"أفحكم الجاهلية يبغون"؟


ضيف العدد

تقديم
   
        كان لمركز المدينة المنورة لدراسات وبحوث الاستشراق نشرة أو مجلة شهرية أختار ضيفاً لكل عدد أنسخ مقالته وهذه المقالة للدكتور مصطفى عبد الواحد وفّقه الله نشرت قبل سنوات عديدة في صفحة الرأي بجريدة المدينة المنورة،  وكم نتمثل بالمثل القائل (ما أشبه الليلة بالبارحة) فالكاتب الفاضل يناقش من لا يرغبون أن يحكم الإسلام حياتهم بزعمهم أن الشريعة الإسلامية لا تناسب العصر الحاضر. وقد حاول الكاتب أن يجيب عن هذه المزاعم ولأهمية الموضوع جعلناه مقالة ضيف العدد راجين من الله عز وجل أن يقوى الجانب الذي يطالب بتحكيم الشريعة وهم الغالبية العظمى من الشعوب الإسلامية وأن يصلوا إلى ما يريدون. ومما يؤكد على أهمية الموضوع أن المسلمين في نيجيريا مستاءون من زيارة الرئيس الأمريكي لبلادهم لأنهم يعتقدون – ولا بد لاعتقادهم من أساس- في أن الرئيس الأمريكي سيبحث مع رئيس الجمهورية سبل منع المسلمين من تطبيق الشريعة الإسلامية في المناطق التي يؤلفون الغالبية من سكانها.

المقالة:

لا بد أن ينتهي هذا الجدل العقيم الذي يمارسه نفر قليل في بيئتنا العربية الإسلامية.. والذي يزعمون فيه أن شريعة الإسلام لا تلائم العصر وان الديموقراطية هي سبيل الحرية وطريق تحقيق حقوق الإنسان في هذا الزمان.

ويلجأ هؤلاء المضللون إلى أساليب عديدة للخداع فهم يزعمون أنهم مسلمون..لكنهم يجتهدون للمواءمة بين الذين والعصر ويحتج بعضهم بأن عمر الخطاب رضي الله عنه "ألغى" حد السرقة عام المجاعة .. وأنه "ألغى" سهم المؤلفة قلوبهم بعد أن عز الإسلام وكثر أنصاره.

ومحال أن يكون الخليفة الفاروق رضي الله عنه قد ألغى حداً من حدود الله أو حكماً من  أحكامه .. فهذا زعم باطل وفهم سقيم ..وكل ما صنعه عمر رضي عنه أنه أرجأ تطبيق حد السرقة حتى تتحقق شروط أعماله..فلا بد من كفالة الحد الأدنى الذي يمسك الرمق .. لكن الجائع إذا وجد نفسه مشرفاً على الهلاك فوجد طعاماً لغيره فأخذه فهو في حال اضطرار ولا يجوز في هذا الحال إقامة حد القطع عليه.

وكذلك سهم المؤلفة قلوبهم من الزكاة ..لا يصرف هذا السهم إلاّ إذا تحققت شروط صرفه..لجماعة يراد تأليف قلوبهم على الإسلام في حال تتطلب ذلك..فإذا لم توجد الظروف التي تستدعي هذا التأليف فلماذا يعطون؟

فمن الجهل أو التضليل أن يزعم هؤلاء أن أحكام الشريعة الغراء قابلة للإلغاء حسب ظروف الزمان والمكان بل هي محكمة باقية إلى يوم القيامة وكل ما في الأمر أنه لا بد من تحقق الشروط المطلوبة لإقامة الحدود والأحكام.

ولنساير هؤلاء المجددين في جدلهم ولنسألهم: إذا نحينا حكم الشرعية جانباَ-بزعم أنه لا يساير العصر كما ترون-فأي حكم نتبع؟

هل نتبع القانون الروماني .. أم القوانين الأوروبية المعاصرة أم نلغي القانون أصلاً ونحكم بالأهواء والنزوات؟ّ!!

(أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون)

لقد شهد العدول من الأوروبيون أنفسهم بأن أحكام الشريعة الإسلامية تسمو على كل القوانين ..وأنها صاحبة الفضل في نشأة كثير من القوانين التي تأثرت بها، يقول المستشرق الألماني جوزيف شاخت في كتاب تراث الإسلام (3/4) " أن الفقه الإسلامي لم ينشأ عن قانون كان قائماً قبله وإنما هو نفسه الذي أوجد القانون."

ويقر "شاخت" بأن تأثيرات التشريع الإسلامي على القوانين الأخرى لا يمكن أن تبارى من حيث الأهمية مجرد وجود هذا التشريع" (ص 26)

ويضرب أمثلة على هذا التأثير ببعض الألفاظ اللاتينية ذات الأصل العربي الإسلامي وخاصة القوانين التجارية والبحرية التي انتقلت إلى أوروبا عبر البحر المتوسط في العصور الوسطى.

ويقرر هذا الباحث أن الفرعين الكبيرين للكنيسة المسيحية الشرقية و"النسطوريون" لم يترددوا في الاقتباس بحرية من قواعد التشريع الإسلامي في كل الموضوعات التي يمكن أن تدخل في نظر القاضي المسلم (ص 28-29)

وقد أقرت المؤتمرات القانونية الدولية بعظمة هذه الشريعة وصلاحيتها للتطبيق وأدرك العقلاء في كل جيل أنمها أسلم وأحكم حتى يصفها الإمام الشاطبي بأنها شريعة معصومة كما أن صاحبها صلى الله عليه وسلم معصوم (الموافقات 2/5) من الهوى لأنها ليست صادرة عن مجموعة من البشر تنظر إلى مصالحها وظروفها الخاصة لكنها حكم من الله سبحانه وتعالى بين عباده جميعاً يقوم على العدالة والمساواة وتحقيق مصالح الإنسان في كل زمان ومكان.

ولننظر إلى حد القصاص الذي قال فيه الحق سبحانه (ولكم في القصاص حياة يا أولى الألباب) فقد حاول من يتبعون الهوى إلغاء هذه العقوبة في مجتمعاتهم بدعوى أنها قاسية وحشية واستبدلوا بها عقوبة السجن للقاتل المسكين الذي هو ضحية الظروف الأسرية والاجتماعية.

فإذا هم بعد قليل يعودون إلى تطبيق العقوبة لأنهم وجدوا سيل الجريمة قد حطم كل الحواجز والسدود.. وأن المجرمين قد استعذبوا عقوبة السجن بعد إزهاق الأرواح البريئة ..ليخرجوا بعدها إلى المجتمع يذيقونه ألوان الانتقام والنكال.

وهكذا تبين لهم أنهم كانوا مخطئين في نظرتهم إلى عقوبة الإعدام كما كانوا واهمين في تقديرهم لظروف القاتل الضحية ناسين لفداحة الجرم الذي ارتكبه بإزهاقه نفساً بريئة في لحظة نزق استخف فيها بكل وازع.

فهم ليسوا بأرحم بالناس من الله الذي خلقهم ويعلم ما يضرهم وما ينفعهم..وكذلك الشأن في عقوبة قطع يد السارق..

فها هي السرقة في العالم كله قد أصبحت فناً واسعاً وحرفة منظمة يقوم بها أفراد كما تقوم بها جماعات ومؤسسات.

وأصبح الإنسان في المجتمع الغربي ومن سار على نهجه..لا يأمن على ماله..وفي حال من الأحوال سواء كان في بيته..أو خزانته أو بنكه..سواء كان نقداً..أو سيارة..أو بضاعة ..أو ملابس.

ولهذا قامت مؤسسات للحراسة في الغرب تتقاضى أموالاً جزيلة في سبيل توفير الحماية المؤقتة من يتعاقدون معها..وقد لا تفلح في حمايتهم تماما من تيار الجريمة الهادر.

فانظروا إلى بلد يطبق عقوبة قطع يد السارق كما شرعها الله سبحانه- وهو المملكة العربية السعودية-فإنكم ترون أن جرائم السرقة فيها نادرة جداً ..في أوقات معينة يتسرب فيها بعض مرضى القلوب ..وسرعان ما يكتشف أمرهم وينفذ الحد فيهم فيعتبر غيرهم بهم وإنك لتسير في أنحاء المملكة بسيارتك في جوف الليل ومعك ما تحمل من مالك ومتاعك ..فلا تحس بخوف ولا قلق لأن الأمن فيها مستتب بفضل إقامة حدود الله سبحانه بينما لا تستطيع أن تخرج وحدك ليلاً في أمريكا..وتجد من يحذرك من إمكانية تعرضك للسرقة أو ما هو أكبر منها عن لم يكن معك من يحميك.

وهكذا يتبين للكافة أن شريعة الله سبحانه أحكم..وانه ليس فيها حكم من الأحكام يتعارض مع مصلحة الإنسان أو يعوق تقدمه ونهضته..بل إنها تستهدف حماية النفوس والأعراض والأموال..وتوفير جو الأمن والطمأنينة للناس جميعاً بينما فشلت القوانين الوضعية جميعاً في توفير تلك الحماية.

وما تزال القوانين الوضعية عرضة للتغير في كل حين إذ يتبين من وضعوها أنهم تركوا فيها ثغرات ينفذ منها المجرمون والمنحرفون فيحاولون سد الثغرات بتشريع آخر ثم يعودون إلى التخفيف والاستثناء وهكذا لأن الإنسان قاصر بطبعة عن المعرفة الكاملة والعدل المطلق..أما شرع الله سبحانه فإنه بريء من هذا الآفات لأنه حكم الله (ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون)

إن التشريع الإسلامي يمتاز بأنه تشريع خلقي يقوم على أساس مبادئ ثابتة بعيداً عن الأهواء والمطامع ..بريئاً من العنصرية وضيق الأفق   ..فلماذا يجادل هؤلاء المبطلون لتخويف الناس منه وصدهم عن سبيله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير.

 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

تلخيص كتاب منهج البحث التاريخي للدكتور د. حسن عثمان

الكلمات النورانية: وتحمل الكل

الإسلام وتعلم اللغات الأجنبية