دروس من السيرة العطرة : الإدارة في الإسلام

 

        تحرص الشركات الكبرى والمؤسسات على تنمية مهارات موظفيها الإدارية وتعقد لهم الدورات المختلفة في شؤون الإدارة المختلفة وتتنوع هذه الدورات في موضوعاتها ومددها الزمنية بحسب الموظفين الملتحقين بها، فتقدم المؤسسات أحياناً حلقات دراسية مدتها يومان أو ثلاثة لموظفي الإدارة العليا. وما وزلت أذكر عناوين بعض هذه الدورات التي كانت تقدمها الخطوط السعودية أو تتعاون مع مؤسسات أجنبية في تقديمها ومنها:

 1 – التدريب الإشرافي.

 2 – أساليب الإدارة الحديثة.

 3 – الاجتماعات الفعّالة.

 4 – فن التفاوض.

 5 – الشبكة الإدارية 1 و2 (بالتعاون مع شركة أمريكية).

 6 – كتابة التقارير الإدارية.

 7 – القراءة السريعة.. وغيرها.

       لا شك أن هذا الحرص على ترقية المهارات الإدارية وتطويرها أمر محمود، لكن علينا أن ندرك أن الإدارة ليست سلعة من السلع يمكن استيرادها من الأمم الأخرى التي سبقتنا في مجال التحضر والمدنية؛ ذلك أن الإدارة مرتبطة ارتباطاً شديداً بعقيدة الأمة وثقافتها وفكرها. وقد ساد المسلمون أجزاء كبيرة من أنحاء العالم وكانت لهم نظمهم الإدارية الناجحة جداً والراقية جداً التي كانت تنطلق من الكتاب والسنّة وسيرة الرسول صلّى الله عليه وسلّم وسيرة الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم.

       والسؤال الذي يطرح نفسه، كيف نعود إلى الإدارة الإسلامية؟ هل يكفي أن يدرسها طلاب كلية الإدارة والاقتصاد في مقرر واحد … وكم من المدراء من درس في هذه الكلية، وهل يكفي مقرر واحد لتربية أجيال من المدراء على مبادئ الإدارة الإسلامية؟ أعرف تماماً أن هذا سؤال كبير ويحتاج إلى بحوث ودراسات لكن يكفي هنا أن نقرر المبدأ وأن يقوم الاختصاصيون بمواصلة هذا الأمر.

        أين تكمن نقطة البدء؟ إنها في الأستاذ، وللشيخ عبد الحميد بن باديس العالم الجزائري المشهور كلمة في هذا الأمر حيث يقول: (إذا أردنا أن نصلح التعليم فعلينا أن نصلح المعلّم أولاً … فبدون صلاح المعلم لا يمكن للتعليم أن يصلح) وكيف لنظام الإدارة أن يصلح وكثير من أساتذة الإدارة والاقتصاد درسوا في الجامعات الغربية (الأوروبية والأمريكية) وقد تشبعوا (في الغالب) بالأفكار الغربية في الإدارة، ومن ذلك أن أحد المقررات في الإدارة-في إحدى جامعاتنا-مثلاً تحدث عن صناعة آلة غسيل الصحون فأوضح كيف كانت هذه الآلة تستهلك كمية كبيرة من الماء وذات شكل غير جذّاب (اسطواني) فما كان من الشركات إلاّ أن عملت على بذل جهود كبيرة لإقناع المستهلك ليُقبل على شراء هذه الآلة … هنا كان على مؤلف الكتاب أو مترجمة أن يتوقف قليلاً ليقول كلمة عن موقف الإسلام من صناعة الآلات الاستهلاكية وعن الجهود المحمومة لخداع المستهلك بشراء أي جهاز ما دام يحقق ربحاً للشركات الصانعة …وما ينطبق على جهاز غسل الصحون ينطبق على كثير من الأجهزة التي لا تتوقف المصانع الغربية عن إغراق الأسواق بها لاستنزاف الجيوب. ولعل من الأمثلة على ذلك (موديلات) السيارات.

      ومثال آخر من كتب الإدارة (المؤلفة أو المترجمة) الحديث عن الرقابة على العمال في مصنع من المصانع وتسمّى هذه الرقابة (كلب الحراسة) (Watch Dog) وكيف يمكن أن تكون ناجحة حيث يتخفى أحد العمال ليراقب زملاءه في أثناء العمل ثم يقدم تقريراً في نهاية النهار عن إنتاج زملائه. وكان على الكاتب هنا أن يؤكد أن العامل المسلم يراقب الله عزّ وجلّ أولاً في سره وفي علانيته، كما أن المسلم يحرص على الرزق الحلال فهو إن لم يخلص في عمله فقد أصبح رزقه مشوباً بحرام وهو يعلم حديث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ((أيما جسد نبت من حرام فالنار أولى به))، وقوله صلّى الله عليه وسلّم لسعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: ((أطب مطعمك تستجب دعوتك))، وثالثاً لا يمكن للعامل المسلم أن يهمل في عمله وهو يعلم حديث المصطفى صلّى الله عليه وسلّم: ((إن الله يحب من أحدكم إذا عمل عملاً أن يتقنه)).

       هذه لمحات من عيوب استيراد الأفكار من الغرب أو الشرق في مجال الإدارة والحديث في ذلك يطول، ولكن نختم ببعض الأحاديث الشريفة ومكانها في الفكر الإداري أو في علم الإدارة أو في فن الإدارة. ونرجو أن نعود إلى الموضوع وندعو المتخصصين للكتابة فيه.

1 – في مقاومة الانحراف والعدل في تطبيق الأحكام: ((إنما أهلك من كان قبلكم أنه إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها)).

 2 – الرجل المناسب في المكان المناسب: ((من استعمل رجلاً لمودة أو قرابة لا يحمله على استعماله إلاّ ذاك فقد خان الله ورسوله والمؤمنين)).

 3 – في تقبل النقد وطلبه، قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه: (إن أحسنت فأعينوني وإن أسأت فقوموني).

 4 – في الحث على علو الهمة ومعالي الأمور: ((إن الله يحب معالي الأمور وأشرافها ويكره سفاسفها)).

         وما دمنا في هذا الشهر الكريم ومع دروس من السيرة العطرة فلنتوقف قليلاً عند بعض المبادئ في الإدارة في الإسلام وتطبيقاتها العملية:

 أولاً: يتردد في كتب الإدارة الحديثة مقولة "الرجل المناسب في المكان المناسب". وقد حرص رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على تولية الأعمال للرجل القادر الكفؤ وذلك عملاً بفحوى القرآن الكريم الذي جاء فيه قول الله تعالى: {إن خير من استأجرت القوي الأمين}، وحين رشح يوسف عليه السلام نفسه للإدارة المالية قال للعزيز: {اجعلني على خزائن الأرض إنّي حفيظ عليم}، وحينما أراد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يبعث داعية إلى المدينة المنوّرة قبل هجرته صلّى الله عليه وسلّم إليها اختار مصعب بن عمير رضي الله عنه لما تميّز به من أمانة وإخلاص وقدرة على الإقناع. وعندما أرسل الرسل إلى الملوك والأمراء في الجزيرة وخارجها اختار من يصلح لمنصب السفير أو الرسول من الأدب والوجاهة وطلاقة اللسان وشجاعة القلب … وجمال الصورة.

     وبعث الرسول صلّى الله عليه وسلّم كثيراً من السرايا كان يختار لقيادتها من يناسب المهمة الموكلة إليه فقد اختار لقيادة جيش المسلمين في مؤتة ثلاثة من الصحابة الكرام: جعفر بن أبي طالب وزيد بن حارثة وعبد الله بن رواحة رضي الله عنهم أجمعين.

      أما توجيهاته صلّى الله عليه وسلّم في ذلك فمنها قوله صلّى الله عليه وسلّم: ((من استعمل رجلاً لمودة أو قرابة لا يحمله على استعماله إلاّ ذلك فقد خان الله ورسوله والمؤمنين)).

      وجاء في حديثه صلّى الله عليه وسلّم أن من علامات الساعة أن تُضَيّع الأمانة فسئل وكيف تضيع الأمانة، قال: ((إذا أُسند الأمر إلى غير أهله فانتظروا الساعة)).

       ومن السنّة الاقتداء بالخلفاء الراشدين، فهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما علم بجموع الفرس الكبيرة وأراد بعث جيش لملاقاة هذه الجموع واختيار قائد عام ما كان منه إلاّ أن جمع المسلمين للتشاور في هذا الأمر حتى قال عبد الرحمن بن عوف وجدته: سعد بن أبي وقاص، وقيل فيه: (الأسد في براثنه) ووافقت الأغلبية على هذا الرأي.

ثانياً: ومن المبادئ الإدارية الحديثة ما يطلق عليه "المتابعة":

     وأساس المتابعة أن المسؤول يعلم حديث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ((كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته)). ومن الأمثلة التطبيقية ما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قوله: (أرأيتم إن استعملت عليكم خير من أعلم ثم أمرته بالعدل أكنت قضيت ما عليّ؟، قالوا: نعم، قال: لا حتى أنظر في عمله أعمل بما أمرته أم لا)). وقد كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذا ولَّى والياً أحصى ماله ثم إذا ترك الولاية أحصى ماله مرّة أخرى.

        هذه لمحات سريعة من الإدارة الإسلامية، فهل يمكن أن نستغني بها عن الإدارة من الشرق أو الغرب … والله الموفق.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

تلخيص كتاب منهج البحث التاريخي للدكتور د. حسن عثمان

الكلمات النورانية: وتحمل الكل

الإسلام وتعلم اللغات الأجنبية