القسم الثاني من حوار نادر المتروك لصحيفة الوقت البحرينية


 
 

الوقت
صحيفة الوقت البحرينية - يومية سياسية مستقلة
العدد 1096 الجمعة 25 صفر 1430 هـ - 20 فبراير 200

»إشراقات«
مؤمناً بوحدة الإسلام وتعدّده.. مازن مطبقاني في حوار مع «الوقت»: «2-2»
هاتوا إسلاماً يُحاربُ الاستبدادَ.. وبعد ذلك سمّوه ما شئتم

الوقت - نادر المتروك:

في كتابه ''الغرب من الدّاخل''؛ يلحّ الدكتور مازن مطبقاني على ضرورة معرفة الآخر عن قرب، وليس من خلال الوسائط البعيدة. يُحدّد مطبقاني مفهوم الآخر من خلال النصوص الشّرعيّة، حيث ورد في القرآن الكريم والسّنة الشّريفة ما يُشير إلى تقسيم البشر إلى أصناف عدّة، وهم المؤمنون، والكافرون، والمنافقون، وغيرها. ولكن، يجعل مطبقاني لهذه المعرفة أمرين لازمين ضروريين ويسبقان معرفة الآخر، وهما: تثبت الهويّة الخاصة بالمؤمنين، ومعرفة الآخر بصفاته. وبرأيه، فحين توقّف المسلمون عن معرفة أنفسهم، أهملوا معرفة الآخر؛ بدأ الغرب بالتوجّه إلى معرفة المسلمين وإطلاق النّشاط العلمي الخاص بدراسة الحضارة الإسلاميّة. في ظلّ ذلك، يتشارك مطبقاني مع القائلين بأهمية دراسة الغرب، وهو يقترح جملة من الموضوعات لهذه الدّارسة، ومنها ''دراسة عقيدة الغرب دراسة موضوعية بعيداً عن الحماسة والعاطفة، ودراسة الشّخصيّة الغربيّة من حيث مكوّناتها وبنائها النفسي والاجتماعي''

(ص19). في الكتاب، يُقدّم مطبقاني شواهد واقعيّة من المجتمع الغربي، على النّحو الذي يحكي طبيعته الدّاخليّة وما يميّزه من طبائع وظواهر اجتماعيّة، ولكنه لا يغفل عن تسطير نواح إيجابيّة في هذا الغرب، مقدّماً نماذج من ذلك أيضاً. في القسم الأخير من الحوار مع مطبقاني، يتطرّق الحديث إلى إشكاليّة التدّين في الواقع المعاصر، وفي ظل هيمنة المادة، ويتناول قضية المواصفات المتعدّدة للإسلام، وإمكان الجمْع بين هذه التعدّدية ووحدة المفهوم الإسلامي الكلّي.

* كيف يستطيع المسلم المعاصر أن يحافظ على أساسه الدّيني، وفي الوقت نفسه يُحقّق شرط الحوار والانفتاح على الآخر؟

- لا أتخيّل لحظة أنّ المحافظة على الأساس الدّيني عائقٌ للحوار، والانفتاح، بل العكس هو الصّحيح. فإن المسلمين الأوائل الذين أخذوا الإسلام من المصدر، ويكاد يكون تطبيقهم للإسلام المئة في المئة، عرفوا الآخر وانفتحوا عليه وحاوروه. كان الآخر في مكّة هم المشركون، وفي المدينة عرفوا الآخر فيمن لم يُسْلم من أهل المدينة واليهود.. هل يمكن أن يزعم إنسانٌ أنهم أغلقوا الأبواب، ووضعوا الحواجز بينهم وبين هذا الآخر؟! إنهم كانوا منفتحين إلى أبعد مدى، وكان الحوار هو الأساس الذي يقوم عليه المجتمع الأوّل. إنّ موقف الرّسول صلّى الله عليه وسلم من إعطاء اليهود حقّهم الكامل في أن يحافظوا على دينهم وأموالهم وممتلكاتهم ومعابدهم؛ لهو أوّل انفتاح وتسامح حقيقي في تاريخ البشريّة. وخرج المسلمون إلى بلاد الشّام ومصر والعراق وبلاد فارس، وكانوا متمسّكين ومحافظين على أساسهم الدّيني، ومع ذلك فلا يُعرف عنهم الانغلاق، أو النكوص عن الحوار. فلماذا لا يكون هذا ممكناً في عصرنا الحاضر؟!
* ما هي تجربتك الشّخصيّة لهذه المسألة؟

- لقد حضرتُ عشرات المؤتمرات في أنحاء العام (معظمها في أوروبا) ممارِساً للحوار، متعلّماً، منفحتاً على الآخر.. وفي رحلاتي إلى الغرب؛ أقرأ الصّحف، وأتابع وسائل الإعلام، وأمشي في الشّوارع، ألاحظ، وأدرس، وأسأل، وأحاور.. ومع كلّ هذا، لا أتنازل عن الثّوابت الدّينيّة أو القناعات التي أملكها، وأحاور فيما أعلم من الإسلام، وأعتذر عن جهلي بأمور، لكن يقيني - والحمد لله - أن رسالة الإسلام إنما جاءت لخير البشريّة، وتحقيق السّلام والعدل الحقيقي على وجه الأرض، وأنّ عقيدة المسلم لا غموض فيها ولا تعقيد.
التديّن والحياة الماديّة

* هناك منْ يذهب إلى أنّ الحديث عن التديّن الخالص في الوقت الحاضر بات محفوفاً بالكثير من الإشكالات والاعتراضات، وذلك بلحاظ طغيان القيم الماديّة وتسرّبها في كلّ مناحي حياة المسلمين، والقوْل بأنّ العولمة - بما هي ظاهرة ماديّة أساساً - تنطوي على قيم منشأها الغربي، وهي قيم تتعارض مع قيم الإسلام. ما رأيكم في هذه الإشكاليّة؟
- إن الحياة الماديّة، أو طغيان المادة، أمرٌ نسبي، فالمسلمون الأوائل خرجوا إلى عالم مادي، شرس، وإلى عالم مترف، مرفّه (بمعايير ذلك الزّمان).. خرجوا من بيوت الشّعَر والطّين، ليشاهدوا القصور المترفة، فلم يبهرهم، ولم تُصبهم بصدمةٍ حضارية كما تعرفها اليوم. رأى عمر بن الخطاب رضي الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم نائماً على حصير، قد أثّر في جبينه الشّريف، فبكى، وقال: ألا نأتي لك بفراش أنعم وألين، إنّ كسرى والقيصر يتنعّمان بقصورهما الفارهة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يا عمر، ألا ترض أن تكون لهم في الدّنيا، وتكون خالصة لنا يوم القيامة؟! وأتساءل: كيف عرفَ عمر بن الخطاب عن الترف الذي يعيش فيه ملوكُ ذلك الزّمن؟

* هل يمكن إيراد شواهد تاريخيّة أخرى؟

- إنّ طغيان المادة اليوم هو طغيان المادة بالأمس، ولكن التّكوين النفسي والرّوحي للجيل أو الأجيال الأولى من المسلمين كانت حصناً قويّاً مانعاً لهم من الانحراف أو الانسياق وراء المادة. ولك أن تتعجّب معي في جنود المسلمين الذين حملوا كنوز كسرى إلى المدينة ليضعوها بين يديّ عمر رضي الله عنه، فيقول: إنّ قوماً أرادوا هذا لآمناء.. وهنا يتكلم علي بن أبي طالب رضي الله عنه قائلاً: يا أمير المؤمنين، عففت فعفّت الرّعية، ولو رتعت لرتعوا. أتخيّل هؤلاء الجنود جاؤوا بالكنوز، وليس معهم سجل مدوّن فيه كلّ قطعة، وقد وقعّوا أو بصموا على الاستلام والتّسليم!! وقد دخل سعد بن أبي وقّاص رضي الله عنه إيوان كسرى في المدائن (هل هي مبالغة من مدينة؟!) ورأى عظمة البناء، وفخامته، ورفاهيته، وترفه، فهل قرأت عبارات الإعجاب والانبهار؟! لقد دخل خاشعاً، متواضعاً، وصلّى صلاة الشّكر، وقرأ قول الله تعالى: ''كم تركوا من جنات وعيون وزروع ومقام كريم ونعمة كانوا فيها فاكهين.. وأورثناها قوماً آخرين''.

* ما هو المانع الفكري أو العقيدي الذي يحفظ المتديّن من الانبهار المادي؟
- المتديّن الحقيقي لا تبهره مظاهر المدنيّة والماديّة، ولا تطغى على عقله وفكره وقلبه، لأنه يعلم حقيقة الحياة ونهايتها، ويتذكّر أحاديث الرّسول صلى الله عليه وسلم في وصف الدّنيا: لو كانت الدنيا تسوى عند الله جناح بعوضة ما سقى منها الكافر جرعة ماء. وتعرف سورة كريمة في القرآن الكريم اسمها (الزّخرف)، وتنتهي إحدى آياتها ''وزخرفا''، وقد جاءت الكلمة منكّرة بعد بعض الأوصاف الدقيقة للزّخرف. نعم، بعض انجازات العصر ومستحدثاته الماديّة مفيدة، وتجعل حياة الإنسان أيسر وأسهل، وهذا لا يمنع التديّن مطلقاً أن يستخدمها ويفيد منها.
الإسلام المعاصر.. المواصفات المتعدّدة للإسلام

* يُلاحظ أنّ هناك تعدّداً في المواصفات المرتبطة بالإسلام، فهناك حديث عن إسلام أوروبي يُعبّر عن طبيعة الحياة الخاصة للمسلمين في أوروبا، وكذلك الإسلام الأميركي (لا بالمعنى القادح الذي يشيع في أدبيات الحركات الإسلاميّة الرّاديكاليّة والخمينيّة)،. هل توافقون على مثل هذه المواصفات المتعدّدة للإسلام؟ ما هي السّلبيات، والإيجابيات من هذه التعدّديّة؟
- الإسلام واحدُ، ومتعدّد. واحد لأنه جاء لهداية البشريّة، ولتحقيق العدل الكامل (الذي يمكن للبشر أن يصلوا إليه)، وليحارب الظلم والاستبداد والطّغيان. أكّد القرآن الكريم على مبدأ العدل، وكان الأمر بذلك لنبي ملك هو داود عليه السّلام: ''يا داود إنّا جعلناك خليفة في الأرض، فاحكم بين الناس بالحقّ ولا تتّبع الهوى''. وذكر القرآن في المقابل الصّورة السّلبيّة للحكم، وهي الفرعونيّة: ''ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرّشاد''. حارب الإسلام أن يستولي الحاكم على أموال النّاس باسم الحكم: ''ونادى فرعون في قومه، قال يا قوم أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي أفلا تبصرون''. ألا يقول ويفعل معظم حكّام المسلمين هذا اليوم؟ نعم، الإسلام الواحد هو الإسلام الذي يُعلي من شأن الفضيلة والأخلاق، سواء الخاصة (دون التجسس على النّاس وتتبّع عوراتهم) أو العامة من الصدق والأمانة (يبدأ الصّدق من الحاكم)، والعفّة ومحاربة الفساد، من بغاء وفساد. الإسلام الواحد الذي يُطالب أن تكون الأمة الإسلاميّة قويّة ماديّاً ومعنويّاً، متكافلة ومتكاملة.

* وماذا عن الإسلام المتعدّد.. كيف يكون كذلك؟

- أما الإسلام المتعدّد.. فليكن أوروبيّاً، أو أميركياً، أو ماليزيّاً، أو أندونيسيّاً.. فأمرٌ لا يختلف عليه اثنان عاقلان. ألم يقل الشّافعي: هذا ما أفتينا به في بغداد، وهذا ما نفتي به في مصر؟ ونعرف تغيّر الفتيا بتغيّر الزّمان. لقد تفرّق الصّحابة رضوان الله عليهم في البلاد، ونقلوا إليها الإسلام غير متطابق مئة في المئة (كما نسمع عن بعض الرؤساء في زياراتهم الرّسميّة) فهل قال أحد: هذا إسلام عبدالله بن مسعود، وهذا إسلام الكوفة، وهذا إسلام البصرة..؟! أو هذا إسلام مصري، وهذا إسلام شامي؟! لقد جاءنا التشدّد حينما حاولت فئات منّا أن تفرض إسلاماً ضيّقاً، حرفيّاً على الأمة، وعلى العالم. استخدموا لذلك نفوذهم المادي والسّياسي. منْ منع المسلمين في أميركا، مثلاً، أن يكون لهم اجتهاداتهم، وطريقة حياتهم إذا امتلكوا أدوات الاجتهاد، وتمسّكوا بثوابت الإسلام وأساسيّاته؟!

ابن تيمية وتفجير معاني القرآن

* هناك أيضاً الإسلام المعاصر الذي يُطرح للتعبير عن الرؤية الاجتهاديّة الملازمة لحركة الواقع وظروف العصر، والإسلام الحضاري. وقبل ذلك كان يُطرح مفهوم اليسار الإسلامي، الإسلام التقدّمي.. ما رأيكم بذلك؟

- أما عبارات اليسار الإسلامي، والإسلام الليبرالي.. فلابد من فحص دعاوى كلّ جهةٍ وفقاً للإسلام الأصل، وأن لا يكون الإسلام اليساري، مثلاً، تلفيقاً لمعطيات اليسار الغربي مع الإسلام، أو الليبراليّة مع الإسلام. وفوق كلّ ذلك، فالإسلام لا يحْجر الفكر أن يعمل، وقد نقل لي تلميذي في مرحلة الدّكتوراه، أنّ ابن تيمية رحمه الله له قول في مسألة فهم القرآن الكريم، وأنه لابد من تفجير المعاني تفجيراً. إن الله عزّ وجل وهبَ البشر عقولاً لتفكّر، لا لتكون منحطة جامدة، بل انظر كم عدد المرّات التي ذُكر فيها العقل والفكر والتدبّر، وكلمة يعقلون.. وغيرها!

* تعلمون أنّ القرآن الكريم كان منطلقاً أساسيّاً في الاجتهادات المتعدّدة للإسلام. هل توافقون على ذلك؟

- لقد أبدع الشّيخ عبدالحميد بن باديس في تفسير أجزاء من القرآن، وأتى بآراء لم يقل بها لا الطّبري ولا ابن كثير ولا غيرهم، وكذلك فعل سيد قطب رحمه الله، وابن عاشور وابن سعدي، ونعرف مقولة إن ''القرآن حمّال أوجه''. وأعود وأقول: هاتوا لنا الإسلام الذي يُحارب الاستبداد، والطّغيان، وامتهان الكرامة، وسلب الحرّيات.. وسمّوه ما شئتم! هاتوا لنا الإسلام الذي يُحقّق الشفافيّة التي تحقّقت في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، والمحاسبيّة.. وسمّوه ما شئتم! هاتوا لنا حرية حقيقيّة، لا تكتم الأفواه، ولا تحْجر على العقول، لنعود منا قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ''متى استعبدتم النّاس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً''.. هاتوا لنا أمناً حقيقيّاً وحكومات تُصادق الشّعوب وتألفها.. لا أن تمرّ من أمام وزارات الدّاخليّات فيُطاردك الحرّاس! فالخوف يكون حيث يجب أن يكون الأمن.. هاتوا لذلك، ثم سمّوه ما شئتم!


 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

تلخيص كتاب منهج البحث التاريخي للدكتور د. حسن عثمان

الكلمات النورانية: وتحمل الكل

الإسلام وتعلم اللغات الأجنبية