مقابلة صحفية في جريدة الندوة (المكيّة) قديماً




س: صنف الاستشراق الانجليزي والفرنسي والايطالي تحت طائلة الاستعمار .. فأين يقع الاستشراق الروسي والألماني؟

الجواب:

 من الانتقادات التي وجهت لادوارد سعيد تركيزه على تقديم نماذج من الاستشراقين الانجليزي والفرنسي واغفال الاستشراق الألماني والروسي وغيرهما زاعمين أن هاتين المدرستين تختلفان عن غيرهما، فأين الحقيقة في مثل هذا النقد؟  إن روسيا كانت ذات طبيعة استعمارية امبريالية سواء في عهدها القيصري أو في عهدها الشيوعي. فالشيوعية كانت تعتقد أن نظامها هو النظام الأمثل الذي يجب أن يسود العالم، ولذلك سعت بكل ماأوتيت من قوة ومكر أن تنشر هذا النظام . بل انها ارتكبت مئات المجازر من أجل فرض سيطرتها على البلاد الاسلامية في أواسط آسيا .وعمل مستشرقوها في الوقت نفسه على دراسة الشعوب الاسلامية عقيدة وتاريخا وحضارة من أجل تبرير هذه السيطرة . والمدرسة الشيوعية المادية معروفة تماما في مجال الاستشراق بل ان تأثيرها لم يقتصر على تلاميذ الشيوعية من أبناء العالم العربي الاسلامي بل تأثر عدد من المستشرقين الأوروبيين والأمريكان بالمدرسة الشيوعية ، ومن هؤلاء على سبيل المثال لا الحصر ماكسيم رودنسون و برنارد لويس (بالرغم من زعمه محاربة الشيوعية) .

    أما الاستشراق الألماني فهو نبت بيئته الأوروبية ذات الطبيعة الاستعمارية ، وان لم يتحقق لألمانيا أن يكون لها مستعمرات في بلادنا فقد كانت لها أطماع في أفريقيا وكانت تنافس على السلطة في البلاد العربية. والاستشراق الألماني تعود جذوره الى المذهب البروتستانتي الذي كان مؤسسه مارتن لوثر يعرف الاسلام وهذه المعرفة هي التي دعته ليعترض على استبداد الكنيسة الكاثوليكية . ومع ذلك فلوثر كان حاقدا على الاسلام وبخاصة الدولة العثمانية لأنها كانت الدولة العظمى في أوروبا والعالم . والمستشرقون الألمان كانت لهم جهود واضحة في الدراسات الاسلامية حتى تتلمذ على أيديهم كثير من المستشرقين الأوروبيين ونقلوا تشويههم المتعمد للتاريخ الاسلامي وحضارته ، ومن هؤلاء كارل بروكلمان وفلهاوزن وونولدكه وبيكر وغيرهم .





       س: هناك من الدارسين من نفوا موضوعية عن الاستشراق وانصافه وجعلوا كل ذلك مجرد مؤامرة أو سم في عسل كما يرددون ... ما تعليقكم  بصفتكم أحد الدارسين للاستشراق؟

الجواب: ليس من العدل أو المنطق أن نقع في الخطأ الذي نأخذه على بعض المستشرقين فنصدر التعميمات الجزافية ضد المستشرقين . ان المسلم مطالب أن يتأدب بالأدب القرآني في قوله تعالى (ولا يجرمنّكم شنآن قوم على ألاّ تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى) وقد وصف القرآن بعض أهل الكتاب في التعامل المادي بالصدق والأمانه في قوله تعالى( ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده اليك ومنهم من إن تأمنه بدينار لايؤده اليك  إلاّ ما دمت عليه قائما)

    والموضوعية أمر نسبي فكيف نتوقع الانصاف والموضوعية من المستشرقين عموما ونحن نعلم أنهم يواجهون عقيدة وتلغة وتراثا هم غرباء عنه تماما ، فلا بد ان يقع بعضهم في الأخطاء بسبب عدم الفهم والادراك. ومع ذلك فمنهم من يحمل في صدره حقد القرون الطويلة التي تكونت في عصور أوروبا الوسطى المظلمة يوم أن أدركت أوروبا النصرانية هزيمتها أمام الاسلام عسكريا وسياسيا وعقديا وحضاريا.

    ومع ذلك فهناك حد أدنى من الموضوعية يتطلبها البحث العلمي فاذا كنت تدرس تارخ وحضارة أمة من الأمم فعليك أن تحترم مسلمات تلك الأمة ومقدساتها ، وأن تعتمد على المصادر التي يعدونها مصادر معتمدة لديهم الا اذا كان لديك الدليل على موثوقية مصادرك. فالمستشرقون الذين يتناولون الوضع في الحديث النبوي الشريف لا يكلفون أنفسهم عناء معرفة الجهود الحقيقية التي بذلها العلماء المسلمون في وضع علم مصطلح الحديث وأن هذا العلم لايوجد له مثيل لدى أي أمة أخرى . وكذلك على المستشرققين الذين يدرسون تارخ الاسلام والمسلمين أن لايجعلوا مصادرهم كتبا مثل (ألف ليلة وليلة) و(الأغاني) و( العقد الفريد) أو الكتب التي ثبت تحيزها لفرقة من الفرق .

     وتحدث الشيخ العلامة أبو الحسن الندوي-رحمه الله- في محاضرة نشرت ضمن كتاب (الاسلام والمستشرقون) من منشورات عالم المعرفة بجدة عن موضوعية بعض المستشرقين فيصف كيف أن أحدهم يقدم لك عشر حسنات عن الاسلام حتى تظن أن هذا المستشرق غاية في الانصاف والاعتدال ، ولكنه بعد قليل يطعن في الاسلام عقيدة وشريعة بحيث يضيّع كل أثر طيب قد تكون تركته تلك المحاسن.

     ورغم كل هذه العيوب والسلبيات فلا بد أن نعترف بأن بعض المستشرقين يصل الى فهم جميل جدا للاسلام ، وهذا ما حدا بالدكتور عماد الدين خليل الى إ صدار كتابه (قالوا عن الاسلام) الذي نشرته الندوة العالمية للشباب الا سلامي، وجمع فيه الآراء الايجابية التي وردت في ثنايا كتابات المستشرقين منبها الى أن هذه الأقوال ينبغي أن لاتكون حكما عاما على كل كتابات هؤلاء المستشرقين. وما دام الحديث عن الموضوعية والانصاف فيجب التنبيه الى أن بعض تلاميذ المستشرقين الأوفياء لمنهجهم في الطعن والتشويه قد تفوقوا أحيانا على أساتذتهم ومن هؤلاء على سبيل المثال عبد المنعم ماجد، ومجمود اسماعيل، ومحمد عبد الحي شعبان وفاروق عمر وغيرهم.




تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

تلخيص كتاب منهج البحث التاريخي للدكتور د. حسن عثمان

الكلمات النورانية: وتحمل الكل

الإسلام وتعلم اللغات الأجنبية