جولة صباحية وجولات في شوارع القاهرة

 

 

 

       خرجت صباح اليوم الثاني من زيارتي لمصر على الساعة السادسة والنصف تقريباً أبحث عن ساندويتش فلافل فعثرت على صاحب عربة فيها فلافل فطلبت اثنين من الساندويتشات ولم ألتفت إلى أن الطعمية غير طازجة (بايتة) ولم يضف عليها شيئاً سوى الطحينة فجاءت جافة ومليئة بزيت القلي الذي ربما كان له شهر يستخدم. ولولا أن منّ الله عز وجل عليّ بمعدة تعمل بقوة وامتياز لأصابني ما يصيب كثير من زوار مصر من آلام معوية ونزلات. وربما كانت قوة معدتي أنني من المفضفضين، والفضفضة فن أو موهبة أو قدرة لا يملكها كل أحد. وربما كان من أسباب قوة المعدة أنني أنام خالي البال.. تمر الأمور من أمامي فلا تقلقني كثيراً مؤمناً أن الله عز وجل لا يقدر علينا إلاّ الخير فما يصيبنا فمما كسبت أيدينا، ويعفو عن كثير. وأزعم أنني والحمد لله لا أحمل حقداً ولا ضغينة لأحد على الرغم من أن لي ذاكرة تزعجني كثيراً بذكريات أنواع من الظلم عرفتها أو تعرضت لها وإن كنت قاومت فقد غُلِبت أكثر مما انتصرت إلاّ نصراً واحداً أنه لاشي استطاع إيقاف مسيرتي العلمية والحمد لله، فكنت دائماً كما يقول المثل: "القافلة تسير....."

      خرجت أسير في الشوارع المحيطة بالفندق وهي منطقة الدقي والمصريون يقولون الدئي بالهمز لأنهم لا يحبون القاف فهو لم يقل وإنما آل ويؤول. وفي المنطقة المحيطة بالدقي يوجد جسران أحدهما من الحديد الصلب الذي أصبح صدئاً، ولا أدري هل هو مثل جسور الرياض وجدة الحديدية التي وضعت مؤقتاً حتى يتوفر المال أو توفيراً للوقت بديلاً عن بنائها بالإسمنت المسلح وربما نسيت الأمانة أو إدارة الطرق هذه الجسور فاستمرت عشرات السنين دون أن تتغير إلى جسور ثابتة. أما الجسر الخرساني فهو في جهة أخرى وهو الآخر أصبح عتيقاً.

      وفي أثناء تلك الجولة مررت بمحلات العصير الطازج والعصير المصري طازج حقاً ولكن قف واطلب ولا تنتظر دوراً أو نظاماً فكما في مسرحيات غوار (كل من إيدي إلو) فو أردت النظام فقد يمر النهار كله ولم تشرب شيئاً. وإذا أردت أن تشرب لا تنظر إلى العمال يعملون ولا إلى ملابسهم ولا إلى سحنهم ولا إلى طريقة تنظيف الكاسات أو صناعة العصير. والفواكه والخضر طازجة نعم وأكثر وأكثر الأشياء طزاجة في مصر الخضار والفواكه ولو كان ثمة عدل في التوزيع لشبع المصريون خضاراً وفاكهة، ولكن متطلبات الحياة أكثر من ذلك.

     وشربت عصير قصب السكر، والعصير هنا يختلف عن طعمه عندما ينقل إلى بلد آخر وبعض المحلات عندنا تفسد طعمه بكمية الثلج التي يخلطونها معه، ولكنها حرارة الجو تتطلب الثلج ولكن ليس بالكمية التي يستعملونها.

     وفي أثناء الجولة دلفت إلى بعض المتاجر فسمعت القرآن يتلى طوال الوقت كما سمعت برامج دينية حول العبادات والمعاملات وأحاديث سيد الخلق صلى الله عليه وسلم فتكون قد ذكرت الله في أثناء تسوقك وصلّيت على الرسول صلى الله عليه وسلم عشرات المرات. وسألت أحد الباعة ألا يجد صاحب المحل مضايقة من السلطات –وكانت هذه الزيارة قبل سنتين تقريباً في عهد الرئيس المخلوع- لإصراره على أن يعطر متجره بذكر الله وبتوظيف عدد لا بأس به من أصحاب اللحى. خاف الموظف المسكين مني، وبعد قليل أدرك أن لهجتي لا تدل على أني مصري أو إني لا يمكن أن أكون من أعوان النظام (جواسيسه واستخباراته، والأنظمة بارعة في استخدام الجواسيس من جنسيات مختلفة ليقع المواطن المسكين مشتكياً لمن ظن أنه أجنبي فإذ به مباحث أمن)، فقال الموظف: نعم واجه صعوبات في البداية ولكنه أصر على استمرار نهجه.

      أعود إلى العصير فقلت إن الخضار والفاكهة طازجة بالإضافة إلى رخص ثمن العصير عندهم بحيث لا يزيد على جنيه أو جنيه ونصف. والغريب أني وجدتهم يعصرون الجرجير وقد يضيفون إليه الحليب. ولم أغامر بتجربته على الرغم من أنني أحياناً أغامر. والجرجير له فوائد جمّه وأحفظ المثل الذي يقول (لو علمت المرأة ما في الجرجير لزرعته تحت السرير)

      ومن الأكلات التي جربتها في مصر ساندويتش الفول والفول عندهم فول حقيقي وليس عصير فول أو حساء فول كما هو عند كثير من المحلات في بلادنا، وقد كان أحد المطاعم الأردنية في الرياض يبيع فولاً حقيقياً ولكنه مال إلى الغش والعقلية التجارية فصار يضيف الماء والماء حتى أصبح الفول شبيه الفول، والماء بالطبع أرخص من الفول. ورأيت بعض المحلات يكون إبريق الماء المغلي قريباً فيضيفون الماء بين الحين والآخر. أما قيمة ساندويتش الفول في مصر فلا تزيد على جنيه واحد أي أقل من ريال (ويستطيع الفقير أن يأكل فولاً صباحاً ومساءً ويشم راحة اللحم في أثناء النهار حين يمر بالمطاعم.

     أعجبني في جولتي الصباحية رؤية كثير من النساء المحجبات وقلة المعاكسات وربما لأن المنطقة شعبية فلا يكثر فيها أبناء الذوات فلا حاجة للمعاكسة لأن النساء في الغالب متحجبات ومحتشمات، والأمر الآخر وجود درجة عالية من النخوة والشهامة فالمرأة في الشارع هي ابنة فلان وأخت فلان وقريبة الآخر، فلن يجرؤ أحد على معاكستها وحتى لو كانت أجنبية فمستوى الأخلاق لا يسمح بذلك. ولكن أزعجني أن بعض الحجاب أسميته نصف حجاب أو لا حجاب.

     وفي أثناء جولتي في الدقّي رأيت أشجاراً باسقة أعتقد أن أعمارها تتجاوز المائة عام وكلها قائم لم يتعرض للقطع كما أن في المنطقة العديد من المدارس والمستشفيات. وفي الدقي مجلس الدولة ولا أعرف ما اختصاصات هذا المجلس ولكني وجدت أمامه عدداً من السيارات التي تنقل المساجين، وعدد كبير من الجنود الرابضين أو الذين جاؤوا لتسلم متهمين أو محكوم عليهم. والمتهم في عالمنا العربي (قبل الثورات) مذنب حتى تثبت براءته. وقد قرأت في أحد المنتديات وأنا أعد هذه الصفحات (بعد سنتين من كتابتها) عن مساجين في بلد عربي يؤتى بهم إلى المحاكم في سيارات قبيحة الشكل والمنظر والتجهيز حتى إني لأشك في وجود تكييف فيها فهم في الغالب ينقلون كالأغنام، ويؤتى بهم قبل مواعيد المحاكمات أو المثول أمام القاضي بساعات وساعات وأحياناً يتركون في العراء وعلى قول المثل الشعبي اللي ما شاف يتفرج، وكأنهم يريدون إخافة بقية الناس بتلك المناظر اللا إنسانية حتى إن التكبيل في اليدين والرجلين لأمر لا يستساغ ولا أعرف هل له أصل في الإسلام أو هل الأعراف الدولية تقبله.

      والدقي منطقة تكثر فيها بسطات الصحف والكتب، والكتب أنواع ففي إحدى البسطات تجد مجموعة من الكتب الدينية إلى جوارها كتب جنس ومنها إعادة نشر مجموعة من الكتب التراثية الجنسية الصارخة. وثمة نوع ثالث وهو الكتب في السياسة والاقتصاد ومن الكتب السياسة كتب إثارة وبخاصة عن المملكة العربية السعودية وأحدها عن الأمير فلان أو الأمير فلان.

    وهناك الصحف والمجلات وبخاصة أنه يصدر في مصر عدد كبير من الصحف الرصينة منها قليل جداً والأغلب هي الصحف الصفراء

    مما أزعجني في شوارع القاهرة قلة النظافة أو غيابها وانعدامها، وقد كنت أمر من أمام وزارة الإعلام (الماسبيرو) فكانت القذارة في القمة، والعجيب في تلك الأيام (قبل الثورة) كانت الوساخة مادية ومعنوية. والسؤال هل البلديات مقصرة في مجال النظافة مع أن عمال النظافة كثيرون. وأتعجب كيف يستطيع المصريون أن يعيشوا في هذه الأجواء لولا عناية الرحمن وإن كان لديهم بعض الأمراض المستوطنة التي استدعت المنظمات الدولية لتفتح لها فروعاً ولكن ما الفائدة؟ لقد اتسخت الأرصفة والشوارع وعلاها طبقات من النفايات لا يمكن أن يزيلها إلا بإزالة تلك المباني والأرصفة.

    ولاحظت في تلك الجولة كثرة اللوحات الإعلانية في واجهات المباني حتى لا تكاد تترك فراغاً في الواجهات. وقد علا تلك المباني غبار وغبار حتى ضاع اللون الأصلي وصار لون الغبار الممزوج بعوادم السيارات هو اللون الأصلي. والعجيب أن هذه المباني فيها عدد كبير من العيادات فكيف يتحمل الطبيب أن يعمل فيها أو يدخلها صباحاً مساءً.

     وقديماً قرأت ما كتبه الشيخ محمد الغزالي رحمه الله عن البطالة المقنعة وأعتقد أن في مصر كما في غيرها من البلاد العربية نماذج من هذه البطالة ومن ذلك مثلاً ما أسميتهم "ملوك الأرصفة" وهو كما قلت أمر لا تنفرد به مصر فهؤلاء يقومون بتنظيم الوقوف إلى جوار الأرصفة أو في بعض الأماكن التي يمتلكها بعض الناس فتتحول إلى مواقف للسيارات ولا بد من وجود شخص ينظم الوقوف ويتقاضى الرسم. وقد رأيت عجباً من حاجة السائقين إلى من يرشدهم إلى الوقوف الصحيح فكيف نالوا رخص القيادة. كما سمعت مصطلحات غريبة في الإرشاد سر إلى الإمام عدّل دوّر العجلة يمين أو شمال.

    وأزعجني في القاهرة الشحاذون أو المتسولون وإن لم يكونوا كثر، وقد مر بي أحدهم وهو يريد أن يعبر الشارع فمرّت سيارة فاستخدم المنبه فقال له لمَ لا تصدمني أو تدهسني فتخلصني من هذه الحياة البائسة، وسمعته وكأنه أراد أن يسمعني فقلت له ولِمَ اليأس توجّه إلى رب العالمين لعله يفرج عليك، ولا أدري هل سمعني أو لا.

  

 

      

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

تلخيص كتاب منهج البحث التاريخي للدكتور د. حسن عثمان

الكلمات النورانية: وتحمل الكل

الإسلام وتعلم اللغات الأجنبية