الجزء الرابع والأخير من الحوار


س: لماذا ينصرف الدكتور مازن لمحاولة إضعاف القوي، لماذا لا يقوم بتقوية الضعيف أم أننا أضعف من أن نقوى الآن!؟ أم أن الدكتور مازن يشكو إلى الله قلة حيلته وضعف قوته، فيختار أن يتوجه للخارج أم أنه فقط إيمانٌ خالص بالتخصص، و عدم رغبة في التشتت؟

    أبدأ أيها الابن الكريم بالاعتذار لك عن تأخري في الرد عن أسئلتك أو تعليقاتك القوية الوجيهة والسبب البسيط هو أنني نقلت ما بعدها وما قبلها وانشغلت بأمور أخرى فالتأخير ليس مقصوداً وإنما عن طريق السهو. ومثل هذه الملاحظات تستحق أن أكتب كلمة عنها لأنها تتحدث في قضايا تهمني كثيراً وهي صلب ما أتحدث عنه في محاضراتي في سلم 104 (النظام السياسي في الإسلام)

أولاً: حديثك عن الاستبداد وأننا استمرأنا هذا واستسلمنا له وأصبح جزء من شخصيتنا نستبد إن كنّا أصحاب سلطة، ونحن قمة الجبن والخوف والهلع ممن بيده سلطة علينا وننسى أن الخلق والرزق والإحياء والإماتة بيد الله سبحانه وتعالى.  
     نعم هذه قضية تهمني جداً لأن الأمم لا ترقى ولا تنهض ولا تصنع حضارة إلاّ في جو من الحرية وإلاّ صنعنا سيارات لادا التي كانت تصنع في العهد الشيوعي. نعم أنبه طلابي إلى ما ورد في القرآن الكريم بشأن الاستبداد ومن تكاليف القراءة تفسير الآيتين الكريمتين: (فاستخف قومه فأطاعوه إنهم كانوا قوماً فاسقين) وقوله تعالى (إن فرعون وهامان وجنودهما كانوا خاطئين) وأنبه الطلاب  إلى أن فرعون قد ذكر في القرآن الكريم في سبع وستين موضعاً في معظمها في سياقات سياسية ليبين لنا سبحانه وتعالى خطورة الاستبداد وقبح الاستبداد.  وبين الحق جل وعلا أن قبول الاستبداد والخضوع له إنما يأتي من العقيدة الضعيفة أو الفاسدة. لقد قال أحد العلماء إن الوظيفة من ابواب الشرك لأنك تصل إلى درجة أن تعتقد أن رزقك وعمرك بيد رئيسك في العمل. وتتواصل سلسلة الاستبداد والطغيان من الرئيس المباشر في مكتب صغير وتصعد السلم حتى  أعلى المستويات.

    ولكن من أين بدأ قبول الاستبداد أو ممارسة الاستبداد؟ أجزم أن الأمر يبدأ من الأب والأم أو أحدهما في البيت، ما أكثر ما يقال للصغير اسكت اخرس يا .... أنت لا تفهم، وتستمر الحلقة إلى المدرسة فكم أسكتنا المعلمون وخفنا حتى أن نمشي في الشارع الذي نرى فيه الأستاذ بينما مر عمر بن الخطاب بأطفال يلعبون فابتعدوا إلاّ عبد الله بن الزبير رضي الله عنه فسأله عمر رضي الله عنه لمَ لمْ تذهب مع رفاقك؟ فقال يا أمير المؤمنين لم يكن الطريق ضيقاً فأفسح لك، ولم أفعل خطأ لأهرب. فسر عمر بن الخطاب رضي الله عنه بالإجابة.

      إنني من شدة غيظي أحياناً أقول عن الخوف في حياتنا المعاصرة أننا ورثناه من آبائنا ورضعناه مع حليب أمهاتنا أو حتى مع الحليب المجفف. لقد سرى في دمائنا وأصبح جزء من جيناتنا. وكثرت الأمثال الشعبية التي تكرس الجبن والخوف وبالتالي الاستبداد ومن ذلك "ألف مرة جبان ولا مرة واحدة الله يرحمه" أو "امش الحيط الحيط وقل يا رب السترة عليك" أو "من يتزوج أمنا هو عمّنا" أو "الباب اللي يجيك منه الريح أغلقه واستريح"  وحفظنا (صوموا ولا تتكلموا إن الكلام محرم) وفي فمي يا عراق ماء كثير كيف يشكو من في فيه ماء، وحفظنا قالت الضفدع قولاً رددته الحكماء في فمي ماء وهل يشكو من في فيه ماء) ونسينا الأمثال والشعر الذي يشجع على الشجاعة وعدم الخوف. (فطعم الموت في أمر حقير كطعم الموت في عظيم) ونسينا (أنا إن عشت فلست أعدم قوتاً أنا إن مت فلست أعدم قبرا، همتي همة الملوك ونفسي نفس حر ترى المذلة قبراً ) ونسينا ما قاله معروف الرصافي (وتكره نفسي كل عبد مذلل وقد كرهت حتى الطريق المعبداً، إذا ما اتقت نفس أذاها بذلة فعندي نفس تتقي الذل بالردى) ونسينا قول الشاعر (عش عزيزاّ أو مت وأنت كريم بين طعن القنا وخفق البنود)، وقول الشاعر (جنة بالذل لا أرضى بها)

     وألتفت إلى تربيتنا الإسلامية وهي الأساس فانظر إلى القرآن الكريم يصف بني إسرائيل (ولتجدنهم أحرص الناس على حياة) (حياة بصيغة النكرة يعني أي حياة) وفي سورة الجمعة (قل يا أيها الذين هادوا إن زعمتم أنكم أولياء لله من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين ولا يتمنونه أبداً بما قدمت أيديهم والله عليم بالظالمين، قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم..) وتعلمنا حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم (يا غلام إني معلمك كلمات فاحفظهن، احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشي لم ينفعوك إلاّ بشي قد كتبه الله لك ولو اجتمعوا ليضروك بشيء لم يضروك إلاّ بشيء قد كتبه الله عليك، جفت الأقلام وطويت الصحف) ولن أواصل الحديث في هذا الأمر ، ووجدت هذه العبارات في الإنترنت عن الفرق بين الخوف من الله والخوف من عباده: فإذا كان الله هو الذي بيده الحياة والموت والرزق وغير ذلك والعباد لا يملكون من هذا شيئاً، فيجب أن تخاف من الله، وأن توحد الله سبحانه وتعالى في هذا الخوف، كما قال تعالى: (فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِي إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (آل عمران:175)، فهذا هو الخوف الذي هو خوف عبادة.

   أما قولك إنك تختلف معي كثيراً وذلك لجهلي، فلا يا بني لست جاهلاً فمثلك أسمى أن يقال عنه جاهل وأنت تناقش تلك القضايا الكبرى، فالاختلاف الأول في نظرك أنني  "لا ينتقد المجتمع السعودي، و لا ينتقد الواقع السياسي السعودي و لا حتى العربي، و يصرف كل جهده في دراسة الاستشراق"

     فأجيب أني كتبت مقالة أسبوعية في صحيفة المدينة المنورة مدة ثماني سنوات وكتبت تسعة أشهر مقالة يومية، وكان لي في وقت من الأوقات أكثر من مقالة أسبوعية في صحيفة المدينة (في الصفحة الإسلامية وفي صفحة الرأي) وفي جريدة عكاظ. وكانت تحتوي كثيرا من النقد الاجتماعي ولا احتاج إلى أن أقدم بين يديك ما كتبت في نقد المجتمع السعودي أو العربي فهي كثيرة. ولكني كما قلت شغلت نفسي بالاستشراق وما يتعلق به مما نتأثر به في مجتمعاتنا العربية والإسلامية. ومن آخر ما كتبت عن كارثة جدة أنني تساءلت عن معايير تعيين المسؤولين فإن الحديث عن مسؤول سابق أو حالي يتطلب أن نسأل كيف تم اختياره وما المعايير وهل هو (القوي الأمين) أو (الحفيظ العليم) أو إنه جاء بالواسطة ومترادفاتها الكثر التي لن أتناولها هنا؟ 

    وقولك السعي إلى تقوية الضعيف بدلاً من تضعيف القوي، فالحديث عن الاستشراق إنما هو للبحث عن الوسائل التي أستطيع من خلالها أن أقول إننا بحاجة إلى العودة الحقيقية إلى  الإسلام الذي يصلح شأننا في المجالات كلها: سياسية واقتصادية وثقافية وأخلاقية واجتماعية.

    أما أسباب ضعفنا فكثيرة وصحيح أن العبارة التي نسمعها كثيرة هي (البعد عن الدين) ولكن ما معنى هذه العبارة؟ إنها تبدأ من أصغر سلوك في حياة الإنسان إلى أكبر سلوك. تبدأ من أذكار الاستيقاظ وأذكار النوم إلى  ارتداء الحذاء جالساً بادئاً بالرجل اليمني إلى دعاء الخروج إلى الحرص على أكل الحلال إلى آداب الطريق إلى الابتعاد عن الأنانية والأثرة إلى الخوف الحقيقي من الله وليس من البشر. ومن هذه العودة أن نملك القوة دولة ويكون لنا جيش يرهب عدو الله وعدونا إلى امتلاك السلاح الذي نتسوله من الدول شمالاً وشرقاً وغرباً وجنوباً.        القضية كبيرة والحديث فيها يطول. أين صلاح الدين يصلح التعليم وأين الرجل الذي يكرم المرأة وأين المرأة التي تعرف حق الرجل، وأين الابن الذي يوقر أباه ويبره ويبر أمه ويقبل باطن قدمها لأن الجنة تحت أقدام الأمهات؟ وأين وأين وتذكر (وأين صديقي حسن؟)


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

تلخيص كتاب منهج البحث التاريخي للدكتور د. حسن عثمان

الكلمات النورانية: وتحمل الكل

الإسلام وتعلم اللغات الأجنبية