لقاء أجراه محمد السهيمي معي واختزلته صحيفة شمس لشدة أمانتهم وموضوعيتهم واحترامهم للباحث


بسم الله الرحمن الرحيم

س: كيف تقرأ ظاهرة التحولات الفكرية نحو التوجه الليبرالي؟

ج:    

لا أستطيع أولاً أن أصف التحول الفكري إلى الليبرالية بالظاهرة وإلاّ لكنّا في خطر حقيقي. ولكن الأمر يقتصر على بعض الأفراد الذين اشتهروا بالالتزام بالإسلام والتمسك بالهوية الإسلامية والاعتزاز بالإسلام. ووصل بعضهم حد التشدد أو الغلو المنهي عنه شرعاً بحديث المصطفى صلى الله عليه وسلم (إن هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق ولا تبغضوا إلى أنفسكم عبادة الله، فإن المنبت لا أرضا قطع ولاظهرا أبقى) ولا أقول التطرف فهي مصطلح أجنبي.

المهم هم أفراد قلائل نعم قلائل ولكنهم حصلوا على اهتمام من وسائل إعلام معينة (وإن كانت وسائل الإعلام القوية في  أيديهم وأيدي من هم على شاكلتهم) فأبرزوهم وأفسحوا لهم المجال لتسنم المنابر الإعلامية المختلفة من صحافة وإذاعة وتلفاز وقنوات فضائية. فصار صوتهم أعلى من قوتهم الحقيقية.

ولكن لك الحق أن تسأل ولماذا انحرف بعض الذين كانوا في الصف الإسلامي إلى معاداة الإسلام ومحاربته بعنف؟ لقد أسماهم الشيخ فتحي يكن قبل عشرات السنين : المتساقطون، وربما كان له كتاب بهذا العنوان أو قريب منه. وقبل كل شيء نحن نقرأ قول الحق سبحانه وتعالى (وأضله الله على علم) فهم كانوا على علم بالحق ومازالوا يعلمون الحق، ولكنهم اختاروا طريقاً آخر. أعتقد أننا بحاجة إلى دراسة كل حالة على حدة فمنذ جبلة بن الأيهم الملك الغساني الذي ارتد عن الإسلام لأنه لم يرد أن يلطمه الإعرابي لأن الإسلام ساوى بين الاثنين. فلكل واحد من هؤلاء النفر قصته وتفاصيلها. يكفي أن أحدهم قال "إن جريدة كذا أعطتني أربعة عشر ألف ريال لأكتب فيها"، وربما انهالت عليه الدعوات للمحاضرة والظهور في البرامج الإذاعية والتلفازية هنا وهناك فصار له حضور لم يكن يحلم به وهو في حاله الأولى متمسك بالإسلام. والسبب في التحول أننا نعرف حديث الرسول صلى الله عليه وسلم (كان النبي يكثر أن يقول: يا مُقَلِّب القلوب ثبِّتْ قلبي على دينك. فتقول له عائشة: يا رسول الله، تُكثِر أن تدعو بهذا، فهل تخاف؟ قال: وما يؤمنني يا عائشة، وقلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء، إذا أراد أن يقلب قلب عبد قلبه؟

فلعل من أسباب الانقلاب الذي يحدث لبعض هؤلاء الناس أن يمر بتجربة مريرة في الاتجاه الإسلامي من تعامل وظلم وغير ذلك، أو أن يكون ممن تعرض لعقوبة في بعض الدول كأن يكون قد تعرض للسجن ولمعاملة معينة في السجن تجعله يخرج وهو لا يطيق أن يعود إلى اتجاهه الإسلامي الذي كان عليه. ولنتذكر قول الله عز وجل (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ }الحج11 ، فربما لم يكن إيمانه حقيقياً في المقام الأول وإن كان هذا أمر لا نستطيع أن نجزم به، فهل هؤلاء يمكن أن يخرجوا عن مفهوم هذه الآية الكريمة.

وأود أن أضيف إن من الأضواء التي تسلط على هؤلاء أن تهتم بهم السفارات الأجنبية وإن كان البعض قد اتهم تلك السفارات أنها لا تحتفي فقط نظرياً بهؤلاء بل قد تكون تدفع لهم أموالاً أو ربما تحتفي بهم من ناحية توجيه الدعوات والزيارات وربما رتبت لهم إلقاء المحاضرات والسفر وغير ذلك.

س: هل يمكن اعتبار هذه التحولات ذات أبعاد سياسية خاصة إذا ربطنا بينها وبين حديث الأمير نايف بأن هناك بعض الإعلاميين لهم علاقات مشبوهة؟

ج :

 بدأت في نهاية الجواب السابق بالحديث عن الصلات المشبوهة، نعم لقد رصدت منذ أكثر من عشرين سنة اهتمام بعض الجهات ببعض رواد الحداثة في بلادنا واستضافتهم في ندوات ومؤتمرات وإلقاء محاضرات في الجامعات الغربية ومراكز البحوث وغيرها. وما زال هذا الأمر قائماً. وليس الأمر مقتصر على الإعلاميين فإن الجهات الأجنبية تهتم أيضاً بأعضاء هيئة التدريس أو من لهم مناصب لها تأثير في الجماهير. وقضية الأبعاد السياسية معروفة كما قلت فإننا نقرأ في السيرة النبوية كيف أن الصحابي الجليل كعب بن مالك رضي الله عنه لمّا كان من المتخلفين عن غزوة تبوك وأمر الرسول صله الله عليه وسلم بأن يهجرهم المسلمون فمضت عليه أيام وهو في حالة صعبة ويقول: فبينا أنا أمشي في سوق المدينة إذا نبطي من نبط الشام ممن قدم بالطعام يبيعه بالمدينة يقول من يدل على كعب بن مالك فطفق الناس يشيرون له حتى جاءني دفع إلي كتابًا من ملك غسان فإذا فيه: أما بعد فإنه قد بلغني أن صاحبك قد جفاك، ولم يجعلك الله بدار هوان ولا مضيعة، فالحق بنا نواسك. فقلت حين قرأتها: وهذا أيضًا من البلاء فتيممت بها التنور فسجرته بها" فكان هذا حال الصحابي المؤمن مع الدعم الخارجي، ولكن أين لنا بإيمان هذا الصحابي العظيم؟  ومن المعروف أن وكالة المخابرات المركزية الأمريكية كانت تقدم دعماً زمناً طويلاً ولا زالت للتيارات الفكرية التي توافق التوجه الأمريكي في أنحاء العالم.

س: بحكم تخصصك في الاستشراق كيف تلخص لنا الأثر السلبي الذي خلفه؟

ج:

        ينبغي أن تضيف في السؤال "ومازال يخلفه" فالاستشراق يصوغ العقول والأفكار بناء على التوجه الفكري الغربي، فقد كان من أبرز أعمال الاستشراق كما أشار الأستاذ الكبير محمود شاكر في كتابه (رسالة في الطريق إلى ثقافتنا) إلى قضية الابتعاث التي بدأت في عهد محمد علي سرششمة بمشورة من مستشاره المستشرق جومار. وانطلقت البعثات ليتم صياغة العقول وفقاً للتوجهات التي كان يريدها الاستشراق ومازال. وعادت إلينا أفواج بعد أفواج من الذين تتلمذوا على أيدي المستشرقين فبدأ كثير منهم في حملات التشكيك والطعن في الإسلام من النواحي العقدية والتاريخية والاجتماعية والسياسية.

        فالطالب العربي المسلم يبدأ في الدراسة على أيدي المستشرقين الذين يصبحون شيوخه وأساتذته وبعضهم يملك شخصية مؤثرة أو حتى طاغية أو شخصية كارزمية فيصبح الطالب مسلوباً من أستاذه، ورأيت من هؤلاء التلاميذ من يقبل رأس شيخه المستشرق ويقبل كتفه وربما يقبل يديه. وإن كان هذا المستشرق يكن حقداً على الإسلام (وكثير منهم كذلك) فأي علم سوف يتلقاه هذا الطالب المسكين؟

        إن سلبيات الاستشراق لا تتوقف عند المرحلة التي يتلقى فيها الطالب العربي المسلم العلم على أيديهم بل يسعى بعضهم إلى أن تستمر هذه الصلات بطرق كثيرة مختلفة. فقد رأيت رابطة تسمى الرابطة العربية الأمريكية لأساتذة الاتصال لتجمع الطلاب مع الأساتذة بعد أن أصبح الطلاب أساتذة. ويلتقي الأساتذة مع طلابهم في المؤتمرات والندوات وسنوات التفرغ وغيرها.

        ومن سلبيات الاستشراق أن الذين تتلمذوا على يدي أساتذتهم المستشرقين عادوا ليبثوا كثيراً من سموم الاستشراق كما سماها الشيخ أنور الجندي رحمه الله في كتبهم ومؤلفاتهم وفي دروسهم, تصور أننا كنّا ندرس في الصف الأول المتوسط فوائد البنوك الربوية البسيطة والمركبة دون أن يقول لنا أحد أن ذلك هو الربا فالمسألة مسألة حسابية فقط، حتى تغيرت المناهج في هذه النقطة وبقيت أفكار كثيرة يبثها تلاميذ المستشرقين وإن لم تكن موجودة في الكتب.

        والحديث عن الآثار السلبية للاستشراق لا يتوقف عند هذه الأسطر ولكني أجملت لك بعض هذه الآثار. وأختم بالآية الكريمة (وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (آل عمران 69).

س:  يتحدث البعض عن الآثار الإيجابية للمستشرقين والتي يتحدث عنها البعض؟

ج:

        من الصعب أن تحكم على الاستشراق كله بأنه سلبي، فلا بد أن يكون لهذا الفرع المعرفي بعض الجوانب الإيجابية حيث إن من المستشرقين من كان صادقاً وأخلص في دراسته وتعلمه للإسلام ولم يقبل أن يكون أداة في أيدي الاستخبارات الغربية بل قدم الإسلام تقديماً جيداً منصفاً معتدلاً، وبعض هؤلاء قد وصل إلى الإيمان وما هي إلاّ إرادة الله عز وجل إن شاء هداه إلى الدين، وإن بعضهم قد آمن.

        وينسب للمستشرقين البدء في تحقيق كثير من المخطوطات العربية والمحافظة عليها وفهرستها، وقد يرى البعض أنهم لو لم يهتموا بمخطوطاتنا ويضعون لها الفهارس ويحفظونها لضاعت منذ مئات السنين. وأما ما قاموا به من تحقيق فإن الأمر يحتاج إلى دراسة فهل أخلصوا في التحقيق وأجادوا، فربما أجادوا كما أن بعض الباحثين العرب والمسلمين وجدوا لهم أخطاء طوام في التحقيق.

        أما ما ينسب لهم من فهرسة الحديث الشريف التي زعموا أن فنسنك قام بها فإنما قاموا بها لتسهل مهمتهم أصلاً كما أن تلاميذ هذا المستشرق من العرب والمسلمين هم الذين قاموا بالعمل تحت إشرافه كما أكد ذلك الدكتور قاسم السامرائي على أخطاء في مثل هذه الأعمال.

        وإيجابيات المستشرقين أنهم نبهونا إلى الفكر الغربي ونظرته إلينا من خلال ما كتبوه وما ناقشوه ومن خلال تأثيرهم في أبنائنا وفي العالم بأجمع، ألا ترى الياباني أو الكوري أو أي جنس آخر إن أراد أن يدرس عن الإسلام والمسلمين ذهب إلى الغرب ليدرس على يديهم.

        وأود أن أضيف إيجابية للمستشرقين أنهم عندما أعلنوا لبعض طلابهم كرههم للإسلام وبغضهم ثارت الحمية في نفوس بعض الطلاب فعادوا إلى دينهم وأصبحوا من كبار المنافحين عن الإسلام وحرصوا على فهمه والتعمق فيه وأضرب لذلك بالدكتور مالك البدري الذي كان يدرس في الجامعة الأمريكية في بيروت وكذلك الدكتور إسحق الفرحان.  وإن كان المستشرقون لم يقصدوا إلى ذلك.

 

س : يتحدث البعض عن الاستغراب كردة فعل للاستشراق لو حاولنا التعرف على أهدافه:

ج:

كثيراً ما يسأل السائلون ما المقابل لدراسة الاستشراق، أليس هو الاستغراب؟ ربما يكون الجواب صحيحاً ولكن الأهم من ذلك هو أننا يجب أن نتساءل لماذا تأخرنا في دراسة الشعوب الأخرى؟ إن المسلمين حينما خرجوا من جزيرة العرب كانوا على معرفة بالشعوب والأمم الأخرى منها من حدثهم بها القرآن الكريم ومنها من كسبوا المعرفة به من خلال التجارة والرحلة. ثم انطلقوا لمعرفة تلك الشعوب عن طريق الاحتكاك المباشر وظهر رحالة مسلمون كتبوا عن مختلف شعوب العالم حتى أصبحت كتاباتهم مرجعاً عالمياً في دراسة الشعوب الأخرى.

وقد بدأت أوروبا بإنشاء مراكز ومعاهد وأقسام علمية لدراسة العالم الإسلامي منذ عدة قرون بل إنها خصصت عدداً من أبنائها لدراسة الشعوب والأمم الأخرى جميعها فكما أن لديهم أقساماً لدراسة العالم الإسلامي فلديهم المتخصصين في الصينيات وفي دراسة اليابان بل إن كل دولة أوروبية تقوم بدراسة الدول الأوروبية الأخرى فمثلاً لدى بريطانيا (بجامعة لندن) معهد الدراسات الأمريكية الذي يمنح درجة الماجستير في دراسة الولايات المتحدة الأمريكية.

ونظراً للسمعة العلمية التي حققتها هذه الدراسات توجه أبناء الدول المختلفة للدراسة في تلك البلاد حتى إنهم يتخصصون في الدراسات المتعلقة ببلادهم في أوروبا أو أمريكا من النواحي العقدية والتاريخية والاجتماعية والثقافية والسياسية والحضارية والثقافية.

والمسلمون الذي جاء كتابهم الكريم يدعو إلى التعارف بين الشعوب في قوله تعالى (وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا) أهملوا هذا الجانب في العصر الحاضر فأصبحوا من قرون عديدة موضع الدرس لدى الأوروبيين والأمريكيين، وقد وصل الغربيون في معرفتهم لنا أن عرفوا التفاصيل الدقيقة عن الأمة الإسلامية في المجالات العقدية والتشريعية والتاريخية ومعرفة المجتمعات العربية الإسلامية في العصر الحاضر معرفة تفصيلية حتى أصبحوا كما ذكر أحد الباحثين يعرفون التفاصيل وتفاصيل التفاصيل.

ودراستنا الغرب لا شك ستختلف عن دراسة الغرب لنا، ذلك أن الغرب بدأ الاستشراق فيه منطلقاً من توجيهات وأوامر البابوات لمعرفة سر قوة المسلمين وانتشار الإسلام في البلاد التي كانت خاضعة للنصرانية. وكان القصد ليس فقط معرفة الإسلام والمسلمين، ولكن كانت أيضاً لهدفين آخرين: أحدهما تنفير النصارى من الإسلام، والثاني إعداد بعض رجال الكنيسة للقيام بالتنصير في البلاد الإسلامية.

أما نحن فحين نريد دراسة الغرب ومؤسساته وهيئاته فأولاً نحن بحاجة للأخذ بأسباب القوة المادية التي وصلوا إليها، أليس في كتابنا الكريم ما يؤكد هذا{وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم}(الأنفال 60)

والأمر الآخر أننا حين ندرس الغرب فليس لدينا تطلعات استعمارية، فما كان المسلمون يوماً استعماريين. ولكننا نريد أن نحمي مصالحنا ونفهم طريقة عمل الشركات المتعددة الجنسيات التي ابتدعها الغرب وأصبحت أقوى نفوذاً من كثير من الحكومات.
والأمر الثالث وهو أمر له أهميته الخاصة، أن هذه الأمة هي أمة الدعوة والشهادة؛ فإن كان الأنبياء قبل سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم كانوا يُكَلّفون بدعوة أقوامهم بينما الدعوة الإسلامية موجهة إلى العالم أجمع، قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة
)وقد كلّف المسلمون جميعاً بحمل هذه الأمانة  ، وجاء في حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم: (نضّر الله امرأً سمع(أنا ومن اتبعن مقالتي فوعاها فبلغها إلى من لم يسمعها؛ فربّ مُبَلّغٍ أوعى من سامع أو رب حامل فقه إلى من هو أفقه منه). ونحن أمة الشهادة فكيف لنا أن نشهد على الناس دون أن نعرفهم المعرفة الحقيقية؟!

ولن يكون علم الاستغراب لتشويه صورة الغرب في نظر العالم، ذلك أننا ننطلق من قوله تعالى {ولا يجرمنّكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله}، ولنا أسوة في ذلك بما ورد عن عمرو بن العاص رضي الله عنه في وصف الروم بقوله: "إنّ فيهم لخصالاً أربعاً: إنهم لأحلم الناس عند فتنة، وأسرعهم إفاقة بعد مصيبة، وأوشكهم كرة بعد فرّة، وخيرهم لمسكين ويتيم وخامسة حسنة جميلة: وأمنعهم من ظلم الملوك".

فمتى ينشأ علم الاستغراب؟!

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

تلخيص كتاب منهج البحث التاريخي للدكتور د. حسن عثمان

الكلمات النورانية: وتحمل الكل

الإسلام وتعلم اللغات الأجنبية