الشفافية وقصة الشمعة والحافلة والأموال العامة


                         

                               

رأيت قبل أيام حافلة تحمل اسم فندق من الفنادق الكبيرة في المدينة المنورة تقف بباب إحدى المدارس الخاصة لتنقل طالبتين أو ثلاثة من تلك المدرسة فقلت في نفسي أما كان هذا المسؤول قادراً على إرسال سيارة صغيرة من سيارات الفندق لنقل أطفاله من المدرسة؟ وهل العقد بينه وبين الفندق يسمح له باستخدام هذه الحافلة الكبيرة (تتسع لأكثر من ثلاثين راكبا) لنقل أبنائه وبناته إلى ومن المدرسة؟ أليس في هذا سوء استخدام للمنصب؟ أليس في هذا هدر للطاقات؟
وهنا تذكرت قصة عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى التي علقت في الذاكرة رغم مرور أكثر من ثلاثين أو أربعين سنة على قراءتها أو سماعها. ملخص هذه القصة مفاده أن والياً من الولاة كان يزور عمر بن عبد العزيز وكان الوقت ليلاً فأوقد الخليفة شمعة من بيت مال المسلمين وكان الحديث عن أحوال الرعية والولاية ، ثم تحول الوالي إلى السؤال عن أحوال الخليفة وأهل بيته وهنا أسرع عمر بن عبد العزيز فأطفأ السراج أو الشمعة وأتى بشمعة أخرى من ماله الخاص. فتعجب الوالي من فعل الخليفة. فقال له كنتَ في البداية تتحدث عن أحوال الرعية والعمل فكان السراج من أموال بيت المال، أما الآن فإنك بدأت الحديث عن أمور شخصية أو لا علاقة لها بالعمل فكان لا بد أن آتي بشمعة من مالي الخاص.
وتذكرني هذه القصة بموظف أخذ دفتراً (بوك) من المؤسسة التي يعمل بها ليكتب فيه بعض الأمور الخاصة به وبقي الدفتر في منـزله مدة طويلة وهو متردد أيستعمله أم لا . وفي الأخير قرر أن يعيد الدفتر إلى الإدارة. وكان ثمن الدفتر ( البوك) في ذلك الحين لا يزيد عن ريالين  فقال في نفسه: إن أنا استخدمت دفتر المؤسسة فسأوفر ريالين وإن أنا اشتريت دفتراً من مالي فالأمر لا يتجاوز ريالين. ولكن المغزى من هذه القصة أن هذا الموظف خاف من الحساب يوم القيامة فأعاد الدفتر إلى إدارته ليكتب فيه المعاملات أو مسوّدات المعاملات.
إن إغراءات الشيطان كثيرة فهو يزيّن للإنسان أن ينتفع ببعض المال العام مما يوفر عليه شيئاً من دخله يصرفه في أمور أخرى وما درى المسكين أنّ الغنى المتوقع من استغلال الأموال العامة إنما هو الفقر الحقيقي. وقد حذّر الشيخ علي الطنطاوي حفظه الله وأمدّه بالصحة والعافية من استخدام أي شيء من مكان العمل حتى لو كانت ورقة لأمر خاص.
وقد ضرب القرآن الكريم المثل بقارون وأمواله محذراً من الاغترار بالدنيا والركون لها وذلك في قوله تعالى إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ {28/76} وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ {28/77} قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ {28/78} فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ {28/79} وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ {28/80} فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنتَصِرِينَ          القصص 76-81)
وبعد هذه الآيات البينات لم يبق لكاتب هذه السطور أن يقول شيئاً فهل يرعوي الذين ائتمنوا على شيء من الأموال العامه أن يتقوا الله في أنفسهم وأهليهم ويحرصوا على أن يكسبوا الحلال ويبتعدوا عن الحرام مهما قل فإنه في عرف الإسلام من الغلول ولو كان من الغنيمة كما جاء في قصة الذي قتل وقد كان قد سرق من الغنيمة قبل توزيعها.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

تلخيص كتاب منهج البحث التاريخي للدكتور د. حسن عثمان

الكلمات النورانية: وتحمل الكل

الإسلام وتعلم اللغات الأجنبية