كيف استعدت إنسانيتي حين غادرت جامعة الإمام


 

وأبدأ منذ اللحظة الأولى، تقدمت إلى قسم الاستشراق بالمعهد العالي للدعوة الإسلامية بالمدينة المنورة وكنت أعمل قبلها في الخطوط السعودية، وأتيحت الفرصة لي للسفر مع بعض كبار المسؤولين في رحلات دولية للتفاوض حول النقل الجوي بين المملكة والدنمرك وأمريكا واليونان وغيرها من الدول الأوروبية، ولاحظت أن كبار المسؤولين يهمهم النساء والخمرة، وكانوا يقولون لي أنت مطوع فلا يناسب أن تكون معنا، وأحمد الله أن نظرتهم لي كانت كذلك، وأيضاً لم أكن أحب مثل هذه السهرات والصياعات. وكنت أتخيل أنني حين أنتقل إلى المعهد العالي للدعوة أو إلى مؤسسة إسلامية سأصبح في جو إسلامي مفعم بالأخوة والصدق والأمانة والحب.
*
وكان أول الخداع أنه اجتمع نفر من الإدارة في غرفة الاجتماعات وجئ بي وبدأت الأسئلة تنهال علي، وبعد وقت انتهى اللقاء، وعرفت فيما بعد أن هذه هي المقابلة الشخصية، فهل كنت غافلاً أو خدعت؟ لقد كان من المناسب أن يقال لي إن هذه هي المقابلة الشخصية. فإن المقابلة الشخصية للانتقال إلى مكان إلى مكان تحتاج إلى أن يكون الإنسان مستعداً نفسياً.

وبعد فترة من الزمن أراد العميد أن يقوم المعيدون والمحاضرون بتنظيم المكتبة، وهو عمل يقوم به العمّال وليس من يتولى عملاً أكاديمياً. فكنت أرى زوج أختى (محاضر بالقسم) وقد ارتدى ملابس البيت (ثوب قديم أو فوطة) وأخذنا نعمل في تنظيم المكتبة.

وطلب منّي أن أقدم دورة في اللغة الإنجليزية للمعيدين والمحاضرين وقمت بما طلب منّي، ثم كلفت بإدارة المركز الصيفي لجامعة الإمام مدة عامين.

أما بداية الشرخ في العلاقة بيني وبين المعهد فهو عندما تقدمت بخطة حول الاستشراق الفرنسي ودعي الأساتذة في القسم (وبعض أساتذة من أقسام أخرى) والمحاضرون والمعيدون والطلاب لأقدم موضوعي وأدافع عنه. واستمرت الندوة ساعين أو زيادة وكان مجمل الندوة أن العميد لم يعجبه الموضوع، فصرح لي الدكتور محمد حرب بقوله (مازن لو طلعت السما ونزلت الأرض لن تحصل على موافقة على موضوعك لأن العميد لم يعجبه) فقلت له ولكنه لم يصرح بذلك، قال أنا فهمت ذلك من كلامه، وبدأت المماطلات والمكر في أن شكلت لي لجنة وأعطيت شهراً لتقديم مقترحات لإعداد الخطة، وكانوا يماطلون كلما سألت رئيس اللجنة عن التعديلات المطلوبة.

*وذات يوم تقدم وكيل العميد وكان محاضراً بخطة بحث إلى القسم فتم تكوين لجنة وطلب العميد من اللجنة أن تنتهي من الخطة في خلال أيام ليتم عرضها على مجلس القسم والكلية في الأسبوع القادم. فتعجبت من لجنة تعطى شهراً ولجنة يجب أن تنتهي في أيام. فقلت للعميد وكان سوف يسافر إلى الرياض أرجو أن تبحث لي عن مشرف لرسالتي في الاستشراق الفرنسي وأرجو أن تنال الأمور نفس الدرجة من الاهتمام. فما كان منه إلاّ أن انبرى لي بتلك النبرة الناعمة الرقيقة : أخي يتهمني بالتحيز وعدم المساواة، ونحن الذين فعلنا من أجله كذا وكذا، ولم يبق إلاّ أن يقول: "كان ضائعاً فآويناه، وكان جائعاً فأطعمناه وكان خائفاً فأمناه وكان وكان وكان" وما كان حقاً بأن ثمة تحيز أصبح ضدي بأني الناكر للجميل والمعروف. مع العلم أنني تركت عملي في الخطوط السعودية حيث كان راتبي الأساسي 13680 ريالاً بالإضافة إلى ثمانية عشر ألف ريال بدل سكن (عام 1406هـ) وراتب إضافي في شعبان بالإضافة إلى العلاج المجاني في المستشفيات الخاصة وامتيازات الإركاب وبخاصة أنني أتممت عشر سنوات فكان من حقي الركوب بعشرة في المائة من قيمة التذاكر. وتركت كل هذا لأحصل على 6625 ريال ولا علاج ولا تذاكر ولا يحزنون.
*
أما اختيار موضوعي ليكون امتداداً لتخصصي في الماجستير وهو الأمر الطبيعي في الجامعات فكان رأي العميد المحترم أن هذا يشبه غنم جحا، ولم أكن أدر أن جحا من أقارب العميد وله معرفة بغنمه. أما عندما تقدم الوكيل (وكيل المعهد وحبيب العميد) بموضوع هو امتداد لبحث الماجستير قال سعادته : إن النظام ينص على أن الدكتوراه يجب أن تكون امتداداً وتعمقاً لبحث الماجستير) فقلت سبحان الله وأين غنم جحا؟

وفي يوم الأيام وكان الثاني عشر من ربيع الأول وكنت أدرس مادة السيرة النبوية فقلت للطلاب أترغبون في أن تطلعوا على كيفية تقام الموالد لتعرفوا ما فيها من صح أو خطأ فإن الشيخ فلان يعقد مولداً عاماً في مزرعته في طريق المطار، وأنا لست من رواد الموالد وفيها مخالفات للطريقة السلفية وهي بدعة لا تنبغي. فأخذ الطلاب الموضوع إلى رئيس القسم (قسم الدعوة) وأخبروه فاستدعاني وتفاهمت معه على أن أعود في المحاضرة القادمة وأخبرهم بالموقف الصحيح من الموالد. وكان كما أراد. ولكن العميد كتب لي خطاباً على الرغم من اعتراض رئيس القسم وأن الموضوع قد انتهى. ولكن كان العميد يريد تصعيد الأمور إلى درجة أن يحاول فصلي كما اتضح لي فيما بعد.

ومع مماطلات اللجان بخصوص موضوع الدكتوراه فإن الموضوع وصل إلى القسم وتمت الموافقة عليه مع الملاحظات التي وصلتني وبخط العميد نفسه. وكان الطبيعي أن ينتقل إلى مجلس الكلية، ولكن العميد سافر فكان الوكيل هو رئيس الجلسة وكان الوقت رمضاناً فتمت الموافقة على الموضوع ولم يبق سوى اختيار المشرف. ومع أن موضوعي استغرق وقتاً في نقاشه من أعضاء المجلس لكنه لم يدوّن في محضر الجلسة لأمر أراده العميد ونفذه الوكيل. والروتين يقتضي أن يختار القسم المشرف ويوافق عليه مجلس الكلية، ولكن عميدنا كان هو الذي يختار المشرفين لأمر في نفسه. فلما عرضت عليه عدة مشرفين اعتذر عن أحدهم بأنه علماني فقلت له ولم تخاف علي، لقد يبس أو جفّ عودي وليس هناك خوف علي، بل إن المشرف قد يتأثر بالطالب. فرأى أن هذا من سوء الأدب كيف أخاطب العميد بهذه اللهجة وأعترض على قراراته (المنزلة، المعصومة فهو من بقايا الأئمة عند القوم) وحدث أن عرضت الخطة على أستاذ في الجامعة الإسلامية فكان مما كتب أن الموضوع جيد وأن الطالب مؤهل للقيام بهذا الجهد، فاعترضوا كيف يمتدحك وهو لا يعرفك؟
*
وكان من المقرر بعد إقرار الخطة أن أذهب في بعثة إلى فرنسا لدراسة اللغة وكان على رئيس القسم أن يكتب خطاباً للعميد يطلب ابتعاثي لذلك، وهنا رأى العميد أن والدي بحاجة إليّ للبقاء بجواره بتحريض من أحد الأقارب. فما علمت ذلك أخبرت والدي بالأمر، فزار العميد وقال له إنني بصحة جيدة ولدي من يخدمني ولا أحب أن أقف عائقاً في سبيل دراسة ابني، فإن كان هذا هو العذر الوحيد فأرجو إرساله. فقال العميد ولكن مازن أصر على اختيار موضوع لا يوافق عليه المعهد ، فقال له أبي: هذا شأن داخلي بينكم وبين مازن، ثم قال العميد :" مازن يتهمني بأنني دكتاتور مستبد" وهنا قال له والدي رحمه الله:" يا سعادة العميد أنت رئيس ومازن مرؤوس، والشاعر يقول: لا يحمل الحقد من تعلو به الرتب ولا ينال العلا من طبعه الغضب، فكيف تحقد على مازن؟ وانتهت المقابلة.

وهنا وجد العميد الفرصة عندما أثير موضوع المولد وما سمع من الناس أني أصفه بالدكتاتور المستبد فاتفق مع الجامعة أن يبدأ في التحقيق معي فيما نسب إليّ من الكلية: والاتهامات الجاهزة هي

-1الكبرياء أو التكبر

2-عدم الاعتراف بالجميل

-3الكذب
4
-الإصرار ، وكان مما قاله (وأخذ مازن يصول ويجول مصراً على أن يقبل موضوعه، على الرغم من أن المعهد لا يرى الموافقة عليه( والمعهد هو العميد والعميد هو المعهد، هكذا الأمور في زمن الاستبداد والطغيان الإداري)
وفي خضم هذه النزاعات استدعاني العميد ليقول لي إنه يرى أنني جئت لأهدم المعهد ولأخرب الطلاب وأحدث فتنة. فما عرفت ما أجيب به غير الدموع، وما أقسى دموع الرجل حين يشعر بالاضطهاد والظلم.

وبعد وقت من هذه الأزمة أعطاني مهلة للانتقال إلى أي مكان آخر، فحاولت ولكن لم أعرف أين أتجه وكل الطرق كانت مسدودة فالدعاية ضدي كانت قوية جداً بأنني مشاغب ولا أنصاع للأوامر وجاء رمضان وفي العشرين منه كنت في مكتبه فقال لي: سأفصلك إن لم تنتقل بنهاية شهر رمضان، فتذكرت عيالي وزوجي وحالي إن فصلت من العمل فبكيت أو تحجرت الدموع في عيوني ، أنا سأفصل لسبب بسيط أني لم أكن مطيعاً أو لم أكن منافقاً أو كنت غبياً لم أعرف رغبات العميد فأعدها أوامر.

واستمر المسلسل في إهانتي حتى قدمت خطة بحث جديدة في الاستشراق الإنجليزي والأمريكي وخلال ثلاثة أشهر قدمت لهم خطة لم يستطيعوا رفضها لأنها كانت مكتوبة بطريقة جيدة. حتى كانت فرصة لهم ليمنوا علي بالموافقة لي على الخطة بسرعة، فقلت لهم الخطة كانت نتيجة قراءة ثماني ساعات يوميا_ ولو خوفي من اتهامي بالغرور لقلت لهم وبِفَهْم

وكانت كان الأمر قد خطط له لاستبعادي من خلال تكوين لجنة للتحقيق معي، ورفضت المثول أمام اللجنة حتى يقدموا لي لائحة الاتهامات، وأصروا علي للحضور وحضرت وكانت مأساة. ولم تكتف الجامعة باللجنة المحلية فأرسلت أستاذين من الرياض للتحقيق معي ومع المعهد لمعرفة ما حصل، وكان قرار اللجنة أو تقرير اللجنة أن الخطأ مشترك وأنه يمكنني الاستمرار في المعهد لإكمال بحث الدكتوراه.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

تلخيص كتاب منهج البحث التاريخي للدكتور د. حسن عثمان

الكلمات النورانية: وتحمل الكل

الإسلام وتعلم اللغات الأجنبية