المشاركة في دورة بمعهد بروكنجز بواشنطن بأمريكا


     رحم الله الشيخ عبد الحميد كشك حين يصف ليلتين من العمر، ليلة الزواج وليلة الرحيل من الدنيا، ولو عاقر السفر كما أعاقره لكتب عن ليلة ثالثة وهي ليلة السفر. لقد كانت رحلتي إلى واشنطن تغادر مطار الرياض على الساعة الخامسة وعشرين دقيقة (وأفلحوا إن صدقوا) فلا بد أن يكون الراكب في المطار قبل الرحلة بساعتين وإن أضفت إليها مشوار الطريق لكانت ثلاث ساعات فمعنى ذلك أن أخرج من بيتي على الساعة الثانية بعد منتصف الليل. فقررت أن أخرج وأتفق مع سيارة أجرة لتقلني إلى المطار على الثانية عشرة ليلاً حتى يرتاح أهل البيت فلا معنى أن يظلوا مستيقظين من أجلي ولا معنى لبقائي في البيت مدة أطول. فقضيت الليلة في المطار حيث وجدت مقهى شربت فيه الشاي والقهوة والقهوة والشاي.

      وأخيراً قررت الخطوط أن نركب الطائرة فأخذونا إلى الطابق الأسفل ليعاد تفتيشنا من جديد فنحن في رحلة إلى أمريكا ولأمريكا خصوصيتها. وكان هناك عدد من الجنود الذين انبروا إلى تفتيشنا تفتيشاً دقيقاً . وكان أمامي راكب أجنبي يحمل حقائب من النوع الثمين جداً (مونت بلان) وفتشه الجندي تفتيشاً دقيقاً جداً بعثر أغراضه وعبث بها حتى وجد ميدالية معدنية فأخرجها ثم أعاد الحقيبة إلى الأشعة، ولمّا كنت خلفه فلا بد أن يسري علي الأمر نفسه ولكني عندما وجدت الجندي مشغولاً  به قررت أن أحمل حقيبتي وأسير. وفي مثل هذه المواقف لا بد من الجرأة وكما يقول أهل الحجاز امشي طويل طويل، ولا أعرف من أين جاءوا بالتعبير طويل طويل، ولعلها من طوّالي أي دون توقف ولا تريث. وأفعلها كثيراً في المطارات العالمية أنني لا أتلكأ في المشي وبخاصة أنني مطمئن بعدم وجود ما يستدعي تفتيشي.

      وركبنا الطائرة وكان بجواري محام أمريكي(لا أدري لماذا نستعين بمحامين أمريكان) وقد مضى على عمله في المملكة إحدى عشرة سنة. ولعله يتقاضى أضعاف أضعاف ما يمكن أن يحققه في بلاده. وربما لم يكن محام ناجح هناك ولأنه خواجه وذو عيون زرقاء وشعر أشقر فهو يفهم. وربما تحتاجه شركاتنا الكبرى في قضاياها الدولية والأمريكي يفهم في الأمور الدولية، أليس أمريكياًّ!!.؟؟
    لم يكن المحامي محباً للكلام فلم نتبادل الأحاديث كثيراً على الرغم من أن الرحلة تستغرق أكثر من ثنتي عشرة ساعة، ولكن ما دار من حديث جعله يطلب مني بطاقتي ليتعرف علي وأعطاني بطاقته. وكان يقرأ كتاباً بعنوان البرميل أو على برميل Over a Barrel وكأن الكتاب يعني الصراع على البرميل. وكان لديه عدد من المقالات المنسوخة من الإنترنت ومنها مقالة عن المشهد الأمريكي أو الوضع الأمريكي مع البطالة. أو التعايش مع البطالة. يعني أيها الأمريكان البطالة فيكم فيكم فماذا أنتم فاعلون؟ والبطالة كما هو معروف جزء من المشهد الرأسمالي فلا بد من بقاء نسبة من العمال بلا عمل حتى تدور عجلة الاقتصاد بالطريقة التي يريدها الرأسماليون الذين أسمتهم مجلة التايم ذات مرة (المليونيرية القتلة) لأنهم يقتلون العمال بجعلهم عاطلين من أجل تحقيق مكاسب لمجلس الإدارة ولرئيس الشركة ورئيس مجلسها فيتربع هؤلاء على إمبراطوريات المال وليذهب العمال إلى الجحيم.
    وكما السكوت خطير فكذلك ذكر نصف الحقيقة وربما يكون ذكر نصف الحقيقة أخطر من السكوت، وهذا ذكرني بزميل كنت أتحدث معه عن المحاضرات في النظم الإسلامية:السياسي والاقتصادي وما نعانيه في العالم الإسلامي من بعدنا عن تطبيق هذه الأنظمة فذكر لي قول الحق سبحانه وتعالى: (إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون} (البقرة:159) ونصف الحقيقة أو أنصاف الحقائق قد تضفى صفة الحقيقة على ما هو كذب أو على الأكاذيب، ويصبح الكاتب خادعاً ومضللاً، ويشبه هذا ما كتبه الدكتور المستشار علي جريشه حول التطبيق الجزئي للإسلام وأنه أخطر.
    اصطحبت معي كتاباً ضخماً بعنوان السعودية سيرة دولة ومجتمع: قراءة في تجربة ثلث قرن من التحولات الفكرية والسياسية والتنموية) ومؤلفه عبد العزيز الخضر، والناشر الشبكة العربية للأبحاث والنشر في بيروت. والعجيب أن الناشر يتبرأ من المسؤولية عن الكتاب. وما تعودت الناشرين يفعلون ذلك إنما تفعله المجلات والصحف وليس الناشرون وعبارة الناشر: "الآراء التي يتضمنها الكتاب لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الشبكة العربية للأبحاث والنشر" ولم أجد ما أصفهم به سوى (جبناء جبناء جبناء، هل تتولون نشر كتاب من ثمانمائة وأربعة وستين صفحة ثم تتخلون عن المسؤولية. ثم أليس من المعروف أن الناشر صاحب فكر ورسالة فلا ينشر شيئاً إلاّ وهو يراه حقيق بالنشر، والمؤلف هو الذي يتحمل مسؤولية ما كتب)
     وبدأت أقرأ في هذا السفر الضخم وأتنقل بين أقسامه وصفحاته فعنّ لي أن أسأل لماذا يكتبون؟ وكنت قد قرأت قبل أيام عن حديث للرسول صلى الله عليه وسلم عن فشو القلم، وشرحه أنه يكثر الذين يكتبون بغير علم، وعندما تستعرض الصحف والمجلات والكتب الصادرة تجد مصداق حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم، فما أكثر الكتبة الجاهلين. فقد كان العلماء لا يكتبون إلاّ ما يعتقدوا أنهم راضون عنه ويرجون وجه الله عز وجل فيما يكتبون أو لا يخجلوا مما كتبوا، ولكننا اليوم أمام سيل من الكتابات التي أقل ما يقال إنها لا تسوي قيمة الحبر الذي كتبت فيه.  وبالتالي ينقسم الكتّاب إلى : أولئك الذين يقولون الحقيقة، والذين يقولون نصف الحقيقة، والصنف الثالث الذين يسكتون عن الحقيقة بل غالطوا الحقائق وأخفوها.
     وأبدأ بالساكت فالسكوت خطير وهو ما وصف ذات يوم بسكوت المقابر، والسكوت في نظري عملية سلبية لأنه يعطي الحاكم قوة بأن هؤلاء الساكتين لا بد راضعون عن الأوضاع وقد حذر الرسول صلى الله عليه وسلم من السكوت حين قال: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان أو ليس وراء ذلك مثقال ذرة من خردل من إيمان)
      وتأخرت الرحلة على الرغم من أن الطائرة كانت موجودة في المطار فلماذا التأخير هل المسألة تتعلق بالصيانة أو بشيء آخر. وحينما كنت موظفاً في الخطوط السعودية كانت تأتينا تقارير الحركة وفيها بعض الطرائف عن تأخر الرحلات مثل تأخر وصول الملاحين، أو تأخر وصول شخصية مهمة جداً أو أسباب أخرى لا أذكرها، ولكن لماذا تأخرت الرحلة اليوم؟ لم تخبرنا الخطوط السعودية فلا اعتبار لنا عندها. ومن الطريف أن رحلة تأخرت ربع ساعة ذات مرة فأعلنت الخطوط السعودية ذلك. فقلت يا سلام ما هذه الدقة؟ من قال لكم إننا يهمنا أن تتأخر ربع ساعة فهذه قضية هينة، ولكن أن تتأخر ساعتين وثلاثة ولا يتم الإعلان عن ذلك ولا الاعتذار فأمر لا يليق بشركة طيران عالمية كبرى.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

تلخيص كتاب منهج البحث التاريخي للدكتور د. حسن عثمان

الكلمات النورانية: وتحمل الكل

الإسلام وتعلم اللغات الأجنبية