الوداع في حياتي ووداع أبي رحمه الله أشدهم حزناً


 

ودعت في حياتي كثيراً واستقبلت كثيراً

 

كان أول وداع في حياتي وداعاً رسمياً حين صدر قرار ابتعاثي من التعليم الفني بوزارة المعارف إلى الولايات المتحدة الأمريكية لدراسة الإدارة الصناعيةً. فاجتمعت الأسرة ليلة السفر وكانت حفلة كبيرة اجتمع فيها أهلي وبيت عمي وزوجة جدي أم عصام رحمها الله. وكانت سهرتنا تلك الليلة في الدكّة –وهي مجلس يطل على حديقة المنزل، وكان في السابق أول مجلس حين تدخل بيوت المدينة القديمة. حين كانت لنا حديقة صغيرة فيها بعض الأشجار والشجيرات. وكانت عواطفهم وأحاسيسهم قوية يودعون ابناً نجيباً سيغادر إلى العالم الجديد للعلم والدراسة..وكانوا مع الوداع كرماء حيث تلقيت بضع هدايا نقدية..وكان النقد عزيزاً في تلك الأيام حيث تخرجت في الثانوية العامة ولم لدي مصروف محدد ولم أعرف كيف أكون مسؤولاً عن نفسي ..حتى مقصف المدرسة أو البوفيه فلم أعرف طريقه طيلة ثلاث سنوات، وها أنا الآن في يدي المال لأنفق على نفسي..

 

ودعتهم وتطلعاتي إلى الأمام إلى البعيد المجهول أكثر من اهتمامي بالماضي الذي أودع أو الناس الذين جاءوا ليسلموا علي..فهل الحماسة للذهاب إلى أمريكا أنستني أهمية تلك اللحظات ؟

 

وتكرر الوداع في كل مرة أعود فيها من أمريكا ثم أغادر المدينة مجدداً وهم ينتظرون قرب اليوم الذي أحصل فيه على الشهادة….

 

ومرت خمس سنوات ورجعت بلا شهادة

 

وكان لقاء والدي وأهلي لي عظيماً فقد ظنوا أنني حصلت على شهادة، وأما أنا فقد كنت في عالم آخر …كنت قد تأثرت بموجة التمرد على الشهادات وعلى جوانب في التعليم الجامعي، وكانت قد دارت مراسلات بيني وبين أبي لمحت إلى مثل هذه الآراء، ومع ذلك لم يكن يتوقع أن يعود ابنه فاشلاً فأقيمت حفلة كبيرة لتكريمي، وبعد أن انتهت الحفلة عرف والدي رحمه الله أنه ليس معي شهادة. فاختلى بنفسه وبكى بكاءً حاراً فهذا ابنه معقد الأمل ومحل الرجاء يعود خائباً…ثم فكر قليلاً وحاول أن يواسى نفسه أن ابنه عاد سليماً معافى فلم يصبح مدمن مخدرات أو مدمن خمور ، وهذه ليست نهاية الدنيا.. ولمّا بدأت البحث عن وظيفة علمت كم هي مهمة تلك الورقة التي يسمونها الشهادة حتى لو كانت من أتفه الجامعات فقد كانت كافية للحصول على الوظيفة.

 

وأراد الله أن يفتح الانتساب بجامعة الملك عبد العزيز عام 1394هـ فالتحقت بقسم التاريخ بكلية الآداب وكان أن حصلت على وظيفة مساعد إداري في الخطوط السعودية بعد معاناة طويلة مع الواسطات والرجاءات، ولكنها كانت وظيفة جيدة وكانت الخطوط السعودية في ذلك الوقت من أفضل الجهات في امتيازات الموظفين وفي التشجيع على الدراسة.

 

وحدث وداع آخر في حياتي وكان مؤلماً حقاً حين وجدت غيث وأروى بلا أم أو مع زوجة أب فكتبت كلمات أصف تلك الحالة ومما أذكر أنني كتبت في تلك اللحظات ….."قتلت ابني وابنتي حين حرمتهما من أمهما ..ماذا سيقول صغيراي غداً عندما يناديان أمي أمي فلا جواب..ستجيبهم امرأة أخرى تزعم لهما أنها أمهما أو في مقام الأم وهيهات هيهات… وكانت لحظات لا أستطيع وصف مشاعري وقتها … ولم يكن حزني على نفسي أن أعود إلى حياة المطلَّق مرة أخرى بقدر حزني على الصغيرين الذين كنت أصفهما بالوليفين لتقاربهما في السن فلم يكن الفرق بينهما سوى سنة وشهران فقط ..

 

وعانى غيث وأروى أشياء لم أعرفها على الرغم من أنني حاولت أن أعوضهما فقد الأم حيث كنت أقوم بدور الأم والأب في آن، وحرصت على أن لا يغيبا كثيراً عن أمهما فقد كنت أعيش في جدة ووالدتهما في المدينة فكنت أسافر بهما كل أسبوعين أو ثلاثة وكانت فرصة لي لزيارة أبواي في المدينة فما أن نصل المدينة حتى أوصلهما إلى أمهما ، وأعود إليهما بعد يومين أو ثلاثة …ولكن كم من الآلام عاشا وعاشت أمهما ..فأحمد الله أن أصبح غيث الآن طبيباً وأروى أماً لأربعة أبناء بنتين وولدين خديجة وخلود وأحمد ومازن .

 

وثمة وداع ثالث كان الأشد إيلاماً فما زالت لحظاته ماثلة أمامي ناظري وهو عندما ودّعت أبي وهو مسافر إلى بريطانيا للعلاج فكان منظره يوحي بأنه لن يعود إلى المدينة المنورة، وكان حزن تلك اللحظات يؤكد أنه الوداع الأخير حتى إن تلك اللحظات الصعبة كانت تمهيداً لما حدث بعدها من علمنا بخبر وفاته رحمه الله بعد العملية الجراحية التي أجريت له في القلب.

 

ودّعت أبي في مطار المدينة المنورة ..ووداعي لأبي ليس كأي وداع آخر .. لقد كنت قريباً إليه رحمه الله قرباً خاصاً، وسأبدأ من السنوات الأولى فقد استقبلني بحب كبير واختار لي اسماً لقبيلة عرفت بالعزة والمكانة بين العرب فهي قبيلة مازن وكان يردد بيت الشعر الذي يدل على ذلك:

 

لو كنت من مازن لم تستبح إبلي           بنو اللقيطة من ذهل بن شيبان

 

أحبني رحمه الله وكان كريماً في التربية بل أعتقد أن له فلسفة خاصة في التربية أو إنها كانت بعد نظر وعمق فكر وفراسة… لا أدري كان يعطيني من الثقة ما لا يمكن أن أتخيله..وعلى الرغم من قوة شخصيته والمهابة التي أعطاه الله إياها لكنه كان رحب الصدر يسمع للنقاش والرأي المخالف لرأيه بل كان يعجبه أن يكون لأبنائه رأياً..

 

عدت من المدرسة ذات يوم وكنت في الصف الثالث الابتدائي منتقداً أن المدرسة كلّفت أستاذ التربية البدنية بتدريس المواد جميعها، فما كان من أبي رحمه الله إلاّ أن حضر إلى المدرسة في اليوم التالي ليخبر المدير بما قلت، فاستدعاني المدير لأقول هذا الرأي أمام الأساتذة… ثم شرح لي أن الأستاذ في الأصل مؤهل لتدريس جميع المواد… فهل بربكم هناك أب يسمع أو يسمح لابنه أن ينتقد المدرسة ثم لا يكتفي بذلك بل يشجع ابنه على أن يقول رأيه أمام الجميع؟ أين نظريات التربية التي ندرسها ونفخر بأننا ابتعثنا المئات أو الآلاف لدراستها في الغرب من هذه التربية الرائعة

 

وكان يصر على أن أحمل هدية بعد ظهور النتائج لأستاذ الفصل لتربتي على أهمية العناية بالأستاذ وإكرامه… لقد كان مطمئناً إلى مستواي العلمي وواثقاً بنزاهة المعلمين، وما كان في أيامنا من يشكك في تلك النزاهة … لقد خربت كثير من الضمائر بعد ذلك الزمن..

 

وبعد عودتي من أمريكا بدأت الكتابة الصحفية بمقالة في صحيفة المدينة المنورة بعنوان (عندما تصبح القيم فريسة للحياة المادية) ثم تجرأت وبعثت بمقالة إلى مجلة المجتمع بعنوان (مشاهدات عائد من أمريكا: وحيث ضاعت الروح) فنشر فتجرأت وأرسلت مقالة أخرى ثم ثالثة…وفي يوم من الأيام استشهد الأستاذ أحمد محمد جمال رحمه الله ببعض ما قلت في تلك المقالات. فقال لي والدي رحمه الله هذه شهادة مهمة من كاتب كبير لكاتب مبتدئ مما يدل على أنه قرأ ما كتبت وأعجبه.. لم أفهم معنى تلك الإشارة حتى دخلت سلك التدريس الجامعي الذي يعتني بمثل هذه الاستشهادات (يسمونها الاستشهاد العلمي) –هذا في الجامعات الراقية وليس في الجامعات العربية عموماً-

 

ثم كانت لي زاوية في ملحق المرأة بصحيفة المدينة المنورة بعنوان (كلمة رجل) فكان يعجبه العنوان، وكان رحمه الله ينظر إلى ما وراء الألفاظ، وكان يقرأ ولا يعلق ولكن نظرات الإعجاب والرضا لم يكن صعباً ادراكهما في لهجته أو نظراته.

 

وفي يوم من الأيام كنت أسير معه في أحد شوارع المدينة فقال لي لقد أخطأت – والمجتمع أيضاً مخطئ- حين كنت أصر على أن تكون طبيباً أو مهندسا، فالطبيب يمكن أن يعالج حتى عشرين مريضاً في اليوم، ويصبح العدد مائة وعشرين مريضاً، ثم يتكرر المرضى أنفسهم في الأيام التالية، والطبيب يعالج أمراض البدن أما الكاتب أو المفكر أو المصلح فيكتب المقالة فيقرأها عشرات الألوف، فالكاتب أبعد أثراً وأكثر نفعاً وأضاف إن صاحب الكلمة المكتوبة تبقى بعده أجيال وأجيال.

 

لقد كان وداعاً صعباً وإني أعترف أنني لا أحيد التصرف في هذه اللحظات حيث إنني أنسحب بسرعة ولا أنظر إلى الخلف لأشير لمن أودع، ويظن المودع أنني سرت مسرعاً لا أريد أن أراه مرة أخرى، ولكن الأمر فيما أعتقد أنني أفقد القدرة على التركيز في تلك اللحظات فأهرب بسرعة من المكان. ولكن منظر تلك اللحظات مازال ماثلاً أمامي وهو يدخل مبنى المطار أتخيله كأنه أمامي اللحظة..

 

وكلما تذكرت والدي –وكثيراً ما أتذكره- أتساءل هل كان موجوداً حقاً… هل كان لي أب يملأ علي الدنيا وكان قريباً مني وكنت قريباً منه حتى إنني في لحظات كنت أتخيل صعوبة الحياة بدونه أو حتى استحالة الحياة بدونه..

 

لقد كان لوالدي رحمه الله بصمات في حياتي لا يمكن أن أنساها، فهو الذي قادني إلى عالم المؤتمرات وهو الذي لم يدخل جامعة ولم يحضر المؤتمرات وربما لا يعرفها حقيقة. فقد اتصل بي أستاذ جزائري كبير هو الدكتور أبو القاسم سعد الله –كان مناقشاً لي في رسالة الماجستير وأسهم في إرشادي وتوجيهي في أثناء البحث- ليخبرني بأن المجلس الشعبي البلدي في قسنطينة بالجزائر سيعقد مؤتمرا بمناسبة يوم العلم وبإمكاني أن أتقدم بموضوع وسيوجهون لي الدعوة. وراسلتهم، وكانت الرسائل عبر البريد –يصل بعضه وكثير منه كان يضيع- فجاءتني الدعوة من خلال برقية وحتى إني ذهبت أنا ووالدي لتسلم البرقية. وهنا قال لي لا تنتظر أن يرسلوا إليك التذكرة، إن لم يكن معك قيمتها فاقترض مبلغا واشتر التذكرة وسافر… لم يكن في ذلك الوقت عوائق ضد سفر المحاضر على حسابه، لكن لم يكن متخيلاً أن الجامعة ترسلني على حسابها- فسافرت وشاركت في المؤتمر، ودعيت إلى المؤتمر في السنة التالية، ولقيت باحثاً من تونس فدعاني إلى حضور مؤتمر في تونس. فحضرت ثلاث مؤتمرات قبل أن أحصل على الدكتوراه وألقيت محاضرة عامة في النادي الأدبي قبل حصولي على الدكتوراه فلا نامت أعين الكسلاء… المثبطون الجهلاء….

 

 

 

 

 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

تلخيص كتاب منهج البحث التاريخي للدكتور د. حسن عثمان

الكلمات النورانية: وتحمل الكل

الإسلام وتعلم اللغات الأجنبية