى

عندما سافرت إلى أمريكا لم يكن الأهل والمجتمع يهتم إلا بالمهندس والطبيب والمتخصص في العلوم، وفعلاً كنت في الثانوية في القسم العلمي، وبدأت الدراسة في أمريكا في مجال العلوم ولكني كنت أنجح وأخفق، ودرست كشكولاً من المواد في شتى التخصصات كالجغرافيا وعلم النفس وأكثرت من دراسة الأدب الإنجليزي حتى إني من كثرة ما كتبت وصلت أن أوصف بالشاعر المقيم في أريزونا أي قيل إني أكتب الشعر الحر بالإنجليزية، والأمر الثاني لم أجد نفسي في أي تخصص فلذلك ما أن حلت السنة الخامسة حتى قررت العودة إلى المملكة. وكنت أوصف بأني فاشل أو إنني كنت مضيعاً للوقت في اللهو وغير ذلك، وكما قلت الناس لا ترحم... تحملت ذلك لأني أعرف من نفسي غير ذلك والحمد لله. كما أنني وصلت أمريكا في نهايات التمرد على الجامعات والشهادات وأن قيمة الإنسان ما يعلمه وما يعمله وليس تلك الورقة التي يسمونها شهادة. فلم أصر عليها وإلاً فقد قال لي الملحق اذهب إلى أي كلية من تلك الكليات التي تمنح الشهادات لمجرد الحضور ومنها كلية اسمها ويتير Whittier وعرفت طلاباً سعوديين درسوا في قرى نائية تأخرت عن ركب المدنية لدرجة أن تقف الحافلة (النقل بين المدن)  عند إحدى البقالات ويربّي الناس الدواجن فتراها في الشارع كل ذلك للحصول على الشهادة. لقد كنت مثالياً حالماً لم تهمني الشهادة وإنما أعتقد أنني كسبت شيئاً من العلم بأمريكا وحياتها وقرأت الكثير، وتعرفت إلى شخصيات من الطلاب لا يصل إليهم كثير من الطلاب السعوديين.

ورجعت بلا شهادة فوجدت صعوبة الحصول على الوظيفة بغير الورقة فوجدت جامعة الملك عبد العزيز قد فتح الفرصة للانتساب واخترت التاريخ الذي يدخله الطلاب الذين لا مجموع لهم ولا طموح ولا همّة فكان علي أن أحصل على الشهادة، وما أن انتهت السنوات الأربع (تخرجت في ثلاث سنوات ونصف ثلاث منها منتسباً ونصف سنة منتظماً) فشجعني أساتذتي على الالتحاق ببرنامج الدراسات العليا لأنهم رأوا أنني أختلف عن بقية الطلاب من حيث الجرأة في المناقشة والانتقاد أحياناً . وهكذا واصلت.. فهل أجبت عن سؤالك؟

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

تلخيص كتاب منهج البحث التاريخي للدكتور د. حسن عثمان

الكلمات النورانية: وتحمل الكل

الإسلام وتعلم اللغات الأجنبية