مظاهر المدنية في الحضارة الإسلامية في عصر الخلفاء الراشدين


 

 


عندما نتحدث عن المدنية لا شك أن أذهاننا تنطلق إلى الحضارة الغربية المعاصرة التي أصبحت لها الهيمنة والسيطرة في العالم. فهي التي تصنع أدوات المدنية من سيّارات، وطائرات، والأجهزة بأنواعها والأسلحة بأنواعها حتى المشروبات الغازية التي أدمنّاها بينما العالم الآخر يستهلك. وهي التي تقول عبر وكالات الأنباء والقنوات الفضائية التي نملكها ويملكونها وعبر الصحافة والإذاعة ونحن الذين نسمع بل ننصت بخشوع، وهي التي تحكم بما لديها من قوة اقتصادية، وسياسية، وعسكرية، وثقافية وعلمية، وتكنولوجية. فما الفائدة في الحديث عن مظاهر المدنية في الحضارة الإسلامية في عصر الخلفاء الراشدين؟

        نعم ما الفائدة من مثل هذا الحديث؟ إن الأمم التي تريد أن يكون لها وجود في العالم لابد أن أول خطوة تقوم بها أن تحدد هويتها ومشروعها الحضاري ومنهجها الذي تريد السير عليه. فالغرب المسيطر بالرغم من النظريات والفلسفات المختلفة والمتنوعة والمتناقضة التي تسيطر عليه، فإنه واع بذاته وبحضارته وبوجوده وبمناهجه.

        ونحن علينا أن نبحث عن هذه الهوية وهذه الذاتية والمنهج والمشروع الحضاري الذي نريد بناءه في هذا العالم. لذلك فالحديث عن عصر الخلفاء الراشدين هو الحديث عن الانطلاقة لهذه الأمة المباركة التي صنعت حضارة تفيأ ظلالها العالم قروناً عديدة وما زال يجد لديها الكثير لو أحسن أبناؤها فَهْمَ تاريخهم وحضارتهم وأحسنوا التمسك بهويتهم ومشروعهم الحضاري.

        لذلك فهذه الصفحات محاولة لإظهار لمحات من المدنية التي بدأت في عهد الخلفاء الراشدين والتي ينبغي أن لا تكون مادة نحفظها لنؤدي فيها الامتحان بل أن تكون امتحاناً حقيقياً لنا في إيماننا برسالة هذا الدين العظيم الذي اختاره الله خاتمة لرسالاته .

النظام السياسي

          إن النظام السياسي الإسلامي هو أرقى نظام سياسي عرفته البشرية في تاريخها وقد كان تطبيقه في القمة في فترة  الخلافة الراشدة، ثم تراجع المسلمون في التطبيق في جوانب منه لكنهم بقوا متمسكين بمصادر هذا النظام لا يتنازلون عنها وإن كان في ذلك فناؤهم . فما أبرز ملامح هذا النظام؟

اختيار الحاكم

        لقد قام المسلمون بتطبيق معايير لم يسبقوا إليها في اختيار الحاكم وهذه الأسس هي الشروط التي استنبطها الفقهاء في كتب الأحكام السلطانية. وقد قال الدكتور أكرم العمري معلقاً: "والحق أن انتخاب أبي بكر للخلافة يوضح استعلاء قيم الإيمان وخضوع مقاييس الشخصية لها، لأن أبا بكر من تيم وتيم من أضعف عشائر قريش. (الخلافة الراشدة، ص46)، وأين النظام الديموقراطي الذي يجعل انتخاب الشخص لما يملكه أو لنجاحه في اللعبة الانتخابية حتى لو كان فاسداً صاحب فضائح في نظام ترشيح أهل العقد والحل.

الشورى

        فهذا مجتمع بني على الشورى حيث نزلت آية الشورى {وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون}، والخبر إذا أريد به الإنشاء الطلبي فهو أقوى من الأمر. أما الآية الثانية التي تناولت الشورى فهي قوله تعالى {وشاورهم في الأمر}، ويضيف الدكتور العمري: "ليس في القرآن قرينة تصرف هذا الأمر عن الوجوب، وليس في السنّة كذلك، بل الأحداث في السيرة تدل على أخذ النبي صلى الله عليه وسلم بالشورى كما في يوم أحد وفي الخندق وفي غيرها. كما إن الشورى في الإسلام تضمن لصاحب الرأي الحرية التامة ليقول رأيه. وكانت الشورى تتناول كلَّ ما لم يرد نص فيه في جميع المجالات.

        وقد عرفت الأمة الإسلامية الاستفتاءات العامة فعندما فتح العراق والشام وكان رأي الخليفة بناءً على رؤيته للمصلحة العامة أن تبقى الأراضي في أيدي أصحابها ويقومون بتقديم الخراج للدولة الإسلامية بدل تقسيمها بين الجنود الذين فتحت على أيديهم. فكان الرأي في هذا للجميع.

الإدارة والقضاء

       يعاني العالم العربي الإسلامي من ضعف شديد في مجال الإدارة بسبب بعدنا عن الأصول الإسلامية في الإدارة، والدليل على ذلك أننا نتسول الفكر الإداري من الغرب والشرق (أمريكا واليابان) نظراً لنجاحهما في مجال الصناعة، فهذه الشهادات العليا في الإدارة هي في الغالب من الغرب عامة ومن الولايات المتحدة بصفة خاصة، وأيضاً الدورات الإدارية والكتب المترجمة.

لقد بدأ المسلمون نظامهم الإداري والقضائي في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، وتوسعت الدولة الإسلامية ويمكننا أن نستنبط بعض الأسس لهذا النظام والبراهين على تطبيق هذه الأسس فما على الباحث سوى مراجعة التاريخ الإسلامي مراجعة يسيرة للتأكد من ذلك.

أما هذه الأسس فهي:

1- استعمال الأصلح، والأصلح هو القوي الأمين، والحفيظ والعليم .

2- مدة الولاية تخضع لظروف الولاية ونجاح الوالي . ومن الأمثلة على ذلك بقاء معاوية ابن أبي سفيان رضي الله عنه أميراً على الشام عشرين سنة. بينما لم تستمر بعض الولايات أكثر من سنة وربما أقل من سنة. وقد ورد عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه فكر أن لا تزيد مدة ولاية أي وال عن سنة واحدة.

3- الابتعاد عن العواطف في تولية الأمراء ومراعاة مقتضيات المصلحة العامة.

4- الفصل بين الولاية (الإمارة ) والمسؤولية المالية.

5- مراقبة الولاة في عملهم .

6- محاسبة الولاة أو الأمراء إذا قصروا أو ظلموا أو ارتكبوا ذنباً أو لخصومة أهل الولاية لهم.

القضاء

وضع المسلمون أسساً للنظام القضائي منها :

1- فصل القضاء عن سلطة الولاة واستقلالية القضاء.

2- اختيار الأصلح.

3- المرتبات المجزية لإعفاف القضاة .

4- تقاضي الخليفة وأي فر إلى قاضي المسلمين والأمثلة على ذلك كثير كتقاضي عمر بن الخطاب وأبي بن كعب والتحاكم إلى  زيد.

النظام الاقتصادي

                حرصت الدولة الإسلامية أن تكون دولة قوية، وقوة الدولة بقوة شعبها واكتفائه اقتصادياً واستقلالها عن غيرها.  ولذلك حرص عمر بن الخطاب رضي الله عنه على ترك أرض السواد والأراضي المفتوحة عموماً في أيدي أصحابها الأصليين لتكون مصدر دخل مستمر للدولة لإعداد الجيوش والإنفاق على الدولة.

وقد اهتمت الدولة بمواردها المالية وهي: الزكاة، والخراج، والعشور، والغنائم .وقد اهتمت الدولة الإسلامية بسياسة الإنفاق على ما يأتي:

1- بناء المساجد، تجديد سقف المسجد النبوي، ثم توسعة المسجد وبنائه في عهد عثمان ابن عفان رضي الله عنه بالحجارة.

2-بناء المدن لتكون معسكرات للجيوش الإسلامية قريبة من الماء والمرعى ومن هذه المدن الكوفة والبصرة والفسطاط. وتخطيط هذه المدن تخطيطاً إسلامياً مبتكراً يراعي التشريعات الإسلامية في ذلك مع الابتكار والإبداع. فشوراع الكوفة كما شارك في تخطيطها عمر بن الخطاب جعلت الشارع الرئيسي أربعين ذراعا (40×70= 2800سم)(حوالي ثلاثون متراً)

3- حفر الأنهار وإقامة السدود والمنشآت ومن هذه المنشآت استراحات للحجاج بين مكة والمدينة توفر فيها الماء والظل.

 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

تلخيص كتاب منهج البحث التاريخي للدكتور د. حسن عثمان

الكلمات النورانية: وتحمل الكل

الإسلام وتعلم اللغات الأجنبية