وضعية دراسات الشرق الأوسط في الجامعات الأمريكية بعد الحادي عشر من سبتمبر


بسم الله الرحمن الرحيم

        عناية الغرب بدراسة العالم ومعرفته قديمة جداً، وقد تمثلت في المدارس والمؤسسات الاستشراقية ومراكز البحوث المختلفة، ولكن الغرب تخلى عن اسم الاستشراق، وإن لم يتخل عن المضمون، فظهرت دراسات الشرق الأوسط أو الدراسات الإقليمية أو دراسات المناطق. وقد نالت هذه الدراسات عناية الولايات المتحدة الأمريكية بخاصة بعد انحسار الإمبراطورية البريطانية واستعداد أمريكا لتحل محلها في مناطق نفوذها. فصدرت عدة مراسيم حكومية أمريكية تدعم دراسات الشرق الأوسط أو دراسات الأقاليم، وهو الأمر الذي تميزت فيه الولايات المتحدة مما لفت أنظار اللجنة الحكومية البريطانية التي زارت أمريكا للاطلاع على هذه الدراسات وكانت برئاسة سير وليام هايتر Sir William Hayter

        واستمرت عناية الحكومة الأمريكية بدراسات الشرق الأوسط حتى كانت لجنة الشؤون الخارجية في عهد السيناتور هنري جاكسون تستضيف العديد من أساتذة الجامعات الأمريكية والبريطانية لتقديم شهاداتهم في قضايا تخص المنطقة. ولقد استضافت هذه اللجنة المستشرق البريطاني (أصبح أمريكياً فيما بعد) برنارد لويس Bernard Lewis عام 1974م، كما أن الكونجرس الأمريكي عقد عدة جلسات عام 1985م لدراسة ما يسمى "الأصولية" في العالم الإسلامي.

        وازدادت حاجة أمريكا لهذه الدراسات بعد حرب الخليج الثانية أو احتلال العراق للكويت عام 1990م فزاد الدعم لهذه الدراسات وقدمت المنح التي كان بعضها مشروطاً بالخدمة في أجهزة الحكومة الأمريكية وبخاصة الاستخبارات. وقد أثار هذا الأمر اعتراض العديد من الأساتذة، ولكن الحكومة الأمريكية مضت في تمويل هذه الدراسات بطريقة مشروطة.

        وبالإضافة إلى الحكومة الأمريكية فإن الحركة الصهيونية العالمية التفتت إلى هذه الدراسات فزرعت فيها العديد من التلاميذ والأساتذة لتصدر الدراسات والمؤتمرات والندوات مؤيدة لوجهة النظر الصهيونية وليستمر الدعم غير المحدود لإسرائيل. كما أن بعض العرب والمسلمين قد قاموا بإنشاء كراس للدراسات العربية الإسلامية، ولكنهم لم يحققوا النجاح الذي حققه الصهاينة، بل إن بعض هذه الكراسي كانت نتائجه عكسية.

        وقد التحق بهذه الدراسات بعض الأساتذة العرب والمسلمين وحاولوا التأثير في هذه الدراسات من الداخل بأن تعرض قضايا المسلمين بطريقة حيادية ونزيهة، وأن لا يستمر النهج الاستشراقي القائم على تشويه الإسلام والمسلمين، وقد وصل الأمر إلى اغتيال بعض كبار الأساتذة من مثل إسماعيل الفاروقي وغيره. وقد كانت وجهة نظره أنه لا يمكن أن تنشأ دراسات محايدة في الولايات المتحدة الأمريكية.

        لكن أمراً آخر حدث في هذه الدراسات وهي أن ظهر إدوارد سعيد بكتابه الشهير (الاستشراق، عام 1978م) ونشاطاته المتميزة في مجال القضية الفلسطينية، فأحدث بعض التغيير في هذه الدراسات، وقد انتقل هذا التأثير إلى رابطة دراسات الشرق الأوسط فبدأت تظهر فيها أصوات تتحدث عن الفلسطينيين بصفتهم شعباً موجوداً أُخرج من أرضه وتعرض للقتل والسجن والتعذيب.

        وعندما سقطت الشيوعية وتفكك الاتحاد السوفيتي وانهارت الأنظمة في أوروبا الشرقية، وأعلنت نهاية الحرب الباردة ظهر في الغرب وبخاصة في أمريكا من ينادي باتخاذ الإسلام العدو الجديد بديلاً عن العدو السابق، وتولى كبر هذا الأمر عدد من المستشرقين على رأسهم برنارد لويس في محاضرته المشهورة في الكونجرس الأمريكي عن موقف العرب والمسلمين من الحضارة الغربية، ونشرها فيما بعد بعنوان صحفي مثير(جذور الغيظ الإسلامي) وشاركه عدد من الصحفيين وخبراء الشرق الأوسط من أمثال كرس كروتهامر وغيره.

        وجاءت أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001م ليظهر تغير كبير في دراسات الشرق الأوسط أولها استمرار التركيز على اتهام الإسلام بالإرهاب، وتنال المملكة العربية السعودية نصيباً كبيراً من هذا الهجوم لمكانتها الخاصة في العالم الإسلامي، وازدادت صلة نموذج من المتخصصين في دراسات الشرق الأوسط يتبنون السياسيات التي يتبناها المحافظون الجدد في الحكومة الأمريكية حتى أصبح هؤلاء الخبراء بالشرق الأوسط أو المستشرقون هم من يقدمون الغطاء الفكري للسياسة الأمريكية في العالم العربي والإسلامي وبخاصة في احتلال العراق وأفغانستان وغير ذلك من القرارات السياسية.

ولكن لم يقتصر الأمر على اتهام الإسلام بالإرهاب بل ظهر من ينادي بمراقبة دراسات الشرق الأوسط وإخراج النفوذ العربي من هذه الدراسات التي أخذت تتحدث بصراحة عن حقوق الفلسطينيين، بعد عقود من إغفالهم بل والتجني عليهم. ويزعم أن هذه الدراسات قد أخفقت في التنبؤ بوقوع هذه الأحداث وذلك في كتاب مارتن كريمر بروج عاجية على الرمال،([1])

ولم يتوقف الهجوم على الاستشراق أو دراسات الشرق الأوسط عند حد كتاب كريمر، بل إن دانيال بايبس المتخصص في دراسات الشرق الأوسط، ومؤسس مجموعة الشرق الأوسط في فيلادلفيا Middle East Forum أنشأ موقعاً في الإنترنت لمتابعة دراسات الشرق الأوسط ونشر في أوساط هذه الدراسات تشجيعاً لمن يقدم نقداً لأساتذة هذا الفن. كما ظهرت مجموعة يهودية في بوسطن تسمي نفسها "مشروع ديفيد لتدريب القادة" أسهمت في دعم مشروع بايبس بمتابعة دراسات الشرق الأوسط ومراقبتها، ودعم وجهة النظر الإسرائيلية في أحداث الصراع الإسلامي الإسرائيلي في فلسطين.

وكتب نوفيل دو أتكن Novell de Atkin  دانيال بايبس Daniel Pipes مقالة طويلة بعنوان "دراسات الشرق الأوسط ما الخطأ الذي حدث؟" يتحدثان في المقالة عن العديد من القضايا في دراسات الشرق الأوسط وكأنهما يقدمان مرافعة عن عدد من الباحثين في دراسات الشرق الأوسط وعلى رأسهم برنارد لويس، وفؤاد عجمي، وجوديث تكر وغيرهم وتوجيه النقد العنيف الحاد لإدوارد سعيد، وإيفون حداد، وجويل بنينJoel Benin ، ورشيد خالدي، ويوسف مسعد وغيرهم.

وإن من أخطر ما يتعرض له مجال دراسات الشرق الأوسط أن ينادي هؤلاء المحافظون الجدد أو المدافعون –بزعمهم- عن الموضوعية ومصالح الولايات المتحدة بإنشاء مجلس حكومي يقره الكونجرس الأمريكي ومجلس النواب لمتابعة دراسات الشرق الأوسط في الجامعات التي تحصل على دعم الحكومة الأمريكية.

لكل ذلك باتت الحاجة ماسة والضرورة ملحة إلى استكناه أوضاع دراسات الشرق الأوسط في الجامعات الأوروبية والأمريكية بصفتها أحد أكبر العوامل المؤثرة في توجيه السياسة الخارجية للإمبراطورية الأمريكية تجاه العالم الإسلامي من أجل استخلاص العوامل المؤثرة في تلك الدراسات ومصادر الضغوط التي تتعرض لها هذه الدراسات واتجهاتها ، وأفضل السبل المقترحة لإصلاح أحوال تلك الدراسات أو بث روح الموضوعية والمهنية العالية فيها أو إعادتها إلى خارطة البحوث العلمية وليست المسيسة.

        هذا وسوف يتناول البحث هذا الموضوع في ثلاثة مباحث هي

المبحث الأول: الاستشراق الأمريكي قبل  الحادي عشر من سبتمبر 2001م

المبحث الثاني: محاربة دراسات الشرق الأوسط بعد الحادي عشر من سبتمبر2001م

المبحث الثالث: ردود فعل الجامعات والأساتذة للهجوم على هذا المجال.

الخاتمة والتوصيات



1- المدير السابق لمركز موشيه ديان لدراسات الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بتل أبيب، وكتابه Ivory Towers on Sand صدر بعد أشهر من أحداث الحادي عشر من سبتمبر بدعم من مركز واشنطن لسياسات الشرق الأدنىWashington Institute for Near East Policy

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

تلخيص كتاب منهج البحث التاريخي للدكتور د. حسن عثمان

الكلمات النورانية: وتحمل الكل

الإسلام وتعلم اللغات الأجنبية