لقاء صحافي مع خالد سعيد باحكم في المدينة المنورة


        بسم الله الرحمن الرحيم

الإجابة عن أسئلة خالد سعيد باحكم

نشر في صحيفة  المدينة المنورة  في شهر رمضان 1416

ونشر في مجلة الشرق مختصراً ،عدد (820) 20-26شوال 1416





البطاقة الشخصية : مازن صلاح حامد مطبقاني

      أستاذ مساعد بقسم الاستشراق -كلية الدعوة بالمدينة المنورة - جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.

    تاريخ الميلاد 3 جمادى الآخرة 1369(22مارس ،آذار، 1950م) بالكَرَك في الأردن.

بعد الثانوية العامة ابتعث لدراسة الإدارة الصناعية في الولايات المتحدة الأمريكية ولكنه لم يجـد هذا المجال مناسباً لميوله ورغباته ، والتحق بدراسة كثير من المواد العلمية تلبية لرغبة الأهل الذين كانوا يتطلعون ليعود ابنهم مهندساً أو طبيباً أو أي تخصص علمي آخر . وانتهت خمس سنوات فقرر العودة بعدها بلا شهادة.

التحق بعد عودته ببرنامج الانتساب، جامعة الملك عبد العزيز قسم التاريخ، وحصل على البكالوريوس ثم الماجستير، وانتقل بعدها إلى قسم الاستشراق بكلية الدعوة جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية وحصل على أول درجة دكتوراه في مجال الاستشراق عن دراسته لأعمال المستشرق برنارد لويسن المؤلفات منها جمعية العلماء المسلمين الجزائريين ودورها في الحركة الوطنية الجزائرية وكتاب عبد الحميد بن باديس العالم الرباني والزعيم السياسي) ومن   ترجماته أصول التنصير في الخليج العربيو كتاب صراع الغرب مع الإسلام بالإضافة إلى مشاركاته الصحافية بزاوية أسبوعية في جريدة المدينة المنورة، وغير ذلك من النشاطات الفكرية.

المبدأ الذي أومن به:

أجمل حياة يمكن أن يعيشها  الإنسان إذا استطاع أن يكون سليم الصدر خال مـن الغش والحقد والحسد. ويقوي هذا المبدأ لدي حديث الرسول صلى الله عليه وسلم عن الرجل الذي يدخل الجنة ولم يكن كثير صلاة ولا صيام ولكنه كان يبيت وليس في قلبه ذرة حقد على أحد من المسلمـين. ويؤكد هذا المبدأ كذلك أننا أمام معارك مع أعداء هذا الدين فما بالنا نتخاصم مع محمـد أو عمر أو عبد الله أو زيد أو عمرو من المسلمين. ألا يمكن أن نفيد من حديث الرسول صلى الله عليه وسلم لأسامة بن زيد رضي الله عنه (أفلا شققت عن قلبه)

جهودي في نشر الدعوة:

من أنا حتى يكون لي جهود في الدعوة؟ وهل لي حقاً جهود تستحق الحديث عنها. هذه أمور أتركها لغيري لتقويمها. ومثل هذه الأمور من تزكية النفس. ولكن أسأل الله عز وجل الإخلاص في القول والعمل.

إعداد الداعية:  

إن إعداد الداعية أمر خطير يجب أن يبدأ من البيت في سن الطفولة، يجب أن يعرف الأبناء والبنات أنهم وأنهن لم يخلقوا عبثاً وأن حياتهم لا بد أن يكون لها معنى. وأي معنى أعظم من أن يكون الإنسان داعية إلى الله بقوله وعمله. وهذا ما جاء في القرآن الكريم {قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعن}

     إن كل مسلم مكلف بالدعوة بقدر علمه وطاقته وبقدر طموحه إلى رضى الله سبحانه وتعالى. فهذا حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم يحثنا على التبليغ في قوله:(نضر الله امرأً سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها ، فربّ مبلَّغ أوعى من سامع، أو ربّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه) وقد قال المصطفى صلى الله عليه وسلم حين بعث علي بن أبي طالب رضي الله عنه إلى خيبر (لئن يؤمن بـك رجل واحد خير لك من حمر النعم). فأي أجر أعظم من أجر الداعية إلى الله ، إنها مهمة الرسل الكرام صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.

اختيار قسم الاستشراق:

       قرأت ذات يوم أن المهنة أو المهمة هي التي تختار الشخص، فهل أنا الذي اخترت الاستشراق أو أن الله عز وجل أراد لي أن أمضي خمس سنوات في الولايات المتحدة لا أعرف تخصصاً يناسبني ثم أعود إلى المملكة بلا شهادة فألتحق بقسم التاريخ منتسباً، وأحصل على البكالوريوس ثم الماجستير وأخيراً أضع الرحال في هذا التخصص الطريف والجديد وهو دراسة الاستشراق والرد على المستشرقين.

        وبعد عودتي من الولايات المتحدة أخذت أبحث عن وظيفة وكانت الأبوا ب شبه موصدة لأنني لا أحمل شهادة جامعية، وفي أثناء الانتظار كنت أمضي وقتي في القراءة فقرأت الكثير حتى إنني كنت أقرأ كتاباًَ في كل يوم. ومن الكتب التي قرأتها كتب الشيخ أبي الحسن الندوي، وكتب الشيخ يـوسف القرضاوي، وكتب سيد قطب،  وكتب محمد قطب وكتب المودودي وغيرها من الكتب الإسلامية و الدعوية بصفة خاصة. وقرأت روايات وقصص الدكتور نجيب الكيلاني .

    وعندما التحقت بالجامعة منتسباًً لقسم التاريخ عام 1394هـ، وفي أول سنة كان كتاب الـدكتور  حسن إبراهيم حسن هو الكتاب المقرر في مادة التاريخ الإسلامي تاريخ الإسلام السياسي والاجتمـاعي  والثقافي فوجدت الكتاب متأثراً بالاستشراق فكتبت عشر صفحات وقدمتها لأستـاذي الدكتور جمال مسعود فتعجب كيف يمكن لطالب في السنة الأولى أن يتناول كتاباً منهجياً بالنقد. ومما أذكر من ذلك النقد أنه اختصر السيرة النبوية إلى الحديث فقط عن الغزوات(بدر،  أحد، الخندق، الحديبية...الخ) . وفي موضع آخر كان يتحدث عن أسباب انهيار سد مأرب فقدم ما قاله المستشـرقون مثل  فان فلوتن وغيره ثم ذكر ما جاء في القرآن الكريم . واعتقدت حينئذ وما زلت أن المسلـم يجب أن لا يقدم أي كلام على كلام الله سبحانه وتعالى. كما لاحظت تأثره في كثير من القضايا بالمستشرقين وتحليلاتهم مثل الحديث عن توجيه الصديق رضي الله عنه للجيوش الإسلامية إلى الشام إنما كان لإشغالهم عن إثارة الفتن الداخلية وهي نظرة مادية ضيقة لا تتفق والإسلام . والدكـتور حسن إبراهيم حسن رحمه الله درس في بريطانيا وكان مـن أساتذته توماس آرنولد صاحب كتاب الدعوة إلى الإسلام وكان حسن إبراهيم حسن هو الذي ترجم هذا الكتاب.

        وحصلت على البكالوريوس في التاريخ ثم التحقت ببرنامج الماجستير، ولمّا كنّا أول دفعة فقد تأخرنا كثيراً حيث حصلنا على الماجستير بعد سبع سنوات. وواجهت التأثر بالاستشراق والمناهج الاستشراقية لدى بعض أساتذتي فمنهم من يزعم أنه لا بد من الفصل بين العلم والدين حين سألته عن المنهج القرآني في دراسة التاريخ . وأستاذ آخر يزعم أن دراسة التاريخ العربي أو الإسلامي لا تصـح دون الرجوع إلى مراجع أجنبية، ذلك أن الغربيين يتميزون بالمنهجية والعمق وغير ذلك.  وهنـا تجدد الحنين للمدينة المنورة ولقرب الوالدين فوجدت الفرصة في قسم الاستشراق بالمعهد العالي للدعوة الإسلامية(كلية الدعوة حاليا) فتقدمت واجتزت بحمد الله المقابلات الشخصية وغيرها من المعايير المطلوبة. وبدأت حياة علمية مختلفة تماماً عما اعتدته في العمل الإداري . وأحمد الله أنني ما إن حصلت على القبول في المعهد العالي حتى بدأ نشاطي في الكتابة حول الاستشراق فأصدرت العديد من الكتب من بينها كتاب من آفاق الاستشرق الأمريكي المعاصر وكتاب الغرب في مواجهة الإسلام وترجمت كتاباً بعنوان  التنصير في الخليج العربي وغير ذلك من النشاطات مثل الكتابة الصحافية حيث أصبح لي زاوية أسبوعية في صفحة الرأي بجريدة المدينة المنورة بالإضافة إلى الكتابة في ملحق التراث بالجريدة نفسها ومقالة أسبوعية في ملحق الأمة بجريدة عكاظ وفي صحف أخرى ومن ذلك مقالتين في جريدة الحياة اللندنية.

وبعد سنوات من العمل المتواصل حصلت على  الدكتوراه -وكانت أول درجة دكتوراه يمنحها قسم الاستشراق-وكانت بعنوان منهج المستشرق برنارد لويس في دراسة الجوانب الفكرية في التاريخ الإسلامي وقد صدرت في كتاب عن مكتبة الملك فهد الوطنية بالرياض هذا العام بعنوان: الاستشراق والاتجاهات الفكرية في التاريخ الإسلامي.(1416-1995)

        أما سؤالك عن خريج قسم الاستشراق فهو يملك الأدوات المعرفية الأساسية؛ فهو على علم بالإسلام ومبادئه في العقيدة والشريعة والتاريخ والاقتصاد والسياسة، وله معرفة بالحضارة الغربية وجذورها. ولكن هذا المتخصص كالطبيب يحتاج إلى زيادة معارفه الدراسات الإسلامية في الغرب لذلك من الواجب عليه أن يتقن إحدى اللغات الأوروبية إتقاناً يمكنه من الاطلاع المستمر على ما يصدر في الغرب. والمتخصص في الدراسات الإسلامية عند الغربيين ليس شخصاً عادياً فهو على ثغرة مهمة عليه أن يحرص أن لا يؤتى الإسلام من ناحيته. فهو ليس طالب شهادة فحسب ولكنه صاحب رسالة عليه أن يؤمن بها أولاً وإن كان هذا في الحقيقة هو واجب كل مسلم  أن يذب عن الإسـلام وأن ينقل الإسلام إلى الأمم الأخرى عملاً بحديث الرسول صلى الله عليه وسلم (لئن يؤمن بك رجل واحد خير لك من حمر النعم) وانظر إلى قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه (الله الله أن يؤتى الإٍسلام وأنا حي) فجعل رضي الله عنه مسؤولاً عن الإسلام، ولكن أين لنا بإيمان أبي بكر وهمة أبي بكر، ولكن ليكن التأسي بهم إن لم نستطع الوصول إلى ذلك المستوى العظيم.

العالم الإسلامي وإمكانية توحيده:

      هذه قضية كبيرة تؤلف فيها المجلدات ولكن القرآن الكريم وضع لنا الأسس التي نسير عليها وهي قول الله عز وجل {واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا} وقوله تعالى {ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم}

     والعمل على وحدة الأمة الإسلامية يجب أن يتم على عدة مستويات فعلى المستوى الرسمي أو الحكوماتي ينبغي النظر إلى العمل الجاد الذي يقوي الأواصر بين الدول الإسلامية من النواحي السياسية والاقتصادية والثقافية فنزيل تلك الحواجز الوهمية بين بلداننا. فلا بد من رفع حجم التبادل التجاري بين الدول الإسلامية ففي الوقت الحاضر نجد أن ميزان المدفوعات بين الدول الإسلامية منخفض جداً بينما يرتفع هذا الميزان بين الدول الإسلامية والدول الغربية.

        نحن كذلك بحاجة إلى العمل على المستوى الفردي فلا بد أن يدرك المسلمون أنهم إخوة وأن هذا من الإيمان {إنما المؤمنون إخوة} وأن يتمثلوا الوصف الذي جاء في القرآن الكريم {محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم} وقوله تعالى {...فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة  لائم، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم}


الصحافة الإسلامية وخدمة الدعوة: 

        إننا بحاجة إلى القلم الإسلامي المستنير في جميع المجالات في التحرير وفي الأقسام السياسية والاقتصادية والرياضية والعلمية والتربوية. لدينا والحمد لله بضعة نفر يكتبون المقالة بروح إسلامي جميل ولكننا بحاجة إلى أضعاف هذا العدد. نحتاج إلى القلم الإسلامي يكتب القصة والشعر والسينـاريو والحوار والمسرحية . ولو نظرنا في كتاب الاتجاهات الوطنية في الأدب العربي الحديـث لتأكد لنا ضخم الجهود التي بذلها الكتاب العرب للدعوة إلى القومية والعلمانية وغيرها من الأفكار الضالة. فما بالنا نستهين برسالة القلم؟ ومع ذلك فما زال أعداد أصحاب الدعوة إلى البعد عن الإسلام كثيرة وهم عصابات تتولى السيطرة على منابر الرأي في العالم العربي الإسلامي ولا يسمحون بأن ينافسهم أحد في هذه المنابر بل تجدهم يضطهدون أي أحد يخالفهم الرأي.

الأقلام الغربية التي تحاول تشويه الإسلام:  

     يجب أن ندرك أن هذه الأقلام لن تتوقف، وأن أعداء الأمة الإسلامية لن يلقوا السلاح ومنه سلاح القلم. والتصدي لهذه الأقلام يكون بعدة أمور:أولاً: رصد ما يكتب عن الإسلام والمسلمين في الغرب والتصدي له بالكتابة لوسائل الإعلام التي تنشر تلك الأفكار. ولا شك أن الضغط المستمر يجعل تلك الوسائل أن للمسلمين قوة لا يستهان بها. وثانياً السعي لتكون لنا وسائل إعلام عالمية قوية هدفها توضيح الصورة عن الإسلام والمسلمين وتحاول أن تصل إلى جميع المستويات.وثالثاً الحضور القوي في المؤتمرات والندوات التي تعقد في الغرب ليصل الصوت الإسلامي القوي .

واقعنا المعاصر وتأثير أفكار المستشرقين وطروحاتهم حتى في النخبة:

     مسألة الصراع الفكري مسألة قديمة منذ ظهور الإسلام والطروحات التي كان يقدمها المنافقون وما كان اليهود يقومون به في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم من أعمال  لتشكيك المجتمع المسـلم قد فضحها القرآن الكريم، ولكن كان تيار الإيمان هو الأقوى فلم تنل هذه الأفكار ما كـانت تطمح إليه. وبعد انقطاع الوحي استمر الصراع الفكري وأخذ أشكالاً كثيرة من الطعن والتشويـه والجريح وسوء الفهم. وانتشر الإسلام وأصبحت دولته هي الدولة العالمية وفي جو الحرية الفكرية التي ضمنتها الدولة الإسلامية عاد هؤلاء إلى الظهور من جديد أحياناً بشكل سافر وأحياناً عن طريق بعض الذين تظاهروا بالإسلام وأبطنوا الكفر.

         وتراجعت الدولة الإسلامية وتسلمت أوروبا القيادة فظهر عداء الغرب للإسلام والمسلمين في حركة الاستشراق التي ظاهرها المعرفة وفي باطنها الحرب الشرسة ضد الإسلام . وقد انطلقت البعثـات العلمية من ديار المسلمين للدراسة على أيدي المستشرقين ليس في المجالات العلميـة والتقنية  ولكن أخذنا عنهم الدراسات الإسلامية واللغة العربية.وبوجود قوة الاحتلال مُكّن لهؤلاء أن يتبؤوا الصدارة والتوجيه في العالم الإسلامي فتسربت من خلالهم الطروحات الاستشراقية.

        ولم يكتف الغرب بذلك بل إنه رعى هذه النخب (التسمية خاطئة، فالنخبة هي أفضل ما في المجتمع ويطلق عليها الصفوة ونخبة مجتمعنا هم أصحاب الأيدي المتوضئة والقلوب المؤمنة النيرة) فولاها الأمور و أضفى عليها من الهالة والشهرة ما مكنها من بث سموم الاستشراق . وكان وصول بعض الفئات إلى الحكم عندما انتهى عهد الاحتلال هو ما يسمى سرقة الثورات أو سرقة الجهاد. فعمل هؤلاء كأنهم وكلاء عن الغرب في نشر فكره وثقافته ومحاربة الإسلام . ولقد استمـرت جهـود  الاستشراق والاستعمار قرون عديدة فليس من الممكن الحديث عنها في مثل هذه العجالة فيكفي أن أشير إلى كتابي الدكتور محمد محمد حسين (رحمه الله تعالى) حصوننا مهددة من داخلنا وكتابه الإسلام والحضارة الغربية وغيرهما.

س: من أخطر أمراض المجتمع الإسلامي الآن التطبيقات العلمانية المعلنة أو غير المعلنة أو التي تتبنى الفصل بين الإسلام ودنيا الناس. إلى أي مدى كانت هذه التطبيقات أثراً من آثار الرؤية الاستشراقية للإسلام والمسلمين؟

    لقد ألقى الأستاذ الشيخ محمد قطب محاضرة قيمّة في جامعة الملك سعود عام 1403 بعنوان (الاتجاهات الفكرية المعاصرة) وقال فيها بأن أخطر الاتجاهات الفكرية التي وصلت إلينا من الغرب هي العلمانية أو بتعبير أدق اللادينية. ولئن كانت أوروبا تجد المبرر للتحلل من الدين النصراني  فهي لم تعرف دين الله عز وجل مطلقاً فما عرفته عن النصرانية هو ما نقله إليها بولس أو شاؤول. ثم تدخلت الحكومة الرومانية في مجمع نيقية عام 325 بفرض عقائد خاصة وحرمت كل ما عداها.

     وكما ذكرت في جواب سابق بأن الجهود الذي بذلت للترويج للعلمانية كانت من الضخـامة بحيث أن التخلص من آثار فترة الاحتلال أمر صعب جدا، ولكنه ممكن لمن استعان بالله عز وجل. وكما قلت أصبح لدينا بعض التطبيقات المعلنة وغير المعلنة . ومن ذلك في بعض التطبيقات الاجتمـاعية كقول البعض أن الدين في القلوب وكما يردد الأستاذ محمد قطب القول الشائع (ربّك رب قلوب). أو ترديد القول الشائع (الدين المعاملة) وهم في هذا القول يريدون التخلص أو التفلت من كثير من التكاليف الشرعية. ومن الممارسات الاجتماعية الخاطئة التي انبثقت عن الرؤى الاستشراقية مسألة الزواج بأكثر من واحدة لقد أصبح من الأمور التي لا يقبل بهـا كثير من الناس حتى النسـاء المتدينات. أليس هذا من آثار الرؤى الاسشراقية؟ ومن التطبيقات العلمانية الفصل بين الدين  والسياسة حتى إن حديث العلماء في الشؤون العامة أصبح أمراً مستغرباً في كثير من المجتمعات الإسلامية . وعلينا أن ندرك أننا في الحياة الاقتصادية حينما استحل بعضنا الربا ودافعوا عنه بشتى المسميات ، وكذلك الممارسات التجارية المختلفة فكان المسلم في الماضي قبل أن يلتحق بالسوق يتعلم أحكام البيع والشراء حرصاً على الكسب الحلال والابتعاد عن الحرام ، ولكن كم من الذين يعمـلون  في مجال التجارة أو الصناعة من يفهم أحكام الإسلام الشرعية. وكذلك في مجالات الحيـاة المختلفة التي أخذنا بأحكام القوانين الدولية في النقل الجوي وفي النقل البحري وكأن المسلمين ليس لهم وجود .


س: كيف أسهمت كتابات بعض المستشرقين في غرس وتنمية روح التعصب الديني عند النصارى بشكل خاص وفي آثار الأقليات غير المسلمة على المجتمع الإسلامي الذي يعيشون فيه؟

        لقد نشأ الاستشراق في بدايته في أحضان الكنيسة التي رأت انتصارات الإسلام في كل مكان فأرادت أن تحتفظ بما تحت يدها من سلطان ونفوذ فما كان منها إلا أن جندت كل قواها لتنفـير النصارى من الإسلام فأنشأت كراس للغة العربية هنا وهناك في أوروبا، كما كلفت بعض العلماء بترجمة القرآن الكريم. وشجعت على نشر كل ما يسيء إلى الإسلام. وحتى إنها إذا وجدت أحد العلماء يكتب بشيْ من الإنصاف عن الإسلام حرّمت نشر كتبه وحرمت قراءتها.

        والتعصب بضاعة أوروبية مئة بالمئة وقد تناول هذا الموضوع الدكتور محمد عمارة في كتابه القيم الغزو الفكري : وهم أم حقيقة حيث أوضح كيف أن النصرانية انتشرت في دول أوروبـا الشمالية بالقوة العسكرية. ومن أراد مزيداً من الأدلة فليرجع لتاريخ حركة الإصلاح الديني في أوروبا وبخاصة ما سمي عندهم بمحاكم التفتيش . ولاشك أن التعصب هو الذي قادهم إلى قبـول أربعة أناجيـل ورفض الأناجيل الأخرى لأنها لم توافق هوى السلطة وكما قال المستشرق مونتجمري وات إن الإمبراطورية الرومانية رومنت النصرانية بدل أن تتنصر الإمبراطورية الرومانية.

    وعندما انطلقت أوروبا في حروبها الصليبية اتجهت إلى النصارى في المشرق وتقربت إليهم لجذبهم إليها ليكونوا شوكة في ظهر المسلمين. وقد حققوا بعض النجاح ولكن النجاح الأكبر تحقق على يد الحركة الاستعمارية منذ حملة نابليون على مصر حيت تقرب إلى النصارى واليهود وهذا ما ذكره عبد الرحمن الجبرتي في تاريخه. ثم جاءت حركة محمد علي في مصر واستقلاله بل منافسته للدولة العثمانية فتدفق نصارى الشام على مصر وأخذوا يكونون لهم نفوذ قوي في وسائل الإعلام من صحافة ومسرح وتأليف ونشر.

     والاحتلال الأجنبي للمغرب العربي استعان باليهود ففي الجزائر مثلاً منحت الجنسية الفرنسية الكاملة لليهود منذ عام 1870. ولم يتوان اليهود في استغلال هذا النفوذ الجديد فكانوا في كثير من الأحيان أداة في يد الاستعمار أو أحياناً جعلوا الاستعمار أداة في يدهم.

     وما زلت أذكر لقاءً مع منى مكرم عبيد  في إذاعة لندن وهي تتحدث عن المناهج الدراسية في مصر ووسائل الإعلام التي تعطي الإسلام مساحة كبيرة وكأن هذه المرأة النصرانية تريد من الأغلبية العظمى أن تتنازل عن الاهتمام بدينها لإرضاء هذه الأقلية الصغيرة. 

س: كيف ننمي تيار الاعتدال داخل جموع المستشرقين؟

     لننظر فيما فعل المستشرقون والجمعيات الثقافية والفكرية والفنية الغربية بالشاذين وأصحاب الفكر المنحرف من أبناء الأمة الإسلامية من احتفاء بهم ودعوتهم إلى المؤتمرات والندوات وفسح المجال لهم لنشر فكرهم .علينا أن نعرف من مِنَ العلماء الغربيين يتبنى طروحات إيجابية من الإسلام وقضاياه، وينبغي أن ندرك أننا لا نبحث عن دعاية لدى هذا الباحث أو ذلك فما كان الإسلام بحـاجة إلى مثل هذا الأمر ولكن لنرى إنتاجهم الفكري وما قدموه  لأبناء جلدتهم فإن كان معتدلاً حقاً ساهمنا في نشره.ولنتعرف على الطرق الخفية التي يمكن دعم هؤلاء دون أن يكون هناك شبهة صلة بيننا وبينهم .

         ومن المعلوم أن الجامعات الغربية تعتمد إلى حد كبير على دعم محبي العلم وتبرعاتهم فالفرصة مواتية حين ندعم بعض الجامعات الغربية أن يكون لنا شرطاً علمياً أن تستخدم أموالنا في دعم الجانب المعتدل أو الذي لا تكون صاحب موقف عدائي من الإسلام والمسلمين.

        وكما قامت الكنيسة بتحريم بعض الكتب التي حاولت أن تنصف الإسلام فإن بعض الجهات في الجامعات الغربية قد تحرم الأستاذ المعتدل من منصب يستحقه في الجامعة وتعطي هذا المنصـب لمن يناصب الإسلام العداء. فليكن لنا تأثيرنا في الجامعات الغربية ونحن متهمون باستغلال أموالنا على أي حال فلنستغلها لوضع الرجل المناسب في المكان المناسب فغيرنا يعرف كيف يتصرف بأمواله ويضع الأساتذة المؤيدين لفكره وقضاياه.

س: هل يمكن القول أن الاستشراق قد انتهت حقبته في ظل الطروحات الفكرية والسياسية الدولية:

الغرب رفض مصطلح الاستشراق لأسباب خاصة به، فهو لم يعد يرى أن هذا التخصص له أي وجود في عصرنا الحاضر. وقد نادى بذلك أحد المستشرقين الألمان منذ الخمسينيات من هذا القرن، وتجددت الدعوة إلى نبذ كلمة استشراق في المؤتمر السنوي للجمعية الدولية للاستشراق الذي عقد في باريس عام 1393(1973م) وكان هذا المؤتمر بمناسبة مرور مئة سنة على تأسيس هذه الجمعية. وقرر هذا المؤتمر إلغاء التسمية وكما قال برنارد لويس أن مصطلح الاستشراق قد ألقي في مزابل التاريخ.

      والسؤال المهم وما هذه الأقسام العلمية تحت مسمى قسم دراسات الشرق الأوسط او مركز دراسات الشرق الأوسط أو مركز الدراسات العربية و الإسلامية في الجامعات الغربية؟والندوات التي تعقدهـا وكالة المخابرات المركزية الأمريكية كل شهر لدراسة الصحوة الإسلامي أو التيار الإسلامي في العالم. أليست هذه المسميات امتداد للاستشراق ولكن بالأسلوب المناسب في هذا العصر. فقسم دراسات الشرق الأوسط يقوم بالتنسيق بين عشرة إلى عشرين قسماً علمياً يخضع عالمنا العربي الإسلامي للدراسة فيها. ففي جامعة كاليفورنيا فرع بيركلي تتم دراسة العالم الإسلامي في ثمـانية عشر قسماً علميا تبدأ من العمارة فالزراعة فالاقتصاد فالفن والفولوكلور والسياسة والاجتماع والأنثروبولوجيا والجيولوجيا وغيرها.

        أما انتهاء الاستشراق في ظل الطروحات الفكرية والسياسية الدولية فقد ثبت أن الأمم المتحدة التي يراد أن تكون الحكومة العالمية المسيطرة فقد أصبحت تتبنى نشر الطروحات التي كانت تتولاها الدوائر الاستشراقية السابقة دون إنهاء دور مراكز البحوث و الجامعات ومن الأمثلة القريبة على هذا التحول إلى الطروحات الدولية المؤتمرات الثلاثة المتتالية: "مؤتمر السكان والتنمية" في القاهرة و"مؤتمر التنمية الاجتماعية" في كوبنهاجن، و"المؤتمر العالمي الرابع للمرأة" في بجين بالصين إنما هي أمثلة لنشر هذه الطروحات التي تسعى إلى سيطرة فكر الحضارة الغربية وثقافتها.

        أضف إلى ذلك رعاية النظام الدولي الجديد للمنحرفين والشاذين من العالم الإسلامي بخاصة من أمثال سلمان رشدي، وتسليمة نسرين، ونصر حامد أبو زيد، ومحمد سعيد عشماوي وغيرهم من أصحاب الفكر المنحرف.

        ويمتطي الاستشراق أو الطروحات الاستشراقية متن وسائل الإعلام فالذين يتسنمون منابر العلم والتوجيه في هذه الوسائل يروجون لما يحارب الإسلام في نظامه الاجتماعي ومؤسساته الاجتماعية كالزواج والنظرة إلى المرأة والأسرة، والعلاقات الاجتماعية.

س: هناك من يحاول التقليل من خطر المستشرقين على الإسلام والمسلمين وينفي وجود علاقة بين حركة الاستشراق والكنيسة وحركة التنصير ، وماذا عن علاقة الاستشراق باليهود؟

        إن الذي يقلل من شأن خطر القوى الخارجية إما أن يكون غافلاً عن حقيقتها أو إنه يعرف تكـون القوى ويتواطىء معها ضد الإسلام والمسلمين. ليس هنا أبلغ من قول الله تعالى{ودوا لـو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء} وقوله تعالى :{ولا يزالون يقاتلوكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا} وقوله تعالى {ودت طائفة من أهل الكتاب لو يضلونكم وما يضلون إلاّ أنفسهم وما يشعرون}. من الذي يقدم الاستشارات والتخطيط للحكومات الغربية في التعامل مع العـالم الإسلامي؟  من الذي يرشد الغرب إلى ثروات الأمة الإسلامية البشرية والمعدنية والبترولية غير الباحثين الغربيين المتخصصين في الدراسات العربية والإسلامية؟  من الذي  يرشد الحكومات الغربية كيف تتعامل مع الصحوة الإسلامية حتى إن وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية بدأت ندوة مفتوحة ومستمرة لدراسة هذه الظاهرة التي يزعمون أنها تقلقهم .

أما الارتباط بين الاستشراق والتنصير فإن الاستشراق قد نشأ في أحضان الكنيسة فهي التي دعت إلى قيام هذه الدراسات وهيأت لها الإمكانات وما يزال الارتباط موجوداً بين الاستشراق والتنصير في الوقت الحاضر، ولكن الاستشراق لم يعد كله لخدمة التنصير حينما بدأت أوروبا حملات الاحتـلال اتجـه بعض المستشرقين ليكونوا في خدمة هذا السيد الجديد فقدم للاستشراق الدعم وقدم الاستشراق له المعلومات والمعرفة.

     وارتبط اليهود بالاستشراق فهم يحقدون على الإسلام والمسلمين كما وصفهم ربنا سبحانه وتعـالى {ولتجدن أشدّ الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا} وقد وجدوا في حركة الاستشـراق خدمة لأهدافهم فركبوا الموجة متخفين أحياناً وسافرين عن وجوههم أحياناً أخرى.وقد ظهر منهم أكثر المستشرقين تعصباً وحقداً على الإسلام والمسلمين. ومن هؤلاء جولدزيهر ومرجليوت وبرنارد لويس وغيرهم الذين تسنموا مكانة رفيعة في عالم الاستشراق فأصبحت طروحاتهم هي المرجع في كثير من القضايا. ودخل بعضهم الاستشراق دون أن يعرف بأنه يهودي ليكون تأثيره أكبر.



سؤال لم يرد وودت لو سُئلت  عنه!!!

        وفي الختام أود أن أضيف أنك لم تسأل عن المشروع الذي طرح منذ عدة سنوات وهو في حقيقته ليس مشروعاً جديداً فإن الإسلام يطلب من المسلم أن يعرف بيئة الدعوة وهذا المشروع الذي أطلق عليه حسن حنفي (الاستغراب) وأطلقت عليه (كلية الدراسات الأوروبية والأمريـكية)  فإن هذا الموضوع جدير بأن تعقد له الندوات والمؤتمرات ويتوصل فيه إلى توصيات توضـع موضع التنفيذ في أسرع وقت فكيف نستطيع أن نكون مؤثرين في الغرب ونحـن لا نعرفه معرفة جيدة. وإنني أجد الأمثلة في القرآن الكريم في دراسة أوضاع الآخرين ومن ذلك حديثه الواسع عن الانحرافات العقدية التي أصابت مشركي مكة أو مشركي العرب عموما، وكذلك تناوله لعقائد اليهود والنصارى والانحرافات التي وقعت في معتقداتهم. ومن النواحي الاجتماعية أجد مثالاً أكرره دائما وهو وصف الله سبحانه وتعالى للرجل الجاهلي حينما يعرف أنه رزق بمـولود أنثى {وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسوداً وهو كظيم يتـوارى من القوم من سوء ما بشر به أيمسكه على هون أم يدسه في التراب ألا ساء ما يحكمون } . فهل نأخذ العبرة والدرس من القرآن الكريم فننطلق لندرس الغربيين كما يدرسوننا لنعرف كيف نوصل إليهم الإسلام. ألسنا أمة الشهادة فكيف نستطيع أن نشهد ونحن لا نعرف إلاّ ظاهراً من الحياة الغربيـة. إن لنا من أبنائنا المسلمين الذين درسوا في الغرب من يستطيع أن يقوم بهذه الدراسات، كما إن بعض أبناء تلك البلاد قد دخلوا في الإسلام وهم أعرف بقومهم والأمر الثالث من المعروف أن المجتمعات الغربية مجتمعات مفتوحة فليست لديهم معلومات سرية عن أحوالهم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية فليس من الصعب على من يعيش بينهم أن يصل إلى تلك المعلومات وإن كانت صعبة على الذي يعيش بعيداً ، لا بد أن نستدرك أن شبكات المعلومات أصبحت تقدم كمّاً هائلاً من المعلومات. فمتى نبدأ والله الموفق والحمد لله رب العالمين.


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

تلخيص كتاب منهج البحث التاريخي للدكتور د. حسن عثمان

الكلمات النورانية: وتحمل الكل

الإسلام وتعلم اللغات الأجنبية