ليتعلم الخطباء من الشيخ الدكتور صالح بن حميد

                                      بسم الله الرحمن الرحيم
               
استمعت لخطيب يوم الجمعة قبل أسابيع، فكانت خطبته طويلة جداً وتفتقد عنصري التشويق والحماسة حتى إنني فكرت في أن أقترح على وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية أن تضع صندوقاً للاقتراحات في كل مسجد ليضع المصلون اقتراحاتهم حول خطبة الجمعة وبخاصة إذا كان المسجد كبيراً ويصعب الوصول إلى الإمام في الخطبة أو بعدها. وجاءت خطبة الشيخ الدكتور صالح بن حميد يوم التاسع من ذي الحجة 1419هـ. فكان لصحيفتنا (المدينة المنورة، 11ذو الحجة1419) نشاط بارز في نقل معظم فقرات الخطبة الجميلة الرائعة فوجدتها فرصة للحديث عن هذا النموذج المتميز من الخطباء في بلادنا آملاً أن تكون دعوة للخطباء ليتعلموا من مثل هذا الخطيب البارع الذي يجيد اختيار موضوعاته ويبذل جهداً متميزاً في الإعداد لها فكأن كل خطبة من خطبه جزاه الله خيراً- بحثاً علمياً متميزاً.
وقد تضمنت الخطبة أساسيات يجب أن يدركها المسلمون كما تضمنت توجيهات عامة تدعو إلى نهضة هذه الأمة إذا كانت تريد أن تحمل رسالتها إلى البشرية كما أمرها ربها سبحانه وتعالى )قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعن( ففي بداية الخطبة ذكّر المسلمين في جميع أنحاء العالم يما ينبغي أن يكونوا عليه في وجه تيار "العولمة" الطاغي الذي يجيد استخدام وسائل الإعلام العالمية. ومما قاله في هذا المجال وينبغي أن تكون مثل هذه العبارات افتتاحية لكل وسائل الإعلام الإسلامية والعربية والفضائيات العربية وهذه العبارة هي :" سمو الإسلام وعظمته يتجلى في علو مقاصده وشمول أهدافه وكمال تشريعاته فهو كامل في عقائده وعباداته، شامل في أحكامه ومعاملاته،  هذّب العادات ورسم السياسات ووضع القواعد وأرسى المبادئ فحفظ توازن المجتمع ورتب شؤون الأمة فلا يشذ شاذ بفكر ولا يستبد حاكم بنظام ولا ينفرد مذهب بهوى وفي التنزيل العزيز )اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا(
إن الأمة الإسلامية إذا ما وصلت إلى هذه القناعة العظيمة بالإسلام فإن استجابتها للتفاصيل والتشريعات ستكون أكثر يسراً وسهولة. ولذلك كانت دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم التي استمرت ثلاث عشرة سنة لم تتجاوز كثيراً هذه الأساسيات وقد تناول صاحب الظلال في مقدمة حديثه عن سورة الأنعام هذا الأمر بأن نبه إلى أن هذه السورة المكية اهتمت أساساً بمسألة التوحيد والإيمان العميق بأن الإسلام جاء من عند الله عز وجل لخير الإنسانية جمعاء وأن التشريع حق من حقوق الله عز وجل وحده. وقد أورد رحمه الله افتراضات منها أنه لو كان الإسلام قد دعا إلى إصلاح الأمراض الاجتماعية أو إلى الوحدة القومية وغير ذلك من الدعوات لكان كفار قريش على استعداد لقبولها. ولكن الإسلام أراد أن يقود المسلمين إلى هذا الإيمان العميق الذي لخصه الشيخ الحميد في السطور البليغة القليلة.
ثم بدأ الشيخ يحفظه الله بالحديث عن مسألة حساسة وخطيرة ولعلها من أبرز القضايا التي كُتِب عنها الكثير، ووقف العلمانيون والمحاربون للإسلام دون فهم حقيقتها.وهذه القضية هي الشورى في الإسلام. وإن المتابع لما يدور في ندوات ومؤتمرات المستشرقين ومن لف لفهم من أبناء هذه الأمة في الصحافة المتأثرة بالفكر الغربي يجد عجباً من ضعف الإدراك ليس بحقيقة الشورى فما الشورى إلاّ فرع لأصل عظيم وهو أن الإسلام كما قال الشيخ " سمو الإسلام يتجلى في علو مقاصده وشمول أهدافه وكمال تشريعاته"، فهم لا يتوقفون عن الطعن في النظام السياسي الإسلامي منذ صدور كتاب علي عبد الرازق، بل إن ما قيل بعد علي عبد الرازق وإن كان ينطلق من مثل مقولاته ولكنه يزيد عليه جرأة في كثير من الأحيان.
ولنقوم بجولة في جوانب من خطبة الشيخ وما يمكن أن يكون نموذجاً للخطابة في العالم الإسلامي وأن يأذن الشيخ لغيره من الخطباء باقتباس خطبته أو حتى إعادتها من على منابرهم. وهي مناسبة ليترك بعض الخطباء الكتب القديمة التي تقدم خطب المناسبات وتغرق في السجع وفي لغة لا يفهما المعاصرون. وأمثال هذه الخطب ما زال موجوداً.
وبدأ الشيخ الفاضل حديثه عن الشورى بالتأكيد على أن أصلها بدأ في مكة المكرمة في قول الله عز وجل )والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون( فقال في ذلك: إن (الشورى) عنصر من عناصر الشخصية الإيمانية الحقة المستجيبة لربها." ويضيف الشيخ " والشورى أُمِرَ بها نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وهو المؤيد بالوحي الذي لا ينطق عن الهوى فقال له ربه )وشاروهم في الأمر( ويستشهد بقول الحسن رحمه الله " لقد أمر الله نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم بالمشورة مع ما تكفل به من إرشاده ووعده به من تأييده وعصمته من أمره بمشاورتهم ليستن به المسلمون ويتعبد بها المؤمنون وإن كان عن مشاورتهم غنياً".
ثم ذكر الشيخ لمحة تاريخية عن الشورى مع ذكر بعض النصوص التي تناولت هذا الأمر؛ فقد استشار الرسول صلى الله عليه وسلم في الغزوات كما استشار في مواطن أخرى. وكذلك فعل الخلفاء الراشدون في اهتمامهم بالشورى. ومن النصوص التي توضح هذا الأمر وصف أبي هريرة رضي الله عنه للرسول صلى الله عليه وسلم بقوله " لم يكن أحد أكثر مشورة لأصحابه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكان يستشير في السلم والحرب وفي الخاص والعام حتى في خاصة شأنه كما في حادثة الإفك.."
وقد استمر هذا النهج في عهد الخلفاء الراشدين حتى إن خطبة أبي بكر الصديق رضي الله عنه بعد توليه الخلافة يقول فيها :" إنّي ولّيت عليكم ولست بخيركم ، إن أحسنت فأعينوني وإن أسأت فقوموني ..القوي فيكم ضعيف عندي حتى آخذ الحق منه والضعيف فيكم قوي عندكم حتى آخذ الحق له أطيعوني ما أطعت الله ورسوله وإن عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم" ويقول الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه يحث الأمة على إبداء الرأي "لا يمنع أحدكم حداثة سنّه أن يشير برأي ، فإن الرأي ليس على حداثة السن وليس على قدمه ولكنه أمر يضعه الله حيث يشاء"
وما أجمل عبارات الشيخ في وصف ثمرات الشورى حيث يقول:" إن الشورى ركيزة لكل أمة متخضرة وكل دولة راقية تنشد لرعاياها الأمن والاستقرار والفلاح والنجاح والشورى طريق صحيح للوصول إلى الآراء وتحقيق أكبر المصالح، وفي الشورى لا تطغى إرادة الفرد على إرادة الجماعة ولا تتحكم الاجتهادات الفردية في مصالح الأمة000" ولم يجعل النظام السياسي الإسلامي الشورى مرتبطة بالمصالح الدنيوية وحدها بل ربطها بالإيمان فبالإضافة إلى الخبرة والعقل الراجح فهناك شرط الإيمان أن يكون" ذا دين وتقى 00ومن غلب عليه الدين فهو مأمون السريرة موفق العزيمة ويكون نصوحاً ودوداً .."
أما التأكيد على أهمية الشورى فإن الشيخ حفظه الله- أورد بعض النصوص التي تدعو إلى إبداء الرأي ومن ذلك ما وراه ابن ماجه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال " لا يحقرن أحدكم نفسه قالوا يارسول الله كيف يحقر أحدنا نفسه قال يرى أن عليه مقالاً ثم لا يقول به فيقول الله عز وجل يوم القيامة ما منعك أن تقول كذا وكذا فيقول خشية الناس فيقول: إياي أحق أن تخشى." وجاء في الحديث الشريف عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه أنه قال : أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم بخصال الخير أوصاني ألاّ أخاف في الله لومة لائم وأوصاني أن أقول الحق وإن كان مراً."
وتناول الشيخ بعض الأنظمة المعاصرة في العالم العربي الإسلامي التي تستبد بالشعوب باسم الديموقراطية الكاذبة والعلمانية فتحرم الناس من حقهم في التدين فقال: أي استبداد أعظم من إصدار قوانين ونظم تحرم الناس من حقهم في التدين وقوانين تلغي شرع الله وتغير أحكام الشريعة باسم الشعب.. "
فهل يتعلم الخطباء؟
 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

تلخيص كتاب منهج البحث التاريخي للدكتور د. حسن عثمان

الكلمات النورانية: وتحمل الكل

الإسلام وتعلم اللغات الأجنبية