النقل التعسفي إلى الرياض عام 1409 قبل ثلاثين سنة


     انتقلت إلى الرياض للعمل في عام 1409هـ في مركز البحوث فرحب بي مدير المركز وعميد البحث العلمي آنذاك الدكتور محمد بن عبد الرحمن الربيع، وسبب ترحيبه أنه عرف أنني كنت مظلوماً، وثانياً لأنه لم يكن يحب عميد المعهد وهو تنافس على حب مدير الجامعة وثقته، وثالثاً لأنني كنت أنجز ما أكلف به من أعمال بسرعة كبيرة حتى قال لي الدكتور عبد العزيز عبد الغني إبراهيم الذي كان يقضي فترة عقوبة هو الآخر في المركز لماذا تنجز الأعمال بسرعة؟ فقلت له هذه طبيعتي، فقال أنت تريد العودة إلى المدينة فإن أعجبتهم لم يرجعوك إلى المدينة، ثم قال لي لأحكي لك قصة: كان أحد ملوك السودان يتجول في الرعية فسمع امرأة تبكي فأعجبه بكاؤها فقال أءتوا بها لأسمع بكاءها، فلما مثلت أمامه قالوا لها ابكي الآن، قال ما بيّ وجد، (حزن) فقال اضربوها حتى تبكي.
    وفي العمادة كان من المفروض أن أعمل في وحدة الدراسات الاستشراقية والتنصيرية فاطلعت على الملفات وقدمت تصوراً لما يمكن أن تقوم به الوحدة، ثم أصبحت أكلف بأي عمل حتى كان من بين الأمور أن أعطي وكيل العميد كتاباً ليعد عنه تقريراً فكتبت التقرير بالنيابة عنه، وكان الكتاب سيئاً فقلت فيه ما يستحق، وهنا جاءت الأوامر من مدير الجامعة أن نكتب تقريراً إيجابياً، فأعدت كتابة التقرير وكان الأمر سخيفاً حقاً. فأين الصدق والأمانة العلمية، ولكني كنت مأموراً، وقدمت بعض الأعمال ومنها أنني أعددت ترجمة لمقالة باللغة الإنجليزية إلى العربية وكانت بعنوان (المسار الفكري للاستشراق) لآصف حسين ونشرت في العدد السابع من المجلة. وكانت الترجمة محكمة ومن الذين حكموها الدكتور عبد العزيز عبد الغني إبراهيم، والدكتور علي النملة. وكان لي نشاط في الجنادرية حين كلفني مدير الجامعة وكذلك عميد البحث العلمي دون أن يدري أحدهما عن الآخر أو هكذا ظهر لي أن أكتب تقريراً عن مجريات الندوات وكأنني جاسوس، ولم أكن أعرف الجوسسة ولكني علمت فيما بعد أنها جزء من العمل في الجامعة وفي المؤسسات الأخرى وفي العالم العربي عموماً
     ووطدت صلاتي العلمية بمكتبة الملك فهد الوطنية وغيرها من المؤسسات العلمية في الرياض حتى إذا رجعت إلى المدينة وجاء وفد من المعهد العالي إلى الرياض وزاروا تلك المؤسسات كانوا يذكرونني بخير، حتى قال رئيس الوفد الدكتور محمد حسن خليفة ما شاء الله الجميع يذكرك بخير في الرياض فماذا فعلت؟ فكان هذا من نصر الله عز وجل للمظلوم أن لا يجمع على المظلوم مصيبتين.
     عندما نقلت إلى الرياض وجّه مدير الجامعة الدكتور عبد الله التركي أن ينقل موضوعي إلى قسم الثقافة الإسلامية بكلية الشريعة، فوافق القسم على أن أقوم بدراسة عدد من المقررات وأختبر فيها، ولكن لما أحيل الموضوع إلى مجلس كلية الشريعة كانت دعاية مدير المعهد أو عميد المعهد بالمدينة قد وصلت إلى أعضاء مجلس الكلية فرفضوا رفضاً باتاً. وهنا سمعت من نقل عن العميد العتيد أنه بذل من الجهد في محاربة مازن مطبقاني أكثر مما بذل في إعداد رسالته للدكتوراه. لقد كانت حرباً شعواء. لقد كنت في نظره أنني سأهدم المعهد وأنني أتصف بصفات لا تليق بالعلماء (أمثاله) ومن تلك الصفات:

الكبر
الإصرار
الكذب
عدم معرفة الجميل لأصحابه (بل تمنّ علي أن عبّدت بني إسرائيل(

     وحتى عندما هددني بالفصل ذهب إليه بعض أصدقائه وقالوا له ما ذا تنقم على مازن وبماذا يستحق الفصل؟ قال بأمور كثيرة فقالوا له ألديك دليل؟ قال لا ولكني سأبدأ من الآن لأجمع ما يمكن أن يكون دليلاً، فقال له صديق له إما الدكتور عمر حافظ أو محمد علي إبراهيم أنت يا دكتور ....تأخذ بمبدأ الغاية تبرر الوسيلة. وكان رد آخر :لا تتبعوا عورات المسلمين فتفسدوهم أو تضلوهم. وحاول جمع أدلة لفصلي ولكنه والحمد لله خاب وأخفق. وكان من أصعب المواقف علي موقفان بكيت فيهما من القهر، وهنا تذكرت حديث الرسول صلى الله عليه وسلم في الاستعاذة من قهر الرجال (ولكن أهؤلاء رجال حقاً؟) المرة الأولى التي أخبرني بها أنني جئت لتدمير المعهد والثاني في العشرين من شعبان أو رمضان حين هددني بالفصل. فتخيلت ما يكون عليه حال أسرتي وأنا مفصول قبل العيد. يا ويلهم مما يمكرون.
        وذهبت إلى رئيس قسم التاريخ بالجامعة الإسلامية لألتحق به، فكانت الدعاية السيئة ضدي قد وصلت إليه فألقى علي محاضرة طويلة بدلاً من المقابلة الشخصية كيف ينبغي أن أكون مطيعاً لرؤسائي وكأنني طفل صغير أو موظف جديد وأخبرني عن سيرته العظيمة وكيف جاء بزوجته إلى الجامعة لتعمل معه. فتحدث أكثر مني مع أنني أنا الذي تُجرى له المقابلة. والنتيجة أنت مشاغب فلا نستطيع أن نقبلك، أو أن الدعاية ضدك لا تسمح لنا بقبولك فرجعت مكسوف الخاطر كسير النفس و......

    وفي تلك السنة في الرياض حرصت على زيارة مدير الجامعة مرات عديدة لأطالب بالرجوع إلى المدينة المنورة، وكان في كل مرة يعدني بأن هذا سيكون قريباً. وقبل نهاية السنة كانت الجامعة قد اختارت عميداً جديداً للكلية (المعهد العالي تحول إلى كلية الدعوة) فقال لي قدم طلباً أنك تريد العودة، وأنك لن تكون مشاغباً أو ما معناه. وفي زيارة لوكيل الجامعة صالح بن سعود العلي قال لي هذه السنة كانت كافية لتأديبك، فسكت ولو ملكت الشجاعة لقلت له إن تربيتي ممتازة من بيت أبي ولست أنت الذي تربيني. وجاءت فرصة أن قابلته في الحوار الوطني الثاني وقلت ما أقساكم حين تتهمني أنني كنت بحاجة إلى تربية. فأنكر وهكذا دأب الظالمين ينكرون. ولكن عند الله تلتقي الخصوم فيعرف من الصادق ومن الكاذب.
ررررروفي هذه السنّة أيضاً حصلت على منحة من جامعة أكسفورد ببريطانيا (مركز الدراسات الإسلامية) وهي المنحة الزائرة التي تقدم لكبار الباحثين، وكتبت إلى (معالي) مدير الجامعة أستأذن بقبول المنحة، ومرت الأيام دون رد فاضطررت أن أعتذر لجامعة أكسفورد. وكنت أحاول الذهاب ولو على حسابي أو تتكفل جهة ما بنصف راتبي لأنفق على أولادي، وكان من الجهات التي زرتها مؤسسة أقرأ (الخيرية كما يقولون) فكان رد (معالي) الدكتور محمد عبده يماني، يمكن أن نكتب لك توصية لمركز الملك فيصل ليموّلوا سفرك، فقلت في نفسي لست بحاجة إلى توصيتكم فلو كان المركز يملك المال لأرسلني واحتفظ بتوصيتك، وهنا أدركت كيف أن الأعمال الخيرية لا تكون خيرية أحياناً.

     وفي تلك السنة عانى أولادي معاناة شديدة حيث لم يكن بإمكاني أن يكون لدي سائق لإيصالهم إلى المدارس وكان بعض المضايقة من أقرب الناس إلي، وهذه من لأواء المدينة حفظها الله وحرسها التي لا يصبر عليها كثير من الناس. كما أنني في الرياض أقمت فترة في منزل صهري وفترة أخرى في فندق وفي مرحلة في شقة من شقق الرياض (نسيت مكانها (الشميسي)الآن ولكنها كانت قمة في القذارة) سبحان الله يعطى الله الإنسان النسيان.

     ورغم الآلام في تلك السنة فقد شاء الله أن أنجز نشر عدد من مؤلفاتي وأبيع عدد من النسخ لوزارة الإعلام وهذه الكتب هي

1-             من آفاق الاستشراق الأمريكي المعاصر

2-              نبش الهذيان من تاريخ جرجي زيدان

3-             - الغرب في مواجهة الإسلام

4-             عبد الحميد بن باديس العالم الرباني والزعيم السياسي

5-             التنصير في الخليج العربي مترجم عن الإنجليزية

ومما هوّن علي هذه السنّة أنه كان لي رصيد من الإجازات فأخذت أكثرها لأعود إلى المدينة بلا عمل.
أما موضوع الدكتوراه فقد تعطل في مجلس كلية الشريعة وبقيت أنتظرالعودة إلى المدينة المنورة ليعود الموضوع وكان اختيار مشرف آخر. ولكني سأخبركم عن مشرفي الأول ومعاناتي معه رحمه الله في حلقة قادمة إن شاء الله.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

تلخيص كتاب منهج البحث التاريخي للدكتور د. حسن عثمان

الكلمات النورانية: وتحمل الكل

الإسلام وتعلم اللغات الأجنبية