أثر الاستشراق الأمريكي على الإعلام الأمريكي وضغط المسلمين عليه


كتاب العدد


 

                                              بقلم محمد وقيع الله

تقديم: نشرت هذه المقالة قبل ثلاثة أعوام في صحيفة البيان الإماراتية وذلك في غرة شعبان 1419 ولكن نظراً لأهمية الموضوع وأهمية الإعلام وبخاصة الإعلام الأمريكي في عصر العولمة الثقافية والفكرية والإعلامية فقد كان من المناسب اختيار هذه المقالة لتكون قضية الشهر ، ويحلو لي أن أردد كلمة الرئيس البوسنوي علي عزت بيجوفتش حول أهمية الإعلام وخطورته من كتابه الإسلام بين الشرق والغرب: " إذا كنّا نخشى على الشعوب في الماضي من ديكتاتورية الحكّام والحكومات فإننا نخشى عليهم في هذا العصر من ديكتاتورية وسائل الإعلام لأنها تسيطر وتهيمن إلى الدرجة التي يفقد فيها الجمهور قدراته العقلية بل إنه يرى الرأي الذي تطرحه وسائل الإعلام فيتبناه كأنه رأيه" وفيما يأتي المقالة:

أخيرا كفّت الميديا الأمريكية عن استنطاق إدوارد سعيد, لأنه ما فتئ يذكرهم بأن تغطيتهم لأخبار العالم العربي والإسلامي , هي من قبيل الامتداد لعمل (الاستشراق) القديم, واستكمال الصورة التي رسمها في الذهن الغربي عن العالم الإسلامي. وفي هذا السياق ــ كما يقول سعيد ــ فما لم تتطابق أحوال العالم الإسلامي مع تلك الصورة (الخرافية) التي صنعها الاستشراق, فان كثيرا من مراسلي الميديا يفضلون أن يكيفوا ذلك الواقع ليتوافق مع النص الاستشراقي الموروث!! يولع الإعلام الأمريكي بتقديم التغطيات بالغة التحيز ضد أوضاع العالم الإسلامي وعقائده من اجل دمغ الإسلام وأتباعه في الذهن الغربي بصورة التخلف والبدائية والتعصب والإرهاب, وتصويرهم وكأنهم ليسوا خلقا سويا مثلهم مثل شعوب الأرض الأخرى, وهي الصورة التي خلّفها الاستشراق سابقا من أجل تحريض العالم الغربي ضد العالم الإسلامي وتبرير مظالم الغربيين, وحركة استعمار واستغلال العالم الإسلامي. وبمراجعة التراث الحديث لحركة الاستشراق يتضح أن مستشرقي اليوم قد تخلوا كثيرا عن غلوهم وتحيزهم ضد المسلمين, ولذلك أسبابه الكثيرة منها تغير الظروف, ويقظة المسلمين النسبية الحالية, وإمكان تنقلهم في ديار الغرب, وانشغال الكثير من نخبهم بالكتابة في الموضوعات الإسلامية بالغرب, واختلاطهم بالمستشرقين أنفسهم في الجامعات ومراكز البحث, وتصويب أخطائهم وكان لكتاب إدوارد سعيد (الاستشراق) الذي صدر في عام 1979 أثره الضخم في لجم تطرف المستشرقين.. وإدوارد سعيد ليس من المسلمين كما هو واضح من اسمه, ولكنه ضمير نقي خالص الالتزام بقواعد ومثل وأخلاقيات البحث العلمي, وله ثقله الفكري الهائل في أمريكا, حيث يحتل مقعدا مرموقا لتدريس الأدب والنقد بجامعة كولمبيا العريقة, هذا فضلا عن تآليفه الكثيفة العميقة وحضوره في المنتديات الفكرية, وقد كان لكل ذلك أثره الجم في كبح جماح كثير من المستشرقين.. هذا ما حدث لحركة الاستشراق الحديثة. وقد قضيت قبل سنوات فترة بمكتبة الجامعة لمراجعة وموازنة تراث الاستشراق الكلاسيكي وتراثه الحديث فتبين الفارق السحيق ما بين أغراض وموضوعات ووجهات نظر كل من التراثيين. كان أهم أغراض الاستشراق الكلاسيكي اقتحام العالم الإسلامي وفتحه وتنصيره. ولنضرب مثالا لذلك بجهود د. صمويل زويمر مؤسس مجلة The Muslim World اعرق المجلات التي تهتم بموضوع الإسلاميات بأمريكا. وقد تأسست في 1911 وظلت تصدر منذ ذلك التاريخ بدون توقف حتى الآن كان زويمر يقيم بالقاهرة في مطالع هذا القرن, ويؤسس لمشروع ضخم لتنصير العالم الإسلامي كله, بما فيه مكة والمدينة كما قال. وعندما طالت إقامته بمصر ولم يستطع أن ينصّر اكثر من خمسة أشخاص, رجع إلى كاليفورنيا وأسس تلك المجلة بهدف فهم الظاهرة الإسلامية وإعداد الأسلوب الأمثل لاختراقها.. وقد ظلت المجلة تقدم طوال العقود الطويلة الماضية بحوثا بهذا الصدد, غير أن أمرها قد انصلح أخيرا بدخول أقلام إسلامية كثيرة في تحريرها, وقيام مفكر عربي بارز برئاسة تحريرها, هو البروفسور إبراهيم أبو ربيع, ويمكن ان يقال ان مجلة The Muslim World قد أصبحت أخيرا مجلة موضوعية علمية مثلها مثل سائر المجلات الأكاديمية التي تصدرها الجامعات ومراكز البحوث الأمريكية. هذا الاعتدال النسبي الذي آل إليه أمر الاستشراق والبحوث العلمية الأكاديمية بصدد الإسلام والعالم الإسلامي وأوضاعه السياسية, هو نفس المآل الذي سيؤول إليه أمر الإعلام الشعبي في خاتمة المطاف. والإعلام الشعبي وعلى رأسه (نيويورك تايمز) و(وواشنطن بوست) و(CNN) و(NBC) وغيرها مشغول بأداء مهمة الاستشراق القديم أي مهمة التشويه والتحريض والتبرير. وهو إعلام مملوك بشكل احتكاري شبه شامل لحركة رأس المال الأمريكي, الذي يحرك السياسة الأمريكية محليا وخارجيا, ويطمع في عصر ما يسمى بــ (العولمة) الشاملة إلى أن يخترق العالم اجمع. من يصدق أن ثماني شركات أمريكية عملاقة تسيطر على كامل الإعلام الأمريكي تقريبا, وتوجهه بالتالي لخدمة مصالحها الاقتصادية. أن محطات (CBS) و(NBC) و(ABC) وأربعين محطة تلفازية أخرى, ومائتي قناة فضائية, وستين محطة اذاعية, ومجلات (تايم) و(نيوزويك), وصحف (نيويورك تايمز) و(لوس انجلز تايمز) و(واشنطن بوست) و(ول ستريت جورنال), بالإضافة إلى إحدى وأربعين مؤسسة نشر كبرى هي ملك خالص لتلك الشركات, وما بقي من الصحف والمجلات والمحطات الإذاعية والتلفازية الفرعية, فهو يستقي جزءاً كبيرا من مادته بطريقة الاشتراك Syndication من تلك المؤسسات الكبرى. وخمس من هذه الشركات الاقتصادية العملاقة إنما هي بنوك همها الوحيد هو الربح العاجل والآجل وهي (البنك أوف أمريكا) و(سيتي بنك) و(تشيس مانهاتن) و(ورجان جارانتي ترست) و(بانكرز ترست) وهي تتعامل مع تلك الاجهزة الإعلامية تجاريا, وتعمل بدأب على جذب مزيد من المحطات الفرعية لتدمجها معها من أجل انجاز مزيد من السيطرة حتى على الإعلام الفرعي. وقد تكللت مساعي البنوك بنجاحات مذهلة إذ أصبحت أدواتها الإعلامية تتمتع بنحو 80% من ريع الإعلانات, الأمر الذي يعني مسبقا فشل أي محاولات عادية لمنافسة تلك الأجهزة الكبرى في هذا المجال. قد يصعب إنشاء أو شراء مؤسسات عملاقة تضاهيها, لكن لا يصعب اختراقها وتوجيه جزء من مادتها, ويمكن لأي مثقف عربي أو مسلم, أو للمراكز, والمساجد, والمدارس, والجامعات الإسلامية بأمريكا ان تقوم بجزء من تلك المهمة ومجرد ان يصل الى علم تلك الأجهزة الإعلامية, التي تمتهن مهنة امتهان المسلمين, انهم سيلاحقونها لا محالة بالردود, والمقالات الاعتراضية, فان تفكيرها سيعتدل ابتداء, وستسلك سبيل الجادة والأمانة الإعلامية أخيرا. وانما قلت إن مصير الإعلام الأمريكي أن يعتدل في النهاية في تغطيته للظاهرة الإسلامية, لان طلائع جديدة من أبناء المسلمين في المهجر الأمريكي قد بدأت في الظهور إعلاميا فقد انبثق جيل جديد ذو انجليزية طليقة كتابة وحديثا, وفهم عميق للعقلية الأمريكية وأسلوب التخاطب معها, وهو جيل خرج من نظام الحياة الأمريكية نفسها, ولكنه لم ينبتّ عن أصوله الإسلامية, وقد هاله تحيز الإعلام الأمريكي المبالغ فيه ضد المسلمين, ولم يعد يركن كما ركن أسلافه من ابناء الجيل الماضي الذي تهيب ولازال يتهيب أن يتصدى للماكينة الإعلامية الأمريكية, اخذ الجيل الجديد يتولى مهمة الأداء الإعلامي وتعقب أكاذيب الميديا الأمريكية, ومن متابعتي لستة وتسعين مقالا في امهات الصحف والمجلات الأمريكية عن الإسلام, نشرت في الفترة الاخيرة لمست بشكل واضح نمو ظاهرة التصدي الإعلامي الإسلامي, وأحيانا المبادرة من قبلهم قبل هجوم الآخرين. لم تجد صحيفة (وول ستريت جورنال) افضل من المدعو ستيف أمرسون ليكتب لها افتتاحيتها التي تناولت بها أمور الإسلام, وستيف أمرسون يهودي متهور, وذو سجل طويل في عداء المسلمين, وهو صاحب الفيلم التحريضي (جهاد في أمريكا) , ولم يكن مرجوا بالتالي أن يكتب في تلك الافتتاحية سوى ما يسيء للمسلمين. فهو يرادف بين كلمة (مسلمين) وكلمة (ارهاب) على الرغم من انه في مقدمة فيلمه الشهير ذكر انه ليس ضد المسلمين, وقد عاد في الافتتاحية المذكورة ليقول ان الإسلام والمسلمين هم وراء كل العمليات الارهابية على محيط العالم. وفي عدد 1998/9/2 من نفس الصحيفة انبرى للرد على أمرسون اثنان من نابتة الإسلام الجديدة هما جيف صديقي وسلام المرياطي, والأول فيما يبدو ابن أحد المسلمين الآسيويين, وقد تحدث بموضوعية بالغة للذهن الأمريكي. اعتنى أولا بإماطة اللثام عن الهوية الحقيقية لأمرسون. فهو يدعي انه خبير في شؤون الإرهاب الإسلامي. وكل إنسان في أمريكا يستطيع أن يدعي انه خبير في شيء ما, وبسبب سعة الحياة الأمريكية فان الناس يصدقونه, ومن أراد أن يكون خبيرا في شيء ما فما عليه إلا أن يهاجر إلى أمريكا, حيث يجد نفسه وقد اصبح ذلك الخبير, وذلك إلى ان يثبت عليه العكس. فالحال هو مخالف إذن للأوضاع في سائر أنحاء العالم, حيث ينبغي أن تثبت انك خبير أولا لتعتبر كذلك. ولذلك اعتنى جيف صديقي بتبديد دعوى أمرسون. ولأجل ذلك استدعى إلى الذهن الأمريكي تصريح أمرسون الشهير بعد دقائق من انفجار اوكلاهوما الذي اكد فيه لشبكات التلفاز انه من تدبير المسلمين, وبرر دعواه تلك بكثرة وجود المساجد في منطقة اوكلاهوما الأمر الذي يجعلها تلقائيا هدفا لإرهاب المسلمين.. كما قال! وفي تعريته لهوية أمرسون ذكر جيف ان الخبير لا يتسرع في إعلان شهادته, ولا في تبريرها بشيء عمومي غير مؤكد, فهذا هو شأن المحرّض صاحب الغرض, لا الخبير الموضوعي الذي يفيد التحقيق وسير العدالة. وتحدث جيف بموضوعية يرتضيها الأمريكيون المنصفون قائلا إن الإرهابيين موجودون وسط المسلمين, ونحن لا ننكر ذلك. ولكنهم موجودون أيضا وسط النصارى, وانتم لا تنكرون ذلك, وإذا كان وجودهم وسطكم لا يجعلكم جميعا إرهابيين, فلماذا يجعلنا وجود بضع إرهابيين وسطنا جميعا إرهابيين؟! ونشرت الصحيفة بذات العدد مقالا لشاب يدعى سلام المرياطي, استهدف تشريح النفسية العدائية لأمرسون الذي شن هجوما عنيفا على الكونجرس بذات الصحيفة لأنه استمع في شهادات بعض أعضاء اللوبي الإسلامي المسمى The Muslim Public Affairs Council وطالب بمنع المسلمين الأمريكية من ان يكون لهم اي دور في صناعة وصياغة القرار السياسي الأمريكي, وهذا أمر ولغ فيه أمرسون بتطرف وعدوانية شديدة, غير آبه بمناقضته لدستور البلاد. ولذلك تمكن المرياطي من تسخيف أمرسون بموضوعية وحذق شديد لاسيما بعد أن ربط ذلك بهجوم أمرسون في ذات الصحيفة على البيت الأبيض في وقت سابق لمجرد إقامته لحفل إفطار للمسلمين مع أن الحفل لم يتطرق لأي تداول في الشأن السياسي وخطا المرياطي خطوة أخرى يجهز بها على أمرسون عندما قال إننا نحن المسلمون ندين الإرهاب من حيث أتى بدون تفريق بين أديان مرتكبيه, ولكن أمرسون يدين الإرهاب عندما يأتي من المسلمين ويغض عنه الطرف عندما يأتي من الصهيونيين. وبذلك بدا الشاب العربي الناشئ أقوى منطقا من الصحفي الضليع, والخبير المزعوم أمرسون, واهم من ذلك فقد تمكن من زعزعة أمانته الصحفية والعلمية الأمر الذي سيعرضه لمتاعب شتى في مستقبله العملي, كما أرسل نذيرا قويا لصحيفة (وول ستريت) بأنها ستكون عرضة لملاحقة المسلمين, كلما تجنت عليهم في مقالاتها وافتتاحياتها, وهو الأمر الذي سيجر الصحيفة أخيرا إلى حيز الحذر والاعتدال, لاسيما إذا تابع المسلمون ضغوطهم عليها وعلى غيرها بمثل هذه الردود العقلانية المستنيرة. وثمة صحفيون أمريكيون كبار اعتنقوا الإسلام خلال السنوات الفائتة ولم يكتموا ايمانهم به, ابرزهم بلا جدال هو ستيفين باربوزا الذي تظهر مقالاته في (نيويورك تايمز) و(واشنطن بوست) و(USA Today) ومجلة (Essence) وهم لا يتجهون إلى أسلوب الصراع مع الكتابات السائدة, وانما ينتجون مادة جديدة مخالفة, تعرض دين الإسلام وحقائق وصناع المسلمين كما هي, في أسلوب بهي طلي شائق يستوفي كل شرائط العمل الصحفي الأصيل الراقي فقد ينشئ أحدهم سلسلة من المقالات الشيقة يخرج قارئها بنتيجة واحدة مؤداها ان نسبة الجريمة وسط المسلمين في أمريكا هي اقل بكثير مما لدى اتباع الأديان الأخرى. وهو لا يقذف بتلك الحقيقة في شكل تقريري جاف, وإنما يحمل القارئ معه ليجوب به مجتمعات المسلمين, ويسبر غور حياتهم, ويستطلع كنهها واتجاهاتها التفصيلية ثم يستخرج نفسه ولنفسه حقيقة ان نسبة الإجرام وسط المسلمين ضئيلة جدا, رغم انهم يعيشون وسط مجتمع أصبحت الجريمة هي ميسمه العام وقد ينشىء أحدهم سلسلة استطلاعات عن الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والطبقية لمسلمي أمريكا, تقدم معلومات حية كثيرة تلغي الصورة السائدة عن المسلمين, وانهم قوم بدائيون, ومن مثل هذه الاستطلاعات يكتشف الأمريكي ان المسلمين في أمريكا هم الاعلى تعليما (أعلى بكثير من المعدل العام) وانهم الأغنى, والاكثر ابناء, والاكثر سعادة في حياتهم الزوجية, والأبعد عن العنف والمخدرات والسجن.. الخ الخ ومثل هذه المواد الصحفية بلغ وقعا بكثير من مواد التصدي الرديء.. فهي تصحيحية من جانب.. وصحيحة في ذاتها من جانب آخر. هذا التيار الضاغط على الإعلام الأمريكي التشويهي, هو تيار متصاعد. ولو فطن المسلمون لما فعل الأصوليون النصارى الأمريكيون لاستفادوا كثيرا. فاليمين الديني البروتستانتي يتهم الإعلام الأمريكي أيضا بالتحيز ضد الدين, وإشاعة الإباحية الأخلاقية. ولكما يقاوموا ذلك فقد انشأوا كليات عليا لتدريس الصحافة والإعلام, هي من بين الأرقى والأحدث من نوعها, واثبت خريجوها لقاءات كبرى, وأثناء عملهم اتجهوا الى تحقيق بعض غايات اليمين الديني, أو على الأقل عدم الاصطدام معها وللأسف فالجامعات الإسلامية بأمريكا ليس فيها كلية واحدة للإعلام.. ولو انتبهوا إلى تلك الفكرة لاستطاعوا تدريب صحفيين أمريكيين يتفهمون الإسلام, ويعملون بقدر الإمكان على إنصافه, وكفكفة سيطرة رأس المال عليه.

أستاذ العلاقات الدولية ـ المسيسبي

 

 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

تلخيص كتاب منهج البحث التاريخي للدكتور د. حسن عثمان

الكلمات النورانية: وتحمل الكل

الإسلام وتعلم اللغات الأجنبية