حديث في منتدى برنامج ساعة حوار


بسم الله الرحمن الرحيم

أيها الإخوة والأخوات المنتدون والمنتديات

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،

        ليت المنتدى يفتح غرفة حوار فيوفر لنا فرصة للقاء حيث يكون عدد منكم حاضراً ونتحدث في هذا الأمر ويتم تسجيل الحوار ثم يعاد بثه. ويكون بمنزلة المحاضرة أتحدث فيها مدة ربع ساعة أو أكثر قليلاً ثم يكون الحوار والسؤال والجواب. أو لعل الله ييسر أو يفتح قلوب الإخوة وعقولهم من أصحاب القرار في القناة العلمية  في (مجدنا المبارك) فيكون الاستشراق والفكر المعاصر مادة يسعدني أن أعد لها عدداً من الدروس على مدار عام أو فترة تلفزيونية أو فترة إذاعية كما يقال في الاصطلاح المهني.

        وأعتذر في البداية عن الإطالة في الإجابة عن أسئلتكم ولكن الموضوع يقتضي مثل تلك الإطالة والأسئلة كثيرة. والآن مع الدفعة الثانية من الأسئلة.

        أيهما أكثر خطراً المستشرقون أم المستغربون؟ كلاهما خطر ولكن الأمر يعتمد على موقع كل واحد منهما، فقد بلغ الأمر ببعض المستشرقين أن أصبح مستشاراً لرؤساء دول عربية إسلامية كما يذكر الحاج تعليم علي (أمريكي أسلم قديماً وكتب تقريراً عن هذه الدراسات نشرته ضمن كتابي الاستشراق الأمريكي المعاصر) وكما كانوا مستشارين لمحمد علي الكبير سرششمه في مصر. ويكون المستغرب خطراً أيضاً حين يصل إلى وزارات التوجيه كالإعلام والثقافة والتربية والتعليم أو غيرها من الوزارات أو يكون رئيس تحرير أو كاتباً بارزاً أو غير ذلك من المناصب القيادية في مجال الفكر والتوجيه. والمستغرب يكون أكثر خطراً أحياناً لأنه قد يتفوق على أساتذته في الخبث والمكر. وقد ذكرت بعض هؤلاء الذين لم يعرف بعضهم الغرب ولم يعش فيه ولكنه فقد هويته وانتماءه وارتمى في أحضان الغرب، وهذا يذكرني بالكاتب المشهور الذي أُصيب بعشق الغرب حتى الوله حتى نفى أن يكون في الغرب تفسخ أو انحراف أخلاقي أو انحلال أخلاقي. والقوم هناك يشتكون من هذا ويقولون إن تجارة الصور الفاحشة للأطفال بلغت أكثر من ثمانية مليارات دولار سنوياً، وقد أسس جيمس بيكر (وزير الخارجية الأمريكي الأسبق) مركزاً للبحوث لدراسة القيم والأخلاق في الغرب والعمل على محاربة الانحرافات. وهناك لجنة القيم والأخلاق أسسها الرئيس الأمريكي الأسبق أيضاً بيل كلينتون لمواجهة التفسخ الأخلاقي. فهل بعد هذا دليل على انحراف الحضارة الغربية أخلاقياً؟

        والمتغرب أو تلميذ المستشرقين يصاب في عقله وأخلاقه وفكره أحياناً فيصل إعجابه بأستاذه أو أساتذته حداً عجيباً. لقد رأيت أحدهم يكاد يطير من الفرح لرؤية مشرفه الإنجليزي، بل ربما وصل به الأمر إلى حد تقبيل يديه. إن بعض هؤلاء الأساتيذ تكون له قامة علمية سامقة وشخصية كاريزمية (كما يقولون) فيتأثر الطلاب بهم تأثراً كبيراً. وقد عرف المستشرقون هذا الأمر فسعوا إلى تأسيس المؤسسات التعليمية في بلادنا منذ ما يزيد على القرن. وأحب أن أشير هنا إلى كتاب الشيخ الدكتور بكر أبو زيد عن المدارس العالمية خطورتها وأثرها في العالم الإسلامي. وكأننا لم ندرك هذه الخطورة فأتينا بالخطر إلى ديارنا بأيدينا. وهذا يذكرني بتفسير الشيخ عبد الحميد بن باديس رحمه الله لآية (وقالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون) فقال ابن باديس رحمه الله :" يبدو أن هذه كبيرة النمل أدركت أن الخطر يواجه قومها فنبهتهم إليه وحذرتهم منه، وهكذا يجب أن يكون كبيراً لقوم يدرك الخطر القادم إلى أهله وقومه فينههم إليه ويحذرهم منه لا أن يكون ممن يأتي بالخطر والمصائب والكوارث إلى قومه)

        والاستشراق ليس علماً صرفاً هدفه الحقيقة والمعرفة فقط، فهو يتدثر بهذه الشعارات ولكنه في بعضه يعمل خدمة لأهداف استعمارية تهدف إلى السيطرة والهيمنة ومحاربة الهوية العربية الإسلامية. وقد سعت الدول الغربية إلى دعم هذا المجال بكل ما أوتيت من قوة مادية ومعنوية. ففي بريطانيا اقترح أحد رجال البرلمان في بداية القرن إنشاء معهد كبير في جامعة لندن لدراسة الشعوب العربية الإسلامية وكانت (مدرسة الدراسات الشرقية والأفريقية) وعُدّت هذه المدرسة من أعمدة الإمبراطورية البريطانية. وألفت الحكومة البريطانية عدداً من اللجان الحكومية في بداية القرن وفي عام 1947 وفي عام 1961م وفي عام 1985م لدراسة احتياجات بريطانيا من هذه الدراسات، ورصدت أموالاً لتنفق في هذا المجال. وقد زرت وزارة الخارجية البريطانية (في أثناء بحثي للدكتوراه) وسألت أحدهم في قسم الشرق الأوسط :"هل ثمة تعاون بينكم وبين جامعة لندن؟" فقال بالطبع فكثير منّا يتخرج في هذه الجامعة، وتقدم لنا الجامعة الدورات والاستشارات باستمرار.

        وإذا انتقلنا إلى أمريكا فإن الحكومة الأمريكية بدأت تقديم الدعم والتمويل لهذه الدراسات منذ نهاية الحرب (العالمية) الثانية فصدرت عدة مراسيم حكومية في عام 1957م وفي عام 1990 وفي عام 2001، والآن تقوم الحكومة الأمريكية بإجراءات عجيبة لمزيد من التدخل في دراسات الشرق الأوسط والإسلام حتى إن أستاذاً من جامعة بيركلي قد أعد كتاباً عن الحرية الأكاديمية في أمريكا وسيقوم بإلقاء محاضرة في جامعة برلين الحرة في السابع والعشرين من مارس 2006 حول هذا الموضوع. وقد أصدرت الحكومة الأمريكية عدداً من القرارات لمزيد من الرقابة على هذا المجال المعرفي لأنها تراه أو يراه البعض قد ندّ عن الطريق، وشب عن الطوق وتنكب عن الصراط.

        وتسألني عن المواجهة؟ أي مواجهة يا أخي؟؟؟؟ إن المريض إذا اعترف أنه مريض فتلك بداية الشفاء. ويقولون عن المجنون إنه إذا اعترف بجنونه فهي بداية الشفاء. فنحن هل وصلنا إلى درجة الاعتراف أو الإدراك بأننا بحاجة إلى المواجهة؟ لا أريد أن أكون متشائماً فأقول نعم وصل عدد من المسؤولين عندنا في هذا البلد العظيم إلى إدراك الخطر وأسسوا قسماً اسمه قسم الاستشراق عام 1403هـ في المدينة المنورة بعد أن كانوا قد أنشأوا وَحدة لدراسات الاستشراق والتنصير بمركز البحوث في جامعة الإمام بالرياض. وعاش القسم ردحاً من الزمن مزدهراً قوياً يقدم برنامج دراسات عليا ويدرس الطلاب أشياء عن الاستشراق وحوله ويتعلمون وسائل المواجهة. وكان القسم يحمل بذور موته منذ إنشائه لأسباب كثيرة لا مجال للتفصيل فيها الآن. كما كان عدد من أصحاب الأفق الضيق والعقليات المتحجرة وذوي النفوذ الإداري في الجامعة لم تفهم المقصود من دراسة الاستشراق فظلوا سنيين يحاربونه حتى أوقفوا الدراسة فيه ومات القسم كما يموت البعير فلا نامت أعين الجبناء.

        لقد رأيت المستشرقين فاغري الأفواه مندهشين عندما يسمعون بأن لديناً قسماً للاستشراق أو لدراسة الاستشراق. وأحدهم كان القنصل الأمريكي في جدة ستيفن بك Stephen Buck الذي سمع أنني من قسم الاستشراق فقال لا بد أن نتحدث عن هذا الأمر فيما بعد فأرجوك أن تحضر الحفل مبكراً لتكون لنا فرصة الحديث، وأثنى أحدهم في مؤتمر عقد في الجامعة اللبنانية الأمريكية قبل سنوات على وجود من يدرس الاستشراق، وأبدى إعجابه بتعقيبي عليه.  لقد كنت أقول إن جامعة الإمام سبقت غيرها من الجامعات العربية والإسلامية بما لا يقل عن خمسين سنة إلى الأمام بإنشاء هذا القسم.

        نعم نحن بحاجة إلى المواجهة ولكن حين ندرك الخطر الحقيقي للفكر الغربي الوافد ولضياع الهوية والشخصية، وأن لا يقتصر القسم على دراسة ما كتبه المستشرقون بل يكون ضمن سياق دراسة الغرب بعامة والاستشراق بخاصة. إن الغرب حين أدرك أنه بحاجة إلى معرفتنا ومعرفة التفاصيل عنا ً و(تفاصيل التفاصيل كما يقول الدكتور أبو بكر باقادر) قامت الحكومات بتبني دراسة الشعوب الأخرى ورصدت الأموال الطائلة لهذا المجال. وأدرك الأثرياء وأصحاب الشركات الكبرى أهمية معرفة الشعوب الأخرى للتأثير فيها وفي سياساتها كما تفعل الشركات المتعددة الجنسيات فدعموا دراسة العالم كله.فأين القرارات الحكومية في عالمنا العربي الإسلامي لدراسة الغرب والشرق وأفريقيا وأمريكا اللاتينية وغيرها من أنحاء العالم؟      أعتقد أنني أجبت معظم الأسئلة وصدقوني أنني في الحديث عن هذا الأمر كالذي يجري فيتعب ويلهث وتتقطع أنفاسه. وكأنني أصرخ في واد ولكنها صرخات لن تضيع بإذن الله. وأكتفي بهذه الصفحات راجياً ممن يقرأ بتمعن (وأكثركم كذلك إن شاء الله) فيقف عند بعض الأمور ويطلب تجليتها فيفتح المجال  لمقالات أخرى قادمة،  والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

 

 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

تلخيص كتاب منهج البحث التاريخي للدكتور د. حسن عثمان

الكلمات النورانية: وتحمل الكل

الإسلام وتعلم اللغات الأجنبية