آثار الابتعاث للشيخ عبد الله بن سعد أبا حسين


بسم الله الرحمن الرحيم

 

في بداية هذا التقرير المتواضع أتقدّم بالشكر والعرفان لفضيلة الدكتور مازن مطبقاني الذي اهتمّ بموضوعه اهتماماً بالغاً، وأبدى لي من التشجيع ما جعلني أزيد فيه، وإلا فإنّ أساس هذا الجمع كان إعداداً لخطبة جمعة.

 

وأنبّه إلى أنّ هذا التقرير ليس بحثاً للكاتب، وإنّما مدارسة ومذاكرة مع أستاذي المتواضع الدكتور مازن ـ وفقه الله ـ حول هذه القضية المهمّة "آثار الابتعاث" ، وأرجو أن ترتقي هذه المدارسة إلى بحثٍ صغير في الأشهر القادمة، لا سيّما إذا أضيف إليها زيادات من تجارب بعض الدعاة الذين لهم جهود دعوية في دول يكثر فيها المبتعثون السعوديون كأمريكا وبريطانيا، والتقوا ببعض الطلاب وزاروهم .

ومن خلال تجربتي الخاصة فإنّني اكتشفت عبر أسئلة ومحادثات بعض أبناءنا الطلاب وغيرهم من الجاليات المسلمة (عربية وغير عربية) غور وعمق قضية بقاء المسلم في مجتمع يدين بغير دين الإسلام، وتُباح في قوانينه ما لا يباح في الإسلام، وأدركت شيئاً من سُبُل إضعاف آثارها، بل تيقنت بأنّه يمكن استغلالها لإعطاء صورة ناصعة لديننا الحنيف وسماحته فضلاً عن التمسّك والاعتزاز به، اقتفاءً بما فعله الصحابة رضي الله عنهم حينما هاجروا إلى الحبشة واختلطوا بذاك المجتمع المتدين بدين النصارى، والمتعوّد بعاداته وتقاليده الخاصّة، وبقوا محافظين على ما يُمكن أن يُعبّر عنه اليوم بالهوية الثقافية، ولم تذب تلكم الهوية الشريفة في ذاك المجتمع.

 

                                                                        كتبه 

                                                     عبد الله بن سعد أباحسين

 

 

 

 

آثار الابتعاث

 

 

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد:

 

فإنّ الابتعاث مصطلح يعني ـ بحسب أغلب تطبيقاته في مجتمعنا ـ إرسال شاب مسلم ليتعلم علماً في بلد غير مسلم، وبالتالي يختلط هذا المسلم بمجتمع له قانونه "الاجتماعي" الذي يحدّد علاقة الفرد بغيره بلا اعتداد أو اعتبار بالأطر والحدود التي شرعها ديننا الحنيف "الإسلام"، ومن هنا يصطدم المسلم بمعايير اجتماعية تختلف عن المعايير التي نشأ وتعوّد عليها، فيصحّ لنا أن نقول عن الابتعاث: بأنّه اتّصال بين حضارة وحضارة، وتلاقٍ بين قيمٍ وقيم.

 

هذا الاتصال والتلاقي له ظروفه الخاصّة؛ لأنّ المسلم قليل بين كثير، ومختار آمن لا مضطهد كحال المسلمين الذين اختلطوا بغيرهم في ظرف احتلال أو ما شابه، فحال المبتعث تختلف عن حال مسلم الأندلس ـ مثلاً ـ إبّان طغيان النصارى الكاثوليك فيها في القرن السادس عشر الميلادي وما بعده، وتختلف عن حال مسلم مصر إبّان احتلال الفرنسيين ثم الإنجليز .

 

وعندما يصطدم المسلم بفقدان المعايير التي نشأ وتعوّد عليها، ويكون في حالة أمن واختيار، فإنّ تأثير الاصطدام يقوى، وخطر فقدان المعايير التي تعوّد عليها أو اهتزازها والشك فيها أيضاً يقوى، إذ يختلف تماماً عن مسلم يغيّر معاييره قسراً تحت ضغط محتل أو إكراهاً بفعل اضطهاد طاغٍ .

 

وأيضاً: يقوى هذا التأثير في حال ضعف الاقتناع بالمعايير الإسلامية، والاقتناع أساسه المعرفة البرهانية لا العاطفية، ومن ثمّ يضعف الاعتزاز بها، وهذا ـ حتماً ـ سيؤدّي بدوره إلى عدم إظهار ما لا يُعتزّ به، ومن ثمّ يقوى البديل خصوصاً إذا دُعم بتلبية فوضوية لنداء الغريزة، أو كان طريقاً أسهل لقضاء مصلحة دنيوية.

 

لكن... كيف يحصل هذا التأثير؟

 

إنّ مجرّد الانتقال من بيئة إلى أخرى ومن ثقافة إلى أخرى يُعرّض الإنسان إلى ممارسات تكيّف، والأخطر من هذا أنّه مع طول المدّة التي يمكث الطالب خلالها في ذلك المجتمع يكتسب النمطية الغربية في المعيشة والعلاقات الاجتماعية المختلفة، وهذه النمطية ربما تكون منبثقة عن أسس فكرية كالنظرة للكون والحياة والإنسان، ومن هنا أثبتت عدّة دراسات ميدانية أنّ طول الفترة الزمنية التي يقضيها الطالب في بلد الدراسة لها علاقة وثيقة ببعض التغيرات الفكرية والسلوكية التي تطرأ عليه، فكلما طالت مدّة بقاء الطالب زاد الأثر على السلوك والنظرة للأمور والحكم على الأشياء.

وهذا الأثر لا يتّضح خلال السنتين أو الثلاث سنوات الأولى، كما أثبتت بعض الدراسات.

وما يحدث للطالب جراء هذه المؤثرات قضية نسبية تعتمد فيما يظهر على عمر الطالب وطول الفترة التي يقضيها ومدى تماسكه الحضاري أو الانتماءي وأمور أخرى، فمثلاً الطالب يقدم على الولايات المتّحدة الأمريكية، وهي دولة لا تعتقد أنّها أفضل الثقافات الإنسانية بل تذهب إلى أبعد من هذا حيث تعتقد ـ في الجملة ـ أنّ الثقافات الأخرى يجب أن تحذو حذوها وتسلك سبيلها، فتجعل ثقافتها مقياساً في نظرتها للأمور والأشخاص، فالباحثون هناك يتعاملون مع الطلاب الأجانب بمعيار "الثقافة الأمريكية"، بمعنى أنّهم يعبّرون عن طالب بأنّه ضيّق الأفق أو واسع الأفق بهذا المعيار والمقياس، فكلما تشرّب تلكم الثقافة وتخلّى عن أصالته رأوا أنّه أوسع أفقاً، وكلما تمسّك بأصالته وأقلّ من الثقافة الأمريكية ضاق أفقه.

ومن الطبيعي مع هذا المعيار أن يعيش أبناؤنا ضغطاً ربما أَطَرَ بعضهم على ممارسات يتكفل طول البقاء هناك بجعلها قناعات مستودعة في أفئدتهم وعقولهم، وبطبيعة الحال ستقدم معهم هذه القناعات عندما يعودون إلينا.

وعندما يتربّع "من كان طالباً" على كرسيّ الوظيفة فإنّ تلكم القناعات ستؤثّر في قرارٍ إداري تنفيذي أو تشير به في مجتمعنا الإسلامي الذي له معاييره الخاصّة المستقاة من حكيم حميد.

ومثل هذا الكلام الذي أكتبه يبقى مجرّد دعوى تفتقر إلى إثبات ودليـل، ولهذا سـأذكر ـ فيما يلي ـ نتائج دراسات قام بها باحثون في جامعات أمريكية على شرائح متفرقة من الطلاب المبتعثين، وإحدى هذه الدراسات بينت الأطوار التي يمر بها الطلاب في اكتساب معايير المجتمع الغربي، والبقية أظهرت عوامل إسراع هذه العملية "الاكتساب" :

 

الدراسة الأولى: دراسة جون براي (1980م):

نتيجتها: ظاهرة التثاقف تأخذ مساراً ذا ثلاثة أطوار:

1-             الاتصال

2-             الصراع

3-             التكيّف

وهذه الدراسة سأفصّل فيها لعمقها:

فالاتصال يحدث عندما تلتقي ثقافتان أو أكثر ببعض عن طريق الاحتكاك المباشر بين الأفراد أو المجموعات.

 

والصراع يحدث بسبب الاحتكاك المباشر بين القيم والرؤى المختلفة أو المتنوعة، والتي تميّز الثقافات الإنسانية عن بعضها، والتي ـ عادةً ـ ما تكون الشخصية الإنسانية انعكاسٌ لها.

وكقاعدة عامة: في كل الظروف التي يحصل فيها الاتصال الثقافي يقود هذا الاتصال في فترة ما إلى نوع من الصراع لكنّ أبعاد هذا الصراع تكون أعمق، وحدّته أشدّ كلما زاد الاختلاف بين الثقافتين أو الثقافات المتلاقية، أي كلما كانت بعيدة عن بعض من ناحية فكرية ونفسية في نظرتها للكون والإنسان والحياة.

 

أمّا التكيف فيُقصد به الطرق المختلفة التي اُتّبعت لتخفيف حدّة الصراع أو أدّت إلى إنهاءه تماماً.

وهذه الأطوار الثلاثية نسبية تعتمد على الظروف الحضارية التي يتمّ بها الاتصال بين الأفراد والجماعات، فأقل مستوى من التبادل الثقافي يحصل عندما يكون الاتصال عرضياً أو لفترة قصيرة، وأقوى مستوى من التبادل (وما ينتج عنه من صراع وتكيف) يحصل عندما يكون الاتصال مقصوداً ومخططاً له، مثل السيطرة على مجتمع ما بالغزو العسكري أو تغيير سماته ومقوماته الأساسية عن طريق التعليم أو التوجيه بشتى أنواعه أو عن طريق استيطان أرضه فترة طويلة من الزمن.

وهناك أربعة أنواع (من خلال دراسة جون براي) من عمليات التثاقف تمثل أساليب وطرق ردود الفعل عندما يحصل التبادل الثقافي، وهي: الذوبان، والاندماج، والرفض، والتفرّد، ومثّل هذه الأربع الهنود الحمر كما في الدراسة المشار إليها.

فالذوبان: استسلام للثقافة الغربية، وانسلاخ من الميزات الثقافية التي كانت تميزهم.

والاندماج: محافظة على نوع من الهوية الثقافية، ومحاولة توجيه الجهود إلى الانتماء إلى إطار اجتماعي أكبر يتّسم بالتعدّدية.

والرفض: انسحاب وعُزلة فكرية ونفسية، وأحياناً جسدية كمستوطنات خاصة فيها أمان نفسي واجتماعي تُمارس فيه العادات والتقاليد والطقوس ويُحافظ فيه على الهوية الثقافية.

والتفرد: انسلاخ من الثقافة الأصلية وضياع الهوية المميزة لهم، وفي نفس الوقت رفض الثقافة الغربية (يعني تطوير ثقافة ثالثة مختلفة عن الثقافتين الأصلية والغربية) كما حصل من تبادل ثقافي بين مكسيكيين أمريكيين (مجموعة من الأقلية الأسبانية الأمريكية ذات الأصل اللاتيني) وبين المجتمع الأمريكي.

 

 

 

 

 

 

الدراسة الثانية: الباحثة ريشا فروستات (1950م)

 

موضوعها: الأسباب الكامنة وراء مشاكل الأجانب في الجامعات الأمريكية، والعلاقة بين كثرتها والفترة الزمنية التي يقضيها في الدراسة.

 

نتيجتها:

1-             مشاكل الطلبة الذين هم من دول العالم الثالث أكثر وأشدّ حدّة من مشاكل (أميكان درسوا في أوربا).

2-             طلبة الدراسات العليا أكثر عرضةً للمشاكل من طلبة الدراسات الجامعية.

 

الدراسة الثالثة: الباحث فرانسيس أوكاديجي (1963م):

 

موضوعها: استقصاء بعض مشاكل التكيف التي يتعرض لها طلبة أفارقة في الجامعات الأمريكية.

العيّنة: (80) طالباً من جامعتي أنديانا وبوردو في ولاية (أنديا نابلس)

نتيجتها: نظرة الطالب لوطنه ومدى شعوره بالتميّز الحضاري مرتبط ارتباطاً وثيقاً بنظرته للحياة الأمريكية وتشكيله اتجاهات معينة نحو الشعب الأمريكي.

 

الدراسة الرابعة: الباحثان (رتشارد لامبرت) و (ن. برسلر) (1961م):

 

موضوعها: نظرة طلبة هنود (من بلاد الهند) وطلبة أسكندنافيين وفرنسيين نحو الشعب الأمريكي.

نتيجتها: الهنود مستاؤن من الحياة الأمريكية وانتقدوا أكثر جوانبها انتقاداً لاذعاً، والأسكندنافيون والفرنسيون نظرتهم جيدة وحسنة في الغالب.

وفُسّر ما حصل للهنود أنّه ردّة فعل لنظرة الأمريكان للشعب الهندي حيث أفرزت هذه النظرة حماس الطلبة الهنود للدفاع عن الذات والتعبير عن مشاعر الاستياء وما شابه ذلك، أما الفرنسيون والاسكندنافيون فيرجع موقفهم إلى أنّ الشعب الأمريكي ينظر لشعوبهما نظرةً جيدة وحسنة لا تُقارن بما يحمله من أفكار تجاه الشعب الهندي.

 

الدراسة الخامسة: الباحث رتشارد موريس (1960م):

 

موضوعها: قريبة من الدراسة السابقة (الرابعة)

نتيجتها: وطن الطالب وبلده الذي جاء منه له تأثير كبير في نظرته للشعب الأمريكي، فالطالب الذي يعتقد أنّ الأمريكان ينظرون إلى بلده نظرة دونية كان تقييمه للحياة الأمريكية سيئاً، وانتقاده شديداً.

أمّا الطالب الذي يعتقد أنّ الأمريكان ينظرون إلى بلده نظرة جيدة فقد كان تقييمه للحياة الأمريكية إيجابياً.

 

الدراسة السادسة: الباحثان (د. سويل) و (د.ديفد سن) (1961م):

موضوعها ونتيجتها متقاربة مع الدراسة الرابعة والدراسة الخامسة.

 

الدراسة السابعة: الباحث أراج رودياني (1975م):

نتائجها:

1-     طول الفترة الزمنية التي يقضيها الطالب في بلد الدراسة لها علاقة وثيقة ببعض التغيرات الفكرية والسلوكية التي تطرأ عليه، فكلما كانت حياته هناك أطول زاد التأثّر على السلوك والنظرة للأشياء والحكم عليها.

2-     سعة الأفق والنظرة العالمية عند الطالب ليس مردّها فقط معرفته وصلاته بثقافة بلد الدراسة (الثقافة الأمريكية) بل إنّ من أسباب تكوينها وتطوّرها الاحتكاك بين الطلاب الأجانب أنفسهم الذين جاؤا للدراسة في الولايات المتحدة الأمريكية.

 

 

الدراسة الثامنة: الباحث محمد بايند (1977م):

 

العيّنة: طلاب من أفغانستان وإيران.

نتائجها: من بين أسباب مشاكل الطلبة: عدم توفر الفرصة لديهم لتكوين علاقات مع الأمريكان سواء كانوا مدرسين أو طلبة أو غيرهم.

لكن الباحث لم يتطرق إلى سبب عدم تكوين هذه العلاقة.

 

الدراسة التاسعة: الباحث مالكولم ألس (1978م):

 

العينة: طلاب مختلفون، ومنهم (152) طالباً سعودياً.

 

نتائجها:

1-             ضعف اللغة يعتبر أهمّ مشكلة يواجهها الطالب (وهذه النتيجة اتفقت عليها الدراسات السابقة).

2-             لا يغيّر الطلبة توجهاتهم الثقافية والدينية في السنوات الأولى إلا شيئاً يسيراً.

3-             كلما ازدادت الفترة الزمنية ازداد تقديرهم للعلم والمعرفة، وازداد الأفق توسّعاً.

 

في ختام هذا التقرير أوصي بما يلي:

 

أوّلاً: أن تُعمل دراسات ميدانية على المبتعثين في جامعاتنا خصوصاً جامعتنا الحبيبة الملك سعود، وتكون موضوعاتها كالتالي:

1-     فعالية واستمرار تأثير الابتعاث على المبتعثين السعوديين بعد العودة إلى مجتمعهم ووطنهم، ودور المجتمع في احتضان المتأثّر وتقليل وإضعاف ذلكم التأثّر.

2-     دور العلماء، والدعاة، والخطباء، وأئمة المساجد في تثقيف الأسر السعودية للتواصل مع الأبناء المبتعثين وإمدادهم ثقافياً ودينياً وفكريّاً بما يكفل حفظ الهوية الثقافية ويُبقي على الاعتزاز بها، خصوصاً مع وجود تقنية (الإنترنت) التي تكفل الاتصال والمشاهدة والتحادث لساعات طويلة في الأسبوع مع المبتعث.

3-             دور الزوجة السعودية المبتعثة مع زوجها المبتعث في إضعاف تأثير المدّ الثقافي والفكري على الزوج والأبناء.

 

ثانياً: الوصية لوزارة التربية والتعليم بأن تعتني في مناهج التعليم الثانوي بجانب تقوية ما يُسهم في الاعتزاز بالهوية الثقافية السعودية القائمة على التمسّك بديننا الحنيف والأخلاق التي يأمر بها الإسلام، وفي المقابل كشف حقيقة الثقافة الغربية بمصداقية وموضوعية، تحكي ما توصلوا إليه من تقدّم تقني في مقابل تفكك روابط المجتمع، وانقلاب على الثوابت الأخلاقية في المجتمعات الإنسانية.

 

أسأل الله تعالى أن يحفظ أبناءنا المبتعثين، ويردّهم إلينا غانمين بالمعرفة، سالمين من خطر المجتمعات الغربية.

والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

تلخيص كتاب منهج البحث التاريخي للدكتور د. حسن عثمان

الكلمات النورانية: وتحمل الكل

الإسلام وتعلم اللغات الأجنبية