برنارد لويس نموذج للاستشراق اليهودي المتحيز


 


بقلم السيد محسن بن أحمد باروم

        لقد كانت سعادتي بالغة حين أتيح لي قراءة أطروحة الدكتوراه التي خطتها برعاية الكاتب الألمعي الباحث المتميز الدكتور مازن صلاح المطبقاني عن دراسته للجوانب الفكرية في التاريخ الإسلامي   لدى المستشرق الأمريكي المعاصر الدكتور برنارد لويس، المعروف لدى كثير من الدوائر العلمية والمنتديات الثقافية ومراكز البحوث في الجامعات العربية والإسلامية لبحوثه ودراساته الكثيرة التي تناولت مختلف جوانب التاريخ الإسلامي، والثقافة الإسلامية في مختلف فروعها وقضايا الفرق والنخل والملل التي أثارت ألوانا من الشبهات وضروبا من الأضاليل الهادفة إلى تشويه سمعة الإسلام وخلخلة الثقة في نفوس أبنائه في الدرجة الأولى وغيرهم من مثقفي الغرب ومفكريه وأتباعه.
        وليس غريبا أن تحظى دراسات هذا المستشرق بالتقدير والاهتمام لدى تلك الدوائر والهيئات والمراكز البحثية والأفراد الذين أتيح لهم تلقي العلم على يديه في الجامعات الأوربية ثم الأمريكية عندما تم له الانتقال إليها أستاذ الدراسات العربية والإسلامية في جامعة برنستون في عام 1974م وظل أستاذاً فيها إلى عام 1988م، يدرس ويوجه طلابه وجهة علمية معينة تقوم على استيحاء المنهج الفكري الخطير الذي رسمه هذا المستشرق لنفسه منذ أن التحق بمدرسة لندن للدراسات الشرقية والأفريقية مدرسا ثم رئيسا لقسم تاريخ الشرق الأدنى فيها لمدة بلغت سبعة عشر عاما، اكتسب خلالها شهرة علمية واسعة لما نشره من كتب ودراسات اتسم بعضها بقوة العلم وعمق المعرفة، والنظرة الموضوعية البعيدة عن نزعات التحير وأهواء التعصب الديني والسياسي والعرقي المقيت، كما اتسم معظمها بسلاسة الأسلوب وضوح العبارة والبعد عن التعقد اللغوي الذي يصفي في كثير من الأحيان على الموضوع ألوانا من الغموض وسوء الفهم، حتى غدا برنارد لويس من كبار المستشرقين المعاصرين البارزين الذين لعبوا أدوارا متميزة في مجالي الدراسات العربية الإسلامية، والدراسات السياسية الدولية المتصلة بقضية الصراع العربي الإسرائيلي على الأرض العربية السليبة (فلسطين).
        فقد كان لويس بحكم خبراته العميقة في شئون العلم العربي السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية مستشارا لدوائر وزارة الخارجية البريطانية، فأرسلته أستاذا زائرا إلى الجامعات الأمريكية في عام 1954م يحاضر فيها ويعقد الندوات ويلقي أحاديث في وسائل الإعلام الأمريكية المختلفة فيها وتابع الدور السياسي والثقافي نفسه حين انتقل إلى الولايات المتحدة الأمريكية أستاذا في جامعتها الشهيرة (برنستون)، ومستشارا خبيراً لرئيس لجنة الشئون الخارجية بالكونجرس الأمريكي ([1])، داعيا إلى نصرة الكيان الصهيوني منحازاً ضد كل ما هو عربي ومسلم، مكرسا شطرا كبيرا من جهوده للكتابة في الشئون السياسية المعاصرة حيث أن كتاباته الرئيسة على العرب والإسلام تشابه بعضها الآخر إلى حد أكبر أو أصغر، فهو لذلك لا يأتي بجديد فهو يكرر المادة أو أنه يعيد صياغتها في قواليب مختلفة عن بعضها مرة بعد أخرى مرارا وتكرارا ([2]).
        ويؤكد هذا الدور السياسي الخطير الذي لعبه برنارد لويس في توجيه السياسة الخارجية الأمريكية المعاصرة تجاه أزمة الصراع العربي الإسرائيلي ما أشار إليه الكاتب العربي القدير الدكتور مصطفى محمود في كتابه الأخير   الطريق إلى جهنم حين استدعى الكونجريس الأمريكي هذا المستشرق إلى جلسة سرية لمناقشة الخطة التي قدمها إليه لتقسيم البلاد العربية كلها إلى دويلات وكانتونات ليسهل على إسرائيل السيطرة عليها، والتحكم في مقدراتها السياسية والعسكرية والاقتصادية والثقافية، وهي خطة تستهدف أضعاف الكيان السياسي للدول العربية القائمة وتمكين إسرائيل من تحقيق خطتها التوسعية الرامية إلى إبراز إسرائيل الكبرى من (النيل إلى فرات) "وتشتمل لبنان وسوريا والكويت وبعض الخليج وبعض العراق وبعض مصر وجانبا كبيرا من أرض الحجاز وشمال الجزيرة العربية وفقا لما رسمه لها هرتزل سنة 1904م الحاخام فيستان سنة 1947م وبرنارد في عهد ريجان" ([3]).
        إن الكتاب الذي بين يدي القارئ والمكون من مقدمة وأربعة أبواب وخاتمة، استعرض خلالها المؤلف خصائص كل من الاستشراق الأوربي، والاستشراق الأمريكي باعتبار أن لويس قد درس في ظلال مدرسة الاستشراق الأوربي ونتلمذ على إعلام مستشرقيها كهاملتون جيب في بريطانيا، ولويس فاسينيون في فرنسا واحتك بأقرانهم البارزين من أمثال مرجوليوت وفون جرنياوم وتوماس أرنولد   "أو نهل من كتبهم وأفكارهم كأجناتس جولدزيهر، فإنه قد استفاد من وجهة الاستشراق الأمريكي في توظيف نتائج العلوم الاجتماعية من تاريخ واقتصاد واجتماع وسياسة وإدارة وعلم الإنسان وآداب ولهجات حديثة لشعوب تلك المناطق في دراسات مناطق العالم المختلفة بصورة عامة، ومنطقة العالم العربي التي تتركز فيها المصالح الأمريكية بصورة أخص، مما جعل الاستشراق الأمريكي ينهج فكريا ومعرفيا نهجاً يختلف عن المنهج التقليدي الذي سار عليه الاستشراق الأوربي خلال عصوره القديمة والوسيطة والحديث في التركيز على دراسات اللغة وفقهها، والدين وعلومه، والتاريخ، وفقه الحضارة.
        ولا أريد أن أطيل حديثي حول هذا الجانب من جوانب الكتاب وإنما أريد أن أنوه بالجهد العلمي الضخم الذي بذله مؤلفه في بقية أبواب الكتاب التي استرضت مختلف نواحي الحياة العلمية لبرنارد لويس ومواقفه الفكرية من القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة وسيرة الرسول الكريم، وعقيدة الإسلام التي ينجو في النظر إليها منحي أسلافه المستشرقين المتعصبين ضد الإسلام وحضارته وثقافته، فبري أن الإسلام مزيج مستورد من الديانتين النصرانية واليهودية فيقول:
          ((روايته - أي الرسول عليه السلام - لقصص الكتاب المقدس توحي بأن معرفته به كانت عن طريق غير مباشر، وربما كانت عن طريق التجارة والرحالة اليهود والنصارى الذين كانت اختبار هم متأثرة بالمؤثرات المدراشية وكتب الأساطبر اليهودية   ((الأيوكريفا))  ([4])، كما يرى أن إسرائيل  (الديموقراطية) ضد العرب المسلمين: قوانين كهجرة وإخراج المسلمين من أرضهم وديارهم ونسف بيوتهم، السجن بلا محكمة، التعذيب وكسر العام والذابح الجامعية للرجال والنساء والأطفال، وانتهاك حقوق الإنسان كل يوم بصورة وحشية لم يسبق لها مثيل في تاريخ البشرية.
        ورغم من هذا كله لا يستحي المستشرق من وصف إسرائيل   (( بالديموقراطية)) كما لا يستحق أن يتظاهر بالمضوعية. فإذا لم تستح فاصنع ما شئت.  ([5])
        هذه صورة قلمية سريعة وانطباعات قوية في ذهني تراكمت إثر قراءتي لهذه الأطروحة القيمة وما سبقها من كتب لهذا المستشرق ترجمت إلى العربية، تؤكد اختلال الرؤية الفكرية له إلى وقائع تاريخ الإسلام والعرب والصحوة الإسلامية الحاضرة وتقويم العلاقات السياسية في أزمة الصراع بين العرب وإسرائيل، وكلها تطفح بالتعصب الديني والعرقي المقيت، الذي يكشف عن حقد دفين لكل ما يتصل بالعرب والإسلام من قيم دينية وثقافية وسياسية وحضارية، أبان عنها الباحث الكريم خلال فصول الكتاب الذي سلط فيه أضواء علمية كاشفة على مختلف العصور محملة بالنظر الاستشراقية التي تهدف إلى تأكد   ((التمييز بين الفوقية الغربية والدينية الشرقية)).  ([6])
        إن المنهج العلمي الذي اتخذه الدكتور مازن مطبقاني في استقرائه للركائز الفكرية التي قام عليها إنتاج برنارد لويس العلمي الغزير التشعب هو منهج استيعابي تتبع كل مصادر المعلومات عن هذا المستشرق الشهير المعاصر، ولم يكتف بذلك وإنما تبادل معه رسائل متعددة، وبذل جهده للقائه شخصيا للتعرف على ملامح شخصية عن كتب معا أتاح له عمق النظر، وشمول المعرفة، ودقة التناول وحسن الفهم للدوافع الدينية والفكرية والسياسية التي شكلت موقفه نحو تاريخ العرب وحضارة الإسلام ماضيا وحاضرا، فأضاء الطريق للدارسين وطلاب البحث العلمي من أبناء الشرق الإسلامي والغرب الأوربي والأوربي والأمريكي على بينة من أمر هذا المستشرق وغيره من دهاقنة الاستشراق وعلمائه الذين تعددت مدارسهم واختلفت  مشاربهم وتنوعت جنسياتهم وكثرت دراساتهمم لهذا الشرق وتاريخه ولغاته وآدابه وحضارته، ولكن معظمهم لسوء الحظ - مازال واقعا تحت دوافع التعصب الديني والعرقي البغيض وخدمة المصالح السياسية والاقتصادية وهيمنة النفوذ العسكري والثقافي لبلدانهم التي تصر على وجوب التغريب وسيطرة الحضارة الغربية على مؤسسات الفكر والاجتماع والأقطار التي تدين بنظام الإسلام عقيدة شريعة وأسلوب حياة، إذ ليس أمام شعوب الشرق الإسلامي إلا أن تتبع مناهج الغرب في ثقافته وحضارته وأن تنصهر في وقته لكي كما يزعم برنارد لويس وأضرابه   ((أن يعاين الشرق بوصفه غربا مقلدا، لا يستطيع أن نفسه إلا حين تصبح قوميته على استعداد للتلاوم مع الغرب)).  ([7])
        ومهما يكن الأمر فإن الكتاب في مجمله دراسة جادة وهادفة عن برنارد لويس أحد أبرز المستشرقين المعاصرين الناصرين الناطقين بالانجليزية والعالمين على تشويه صورة الإسلام، ومحاولة تفسير مفاهيمه وأنظمته بما يخدم مصالح سادته من رجال السياسة ومناع القرار في الحكومات الأمريكية - حاليا - ابتغاء الحفاظ على المصالح الأمريكية من ناحية والتمكين لدولة إسرائيل على أرض فلسطين المغتصبة من ناحية أخرى.
        وإن الحاجة تدعو إلى غربلة ما يكتبه هؤلاء المستشرقين بصورة عاملة، واليهود منهم بصورة أخص مثل جوسافت جرونباوم النصارى، وجوزيف شاخت البريطاني، وبثوا ألوانا من السموم في طريق الفكر الإسلامي لزعزعة عقائد المسلمين وتشكيكهم في قدرتهم على الإسهام في تنمية وتطوير الحضارة العالمية، كما فعل كل من أجناس جولدزيهر المجري، وبول كراوس التشيكي، وصامويل ما رجوليوث البريطاني وديفيد سانتيلانا الايطالي، وليفي بروفنسال الفرنسي وغيرهم ممن عرض لأسمائهم وإسهاماتهم الفكرية علماء المسلمين ومفكروهم في وقتنا الحاضر كالأساتذة الأجلاء: أنور الجندي وعبد اللطيف الطيباري، ومحمود حمدي زقزوق وعلي إبراهيم النملة ومازن المطبقاني، الذين ما انفكوا يتابعون في يقظة وانتباه كاملين إنتاج هؤلاء المستشرقين يدرسونه ويقومونه ويبينون مواطن الزيف والتزوير فيه، كما يوضحون في الوقت نفسه نقاط القوة والموضوعية والحيدة العلمية فيه، حتى يكون القارئ العربي والمسلم على دراية تامة بخفايا القضايا والموضوعات الإسلامية التي يعالجها أولئك المستشرقون فيخبط فيها البعض منهم خبط عشواء لقصور في لغته، وضعف في فهمه وتحيز واضح في اتجاهه الديني الفكري والسياسي كما نلاحظ ذلك في فئة المستشرقين اليهود الذين تستروا وراء الصبغة الدينية المسيحية لينفثوا سمومهم نحو الإسلام ونبينه وتراثه العلمي والثقافي وينفذوا مآربهم الخبيثة في تشويه تراث الفكر العربي الإسلامي وإظهار المسلم في صورة إنسان سامي سطحي في تفكيره وفلسفته، بينما الأوربيون ضاع حضارة وحملة إبداع  ([8])   (( كما يقول عنهم الفيلسوف والمستشرق الفرنسي أرنست رينان:
        ومن أجل ذلك فإن من الخير أعظم الخير رصد ما ينتجه الفكر الاستشراقي من كتب ودراسات ومقالات وتقارير وتحقيقات للإبانة عن الافتراءات والشبهات والتلفيقات التي يطلقها علماء هذا الفكر مت ناحية ولتجلية محاسن تراث الفكر الإسلامي بعد تنقيته من ناحية أخرى.
        ولا يستطيع القيام بهذا العمل الفكري الضخم الذي يشمل مؤسسات الاستشراق في مختلف أقطار العالم، وشتى لغاتهم ومدارسه وفئاته ومذاهبه األاّ الإسراع في إنشاء هيئته الإسلامية عالمية ينضوي تحت لواءها نخبة ممتازة من علماء المسلمين ومفكريهم لإصدار موسوعة الرد على المستشرقين، كما دعت إليها الندوة التي   (( دعت إليها المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم في القاهرة في نهاية عام 1979م وحفرها عدد يزيد على العشرين من العلماء والمفكرين المهتمين بهذا الموضوع))  ([9]).  
        وإنني أرجو مخلصا أن تبتني الجامعات ومراكز البحوث والهيئات العلمية في البلاد العربية والإسلامية مشروع هذه الموسوعة الجليلة لتقوم بتصحيح الصورة المشوهة عن الإسلام عقيدة وشريعة ومناج حياة وإظهار حقائق الإسلام وعظمة مبادئه وسماحة أنظمته، ومدى ما قدمه العلماء المسلمين من إسهامات جليلة في تطوير الحضارة العالمية.
        ولعل من الأوليات أيضا التي نادى بها صفوة من الباحثين المسلين الأخيار ومنهم باحثنا المنضال في ثنايا هذا الكتاب اقتراحهم بإصدار دائرة معارف إسلامية بأقلام علماء المسلمين أنفسهم ممن امتازوا بسعة العلم ورحابة الفكر وإجادة اللغات الأجنبية حتى يسدوا فجوة واسعة في التعريف لمختلف علومم الثقافة الإسلامية وعلمائها البارزين الأبرار بعيدا عن الافتراءات والأباطيل والاتهامات المغرضة التي أطلقها علماء الاستشراق ضد الإسلام وشريعته وحضارته وعلمائه الأعلام، لتكون شاهدا مع الموسوعة الأولى على مدى ما بلغته البلاد الإسلامية والعربية من تقدم علمي وتطور حضاري كبير يؤهلاتها للنحوض في معترك البناء الحضاري المعاصر الذي يشارك فيه كثير ن بلدان ما أطلق عليه حاليا   ((النظام العالمي الجديد)).
        {ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشدا}
                                                                محسن أحمد باروم

 


 ([1]) صفحة 64 من أطروحة الدكتور مازن مطبقاني للدكتوراه المخطوطة.
 ([2]) المستشرقون الناطقون بالإنجليزية - الدكتور عبد اللطيف الطيباوي. صفحة 138 - جامعة محمد بن سعود الإسلامية عام 1411هـ.
 ([3]) انظر صفحات 137، 138، 139 من كتاب   ((الطريق إلى جهنم   ((أكتوبر 1994 من   ((كتاب اليوم)) - القاهرة.
 ([4]) دكتور عرفان عبد الحميد - المتشرقون والإسلام- ص 24 -المكتب الإسلامي- عام 1403.
 ([5]) الدكتور أحمد عبد الحميد غراب - رؤية إسلامية للإستشراق. ص: 113، 114- المكتب الإسلامي عام 1411هـ.
 ([6]) الدكتور أدوارد سعيد - الاستشراق: المعرفة - السلظة الانشاء، نقله إلى العربية د/ كمال ديب ص: 73، 1981.
 ([7]) مرجع سابق - الاستشراق صفحة ص:3
 ([8]) أدوارد سعيد - الاستشراق، ص:43،49
 ([9]) الدكتور محمود حمدي زقزوق - الاستشراق والخلفية الفكرية للصراع الحضاري ص: 131- كتاب - الأمة - رئاسة المحاكم الشرعية في دولة قطر - عام 1404هـ.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

تلخيص كتاب منهج البحث التاريخي للدكتور د. حسن عثمان

الكلمات النورانية: وتحمل الكل

الإسلام وتعلم اللغات الأجنبية