المسلمون أمة التفوق ....وليس التخلف




    شهدت قاعة المحاضرات (أو مسرح كلية العلوم )بجامعة الملك عبد العزيز بجدة (والمبنى هدية من الشيخ عبد الله السلمان رحمه الله) نشاطات إسلامية مباركة، فمنه انطلقت محاضرات الشيخ محمد متولي الشعراوي (رحمه الله) في تفسير القرآن الكريم قبل أن يتوجه إلى مصر ليصبح وزيراً للأوقاف. ثم جاء الشيخ محمد قطب (رحمه الله) ليقدم سلسلة محاضراته حول التربية الإسلامية.

       ولم تكن محاضرات الشيخين الفاضلين هي كل ما شهدت القاعة من نشاط، فقد كان يحل فيها محاضرون مختلفون في أيام مختلفة، ومن هذه المحاضرات كانت محاضرة الشيخ سعيد حوّى رحمه الله. فقد شهدت هذه المحاضرة بصفة خاصة ازدحاماً غير عادي حيث امتلأت مقاعد القاعة وشغلت الممرات بالواقفين وما كان من المنظمين إلاّ أن أحضروا البسط (الحنابل) وفرشوها خارج القاعة وأحضروا أجهزة التلفاز ليتابع الحضور تلك المحاضرة القيمة.

   وكان مما قاله الحاضر الفاضل: ينبغي على المسلم أن يكون متفوقاً، وضرب الأمثلة بتفوق الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين في شتى الأعمال التي مارسوها. وضرب المثل بشخصية معاصرة ؛كان عالماً جيولوجياً في بلد عربي مسلم، وكان على درجة كبيرة من التدين، وكانت تلك البلاد لا ترغب كثيراً في المتدينين، ولكن تفوقه في مجال عمله جعلهم يتمسكوا به لعلمه وتفوقه.(من الطريف أن هذا العالم كان يصر على الزي العربي وهم يصرون على الزي الأوروبي ونظراً لاحتياجهم علمه لم يستطيعوا منعه)

   ويروى عن الشيخ أبي الأعلى المودودي رحمه الله أنه قال لتلاميذه: "على كل واحد منكم آن يكون مرجعاً في مجاله، ليقرأ كل ما كتب في تخصصه، وليجد في البحث والدراسة."

    ما النبع الذي استقى منه هذين العَلَمَيْن كلامهما؟ إنها مشكاة الإسلام العظيم الذي نزل به الوحي في جزيرة العرب على قوم كانت مؤهلاتهم محدودة، وكانت مواهبهم عادية، ولكن التربية النبوية عرفت كيف تفجر تلك المواهب و تضع هذه الإمكانات للعمل في سبيل رسالة سامية هي رسالة الإسلام. فهؤلاء العرب لو تحدث عنهم التاريخ لما أعطاهم بضع صفحات ولكنهم بالإسلام أصبحوا يستحقون مجلدات ومجلدات للحديث عن أعمالهم وإنجازاتهم .

   نعم الإسلام دين التفوق والامتياز، ولذلك لم تمض سنوات حتى استطاعت الجيوش الإسلامية أن تقوض دعائم أكبر إمبراطوريتين في العالم حينذاك: الفارسية والرومانية. وبالإضافة إلى الانجازات العسكرية فقد قامت الجيوش الإسلامية بنشر العلم والمعرفة والعدل والحق. ووضعوا أسس حضارة لم تشهد الأرض في تاريخها الطويل مثيلاً لها. وهاهي آثار الحضارة الإسلامية في اسبانيا تجلب ما يزيد على خمسين مليوناً من السواح كل عام.

   ولكن لماذا تفوق المسلمون؟ هل لأنهم برعوا في الفيزياء والكيمياء والرياضيات والطب والفلك؟ وهل لأنهم أبدعوا في الزراعة وفي الصناعة وفي التجارة؟ نعم ولكن قبل البراعة في هذه العلوم فإنهم عرفوا الإسلام معرفة حقيقية. ولأضرب المثل ببعض نوابغ هذه الأمة -وهم كثر- فقد بدؤوا من معرفة القرآن الكريم واللغة العربية والحديث والفقه، وأضافوا إلى تلك المعرفة التخصص في العلوم المختلفة. ويقول في هذا الشيخ أنور الجندي في كتابه نوابغ الفكر الإسلامي:" كل نماذج النوابغ والأعلام في مجال الفكر الإسلامي تعطي هذه الدلالة وهذا الاتجاه، إيمان صادق بالله، ويقين بأن العلم والعمل كله موجه إليه خالصاً لا يلتمس به مطمع ولا جزاء ولا شهرة. ليس علماً دينياً خالصاً، ولكنه علم في مختلف مجالاته لأنه مستمد من القرآن، متصل به، فالقرآن هو الذي أعطى علماء المسلمين ذلك الضوء الكاشف الذي هداهم إلى النظر في الطبيعة والبحث في الأرض{قل انظروا ماذا في السموات والأرض}.

   ويؤكد هذا ما قاله أبو القاسم صاعد الأندلسي في كتابه طبقات الأمم: "إن العرب والمسلمين اهتموا بالطب بجانب اهتمامهم البالغ بلغتهم ومعرفة أحكام شريعتهم." فهذا  أبو الريحان محمد ابن أحمد البيروني (المولود سنة 364هـ) قد تعلم اللغة العربية والفقه قبل أن ينبغ في الجغرافيا والفلك والرياضيات.

   ومن العلماء المسلمين الذين برزوا في علوم عديدة ابن جرير الطبري الذي برز في الفقه والحديث واللغة والتاريخ، ومنهم عبد الرحمن ابن خلدون الذي كان عالماً فقيهاً ومؤرخاً وواضع أسس علم الاجتماع المعاصر.

   ولكن عندما ابتليت الأمة بالاحتلال الأجنبي (الاستعمار) وكان من آثار هذا الاحتلال السيطرة على مجال التعليم فقُسّم التعليم إلى نوعين:ديني ومدني أو لا ديني، فأصبحنا نجد أطباء ومهندسين وصيادلة ومؤرخين وغيرهم لا يعرفون الإسلام سوى معرفة سطحية. وقد أورد الأستاذ محمود الشنقيطي في رسالة بعثها إلى مجلة الهلال المصرية (عدد يونيو 1995م) نماذج من جناية بعض المثقفين المعاصرين ومنهم بعض الأسماء اللامعة جداً في مجال الفكر والثقافة على الإسلام بسبب عدم التمييز بين الثوابت والمتغيرات في ثقافتنا.

    ولكن هذه الصورة السلبية بدأت بحمد الله تأخذ في الانحسار وبدأت الأمة تشهد عودة إلى الإسلام -وإن كانت خارجة عن المناهج الرسمية في غالب البلاد الإسلامية- ومن ذلك ما كتبه ناصر الدين الشاعر -الأستاذ بجامعة النجاح بفلسطين- (الحياة، العدد 11691في 23رمضان 1415هـ) أنه زار لندن في رمضان فكان إمام المسجد الراتب مهندساً ميكانيكياً، والإمام الذي يصلي بالمسلمين التراويح طبيباً، ومعهما ثالث متخصص في الدراسات الإسلامية،وكان الثلاثة يحفظون القرآن الكريم عن ظهر قلب، وكان الطبيب والمهندس على دراية تامة بأمور الدين وتفريعاته ويضيف الشاعر بأن هذه المعرفة: "لا تحصل لكثير من الدارسين المتخصصين في الكليات الشرعية."

   ويرى الشاعر أن هذا التغيير مسألة حتمية وأن بروز هذه الظاهرة ليس أمراً عارضاً وليس بإمكان أي قرار سياسي أن يوقفه أو يجمده، إنما هي ظاهرة تتقدم بدفع ذاتي. وأشار إلى نقطة مهمة وهي أن القبول في الجامعات الإسلامية حتى وقت قريب في الكليات الشرعية كان ينحصر في أولئك الذين لم يحصلوا على معدلات عالية في الثانوية العامة فابتليت الأمة  في كثير من المتخصصين في هذه المجالات بأفراد لا يملكون القدرات العقلية والفكرية فكأنما أصبح التعليم الشرعي للخاملين أو ناقصي الذكاء. ويطالب الأستاذ ناصر الدين أن يعاد النظر في مسألة القبول في الكليات الشرعية، ولا يختار لها إلا أصحاب القدرات العقلية المتميزة .
    نعم الإسلام دين التفوق فالعالم المسلم في معمله أو مختبره أو مكتبته لا يعمل بجهده البشري مهما عظم؛ إنه يعمل بنور الله سبحانه وتعالى. لاشك أنه يأخذ بالأسباب، ولكنه يضيف إليها أو قبلها التوكل على الله والاستعانة بالله واللجوء إلى الله. وكم معضلة علمية جاء حلها بعد صلاة ركعتين أو دعاء مخلص إلى الله عز وجل. فهل نستعيد تفوقنا؟

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

تلخيص كتاب منهج البحث التاريخي للدكتور د. حسن عثمان

الكلمات النورانية: وتحمل الكل

الإسلام وتعلم اللغات الأجنبية