أصول مراكز الفكر الأمريكي ونشأتها


الفصل الثاني

ترجمة مازن مطبقاني

من جيل إلى جيل: أصول مراكز الفكر الأمريكي ونشأتها

      لاحظ جيمس ماكقان James McGann الخبير والمستشار لعدد من مراكز الفكر في خطاب ألقاه في جامعة باساو Passau أنه يوجد أكثر من أربعة آلاف مركز فكر حول العالم وهذا الرقم يقترب من الخمسة آلاف، ويوجد نصفها في الولايات المتحدة الأمريكية. كما لاحظ أيضاً أنه من الملفت للانتباه أن غالبية مراكز الفكر هذه قد أسس في العشرين سنة الأخيرة في الوقت الذي بدأ تأثير عدد لا يزيد عن أصابع اليد يظهر إلى العيان.

        وليس الهدف من هذا الفصل التأريخ للمئات من مراكز الفكر في الولايات المتحدة، وإنما لتوضيح كيفية نشأة هذه المؤسسات منذ بداية التسعينيات. وما يصبح واضحاً تماماً أنه بظهور كل جيل أو موجة من مراكز الفكر يتغير مجتمع صناعة القرار في تكوينها وفي طبيعتها. ومن المؤكد أنه في الوقت الذي بدأ عدد  مراكز الفكر في الازدياد وشروع هذه المراكز بتسويق نفسها بقوة فإن العلاقة بين خبراء السياسات وصناع السياسات بدأت تأخذه ديناميكية مختلفة جداً. فلم يعد الانتظار .... لرد فعل إيجابي حول تقرير أو دراسة نشرها مركز فكر فإن باحثي مراكز الفكر والمعاهد التي وظفتهم اكتشفوا وسائل لتأسيس صوت أقوى. وبدأ صناع القرار بمرور الوقت بملاحظة ذلك.

        من الممكن من خلال التركيز على مراحل أربعة متميزة أو موجات من تطر مراكز الفكر هي:1900-1945، 1946-1970، 1971-1980، 1980-2004.فإن إبراز الأنواع المختلفة لمراكز الفكر التي تستقر في مجتمع صناعة القرار وكذلك العوامل المتعددة التي أثرت في تطورها. يبدأ الفصل بمناقشة النوعية أو تصنيف مراكز الفكر والتي سوف يستخدم في هذا الكتاب لوصف مراكز الفكر التي ظهرت في الولايات المتحدة، وبعد ذلك سوف نناقش الموجات الأربع من نمو مراكز الفكر، وأخيراً نوضح أكثر أهمية التنوع ضمن مجتمع مراكز الفكر، وسوف تقدم ملفاً تعريفياً لبعض مراكز الفكر البارزة المختصة بصناعة السياسة الخارجية.(انظر الرسم 2,1والجداول 1.1A 1.2A   في الملحق I

تصنيف مراكز الفكر

        نظراً لأنه لا يوجد إجماع بين العلماء على يتركب منه مركز الفكر فإن كنت ويفر Kent Weaver وجيمس ماكقان James McGann  وآخرون كما أوضحنا في المقدمة أعدوا عدداً من التصنيفات أو الأنواع لتحديد أنواع مختلفة من المنظمات التي تقع تحت مسمّى "مركز فكر"، وهم لم يساعدونا فقط بعملهم هذا في التمييز بين أنواع مختلفة من معاهد السياسات بل ساعدونا كذلك في تحديد الدوافع الرئيسية والصفات المؤسساتية المرتبطة بكل جيل أو موجة من مراكز الفكر. وانطلاقا من هذه التصنيفات غيرها التي تناسب تجربة مراكز الفكر الأمريكية فإننا نستطيع أن نلاحظ كيف حوّلت هذه المنظمات  نفسها بمرور الوقت، وكيف أصبحوا يؤدون دوراً فاعلاً في عملية صناعة السياسات. وعلى الرغم من أن الباحثين يستخدمون تصنيفات مختلفة لدراسة مراكز الفكر وغالباُ ما يصنّفونها بطرق مختلفة فإنهم يتفقون عموماً أنه ثمة فروق يمكن أن نجدها بين مراكز البحوث القائمة على العمل البحثي من تلك التي تضع أولوية كبرى للانخراط في النشاط السياسي. ويتفقون كذلك أن ثمة تمييزاً يمكن أن نجده وفقاً للطريقة التي يتم بها تمويل هذه المراكز وعملائها أو الجمهور المستهدف بخدمتها.

        وسوف أعتمد في نقاشي التالي بقوة على التصنيف الذي وضعه ويفر Weaver وهو تصنيف يخدمنا بصفته نقطة انطلاق مفيدة للبحث بعمق أكثر في العالم المحير والمتعدد لمراكز الفكر وبينما يثير تصنيف ويفر لثلاث أنواع من مراكز الفكر الأمريكية بعض التساؤلات المنهجية المشوقة فإنه يمضي بعيداً في الانطلاق بشكل عام جداً أنواع مراكز الموجودة في مجتمع بحوث السياسات، ولهذا السبب تم تبنّي تصنيفه.

جامعات بلا تلاميذ

        حدد ويفر في واحد من أول تصنيفات مراكز الفكر ثلاث أنواع من التنظيمات التي تشغل مجتمع بحث السياسات، وعلى قمة سلسلة الهرم أو التراتيبية لمراكز الفكر وبخاصة من أجل الأنقى مراكز الفكر التي يشير إليها أنها "جامعات دون تلاميذ" هذه المؤسسات عادة كبيرة وفقاً لمعايير مراكز الفكر (تقريباً 50 باحثاً أو أكثر) وتتكون من أكاديميين اهتمامهم الأسس هو البحث وكتابة دراسات علمية. وكثير من هؤلاء العلماء عملوا في جامعات ولكنهم يفضلون عزلة مراكز الفكر حيث لا يقومون بالتدريس والأعباء الإدارية في حين أن الباحثين الآخرين والأكثر محافظة في تعليمهم بحثوا عن ملجئ في مثل هذا النوع من مراكز الفكر وغيره حيث شعروا بترحيب أكبر. ووفقاً للسفيرة جين كيرباترك Jean Kirkpatrick  التي عملت مدة طويلاً في معهد المشروع الأمريكي American Enterprise Institute القائم على السوق الحرة، فإن الجامعات في الولايات المتحدة متحررة جداً فإن العديد من الباحثين المحافظين قد أجبروا على البحث عن بيئة مضيافة وأكثر تسامحاً وكرماً لمواصلة بحوثهم فيها (3). وليس من المستغرب أنهم جُذبوا إلى مراكز فكر تشجع اهتماماتهم البحثية وترعى اعتقاداتهم الأيديولوجية. ومثل هذه المعاهد  سواء كانت ليبرالية أو محافظة تعمل مثل الجامعات بمعنى أن رسالتها الأساسية هي تشجيع فهم أكبر للقضايا والاقتصادية والسياسية، وببساطة إنها تعمل في مجال نشر المعرفة، وعلى خلاف الجامعات فإن حلقات البحث وورش العمل التي يقدمونها والدراسات التي ينتجونها موجهة لصانعي السياسات وليس الطلاب. ومن السخرية أن الدراسات الضخمة الحجم التي تصدرها مراكز الفكر القائمة على البحث تجد طريقها إلى قاعات الدرس والمكتبات وليس في حقائب صانعي السياسات، فالعلماء الذين يعملون في هذه المعاهد بدعم كبير من المؤسسات والأفراد ينظرون إلى الدراسات التي يصل حجمها إلى حجم الكتب بصفته منتوجهم البحثي الأساسي.

        ومع ذلك وكما لاحظ الباحث في معهد بروكنجز مايكال أوهانلنMichael O'Hanlen أن التركيز على البحوث التي يصل حجمها طول الكتاب قد بدأ يتغير، ويعدّ كلاً من معهد بروكنجز ومعهد  هوفر Hoover وهما من أكبر معاهد البحوث الخاصة في الولايات المتحدة من مراكز الفكر التي ينطبق عليها هذا التصنيف.

متعاقدون حكوميون أو متخصصون

        إنما يميز المتعاقدين الحكوميين في تصنيف ويفر لمراكز الفكر ليس إلى حد كبير نوع البحث الذي يقومون به على الرغم من أن بعض ما يقوم به المتعاقدون الحكومي سرّي إلى نوع ما، وأما الباحثين الذين يقومون بالعمل فمعظمهم يحملون درجة الدكتوراه، على أن عمليهم الأساس والأولى ومصدر تمويلهم. إن مراكز الفكر مثل راند ومعهد المدن وهما اثنان من المتعاقدين الحكميين الرواد في الولايات المتحدة قد أسست لخدمة احتياجات خاصة لصانعي السياسة. كما سيتم مناقشة ذلك فيما بعد في هذا الفصل فكلاهما يتلقى كميات كبيرة من أموال الحكومة من أجل تقديم مقترحات لكيفية مواجهة اهتمامات السياسات الخارجية والمحلية التي تواجه الأمة. وبصفتهما متعاقدين حكوميين فإن هذه الأنواع من مراكز الفكر تتمتع بميزات الوصول إلى الوزارات والوكالات الحكومية ولكن هذا لا يستلزم أنهم سيكونون قادرين على التأثير في السياسة الحكومية. وحقيقة فهناك كثير من الأمثلة على أن توصيات السياسة التي قدمت من قبل راند ومتعاقدين أخرى كانت مخالفة لرغبات وللاهتمامات السياسية لأعضاء في الكونجرس والتنفيذيين. ففي هذه الحالات وغيرها فإن المتعاقدين الحكوميين ليس لهم سيطرة كبيرة لكيفية قبول توصياتهم. ومع ذلك فإن المتعاقدين الحكوميين يعترفون عامة أن اهتمامهم الأساس هو تقديم نصيحة حكيمة وذات أساس علمي لعملائهم وليس للتأثير في العملاء في كيفية استخدام المعلومات التي يُزودون بها. وهذا لا يعني يبعدون أنفسهم إرادياً من التقارير التي ينتجونها. بل على العكس فإن ذلك يعني أنهم ما داموا يعتمدون أساساً على التمويل الحكومي بخلاف أنواع مراكز الفكر الأخرى لا يمكن أن ينظر إليهم على أن لديهم أجندة سياسة، ويجب عليهم مهما كانت التكاليف أن يحافظوا على شرعيتهم المؤسساتية وموثوقيتهم، ومن المهم أيضاً أن نميّز بين المتعاقدين الحكوميين الكبار من أمثال راند ومعهد المدن الذين يتلقون ملايين الدولارات كل سنة في شكل دعم حكومي، والمئات من مراكز الفكر الذين يستبعدون من الصناديق المحددة من التمويل الحكومي أو الفيدرالي إلى مشرعات محددة. وعلى خلاف المراكز الأولى التي لديها مصدر مضمون من التمويل فإن عداً من المتخصصين الحكومية عليهم المنافسة للبقاء على السطح. وكما يعترف الكثير من مدراء مراكز الفكر فإن التمويل الحكمي يمكن أن يكون بركة كما يمكن أن يكون لعنة، وبالتالي فإنه أمر حاسم بالنسبة لمراكز الفكر لتوليد الإيرادات من مصادر متعددة وهو موضوع سوف نتناوله فيما بعد..

مراكز الفكر ذات التوجه الترويجي

        كانت المراكز الترويجية التي أشار إليه ويفرweaver  هي أكثر أنواع مراكز الفكر شيوعاً منذ بدايات السبعينيات في الولايات المتحدة وفي الديمقراطيات الغربية بما فيها كندا وبريطانيا العظمي كانت من النوع الذي أشار إليه ويفر بأنها المراكز الترويجية الدعائية. وهذا المركز كما يشير الاسم يتضمن الجمع بين الميل السياسي القومي مع مهارة ي التسويق قوية وجهد للتأثير في نقاشات السياسات الحالية"(6) إنها تركز كثيراً على إنتاج تقارير موجزة لصانعي السياسة وليس دراسات بحجم الكتاب، وتستخدم عدداً من الإستراتيجيات لتقوية صلاتهم بأعضاء من الكونجرس والتنفيذيين والإرادة البيروقراطية. وزيادة على ذلك التأثير على الرأي العام والسياسة العامة ومن مراكز الفكر الترويجية مؤسسة هيريتج Heritage تضع تركيزاً أساسياً على الوصول إلى الإعلام، ويظهر موظفوها باستمرار في شبكات الإعلام وبرامج التلفاز السياسية لتقديم رؤاهم حول كثير من قضايا السياسات العامة، ويشتركون في نشر مقالات من قبل باحثيهم في الصحف الأمريكية الرئيسية.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

تلخيص كتاب منهج البحث التاريخي للدكتور د. حسن عثمان

الكلمات النورانية: وتحمل الكل

الإسلام وتعلم اللغات الأجنبية