العدل أساس الملك


بسم الله الرحمن الرحيم



ملحوظة: طلبت مني إحدي بناتي مساعدة في كتابة موضوع عن العدل فجمعت لها هذه المادة، والعدل عظيم وهو أساس الملك، وبالعدل تدوم الدول والعدل إذا دام عمّر والظلم إذا دام دمّر  ويبدو أن ثقافة العدل تنقصنا 

                                           العدل والإحسان




المقدمة :

  

          الحمد لله القائل : { إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي ، يعظكم لعلكم تتقون } ([1])والصلاة والسلام على نبي العدل والإحسان والرحمة الذي يقول ( الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك)([2]) وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد:

          فالإسلام دين عظيم ذلك أنه الدين الذي اختاره الله للبشرية جمعاء فهو الدين الذي أرسل به الرسل جميعاً منذ آدم عليه السلام إلى إبراهيم إلى عيسى وموسى عليهم الصلاة والسلام. وقد كانت الشرائع تناسب كلّ أمة حتى كانت الرسالة الخاتمة فشملت ما جاء في الشرائع السابقة وأضافت إليها ما يناسب البشرية في كل زمان ومكان . وتميزت رسالة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بأنها الرسالة الخاتمة المحفوظة بحفظه سبحانه وتعالى فهو سبحانه لم يوكل أمر حفظها لأتباعها فقد تعهد بحفظ هذا الدين في قوله تعالى { إنّا نحن نزّلنا الذكر وإنّا له لحافظون }

          ولعل من أهم ما جاءت به رسالة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم العدل والإحسان وهو ما سوف يتناوله هذا البحث  نبدأ بتعريف كل من العدل والإحسان والمجالات التي ينبغي أن نتبعهما في حياتنا .

أولاً: العدل:

      لقد قامت السموات والأرض بالعدل وقد وردت كثير من الآيات والأحاديث في العدل نعرضها مع شرح موجز لها .

    فالعدل في اللغة هو " القسط والإنصاف وعدم الجور ..وأصله التوسط بين المرتبتين أي الإفراط والتفريط ([3])والإحسان في لسان العرب ضد الإساءة ويعني الإخلاص وهو شرط في صحة الإيمان والإسلام معاً.([4])

          والعدل مطلب إنساني عرفته البشرية وسعت إليه ولكنها لم تهتد إليه تماماً ، وكما يقول عفيف طبّارة :" كانت الأمم قبل الإسلام تعرف معنى العدل والظلم ولكنها  ما كانت تعرف حدود كلٍّ منهما ، فكانت تلك الحدود متداخلة شأنهما في ذلك شأن أكثر المعاني المجردة إذ ذاك."([5])

          ويؤكد الأستاذ طبّارة أن اليونانيين والرومانيين لم يتوصلوا إلى فهم العدل بصورة صحيحة؛ ففي اليونان كان هناك فرق كبير بين من ينتسب إلى اليونان وغيرهم من الشعوب .فقد أعطيت من الحقوق لليونانيين ما لم يحصل عليه غيرهم من الأمم. كما انقسم المجتمع اليوناني إلى الأحرار والعبيد،  وكان العبيد يقومون بالأعمال جميعها بينما انشغل الأحرار بأمور السياسة والترف والمتع.

   وكذلك كان الأمر بالنسبة للرومان بل إن الرومان كانوا أكثر ظلماً ووحشية وقسوة حيث قُسّم الناس إلى مواطنين لمدينة روما وهم أعلى الطبقات يتمتعون بكل الحقوق بينما كان بقية سكان الإمبراطورية وبخاصة من هم خارج إيطاليا عبيد للرومان، وكان الروماني يكره الأجانب ويحقد عليهم وكان في ذلك مجرداً من كل عاطفة.([6])

أما الإسلام فقد جعل العدل من المثل العليا حيث أمر الله سبحانه وتعالى المسلمين بالعدل بين كل الناس مهما كانت أحوالهم أو أوضاعهم الاجتماعية أو الاقتصادية ، وهذا ما نجده في الآية الكريمة :{ يا أيها الذين آمنوا كونوا قوّامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين أو الأقربين إن يكن غنياً أو فقيراً فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وأن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيراً.}([7])

والعدل اسم من أسماء الله الحسنى ووصف لكلماته كما قال تعالى { وتمت كلمة ربّك صدقاً وعدلاً}([8])والعدل مقدم على الإحسان . والإنسان مأمور بالعدل حتى لو كان يميل إلى طرف على آخر بسبب القرابة أو المودة كما جاء في قوله تعالى { كونوا قوّامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين }([9])

          وحتى في حالة البغضاء والكراهية فالإسلام يأمر بالعدل { ولا يجرمنّكم شنآن قوم على ألاّ تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى}([10])

وقد جاء في تفسير القرطبي حول آية (إن الله يأمر بالعدل.)الآية قال ابن عباّس رضي الله عنهما :العدل لا إله إلاّ الله والإحسان أداء الفرائض ، وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : العدل الإنصاف ، والإحسان : التفضل.([11])

          ومما يؤكد قيمة العدل في المجتمع المسلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم غضب ممن جاء يشفع في حدٍ من حدود الله فقال ( والله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها) ([12])وكان هذا هو أسلوب الخلفاء الراشدين في تاريخهم حيث إن عمر ابن الخطاب رضي الله عنه في تطبيق رائع للعدل أقام الحد على أحد أبنائه ولم يكتف بذلك بل أمر بزيادة العقوبة . ومن نماذج العدل في تاريخ الخلفاء الراشدين أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه ادعى على يهودي في درع ولم يكن لديه بينة وتحاكما إلى قاضي المسلمين فحكم بالدرع لليهودي ، فما كان من اليهودي إلاّ أن أسلم حيث إن هذا العـدل لا يمكن أن يوجد إلاّ في دين صحيح، وفي مؤمنين على درجة عالية من الالتزام بدينهم

وقد كان العدل في الخلافة الراشدة مبذولاً لكل الناس فهذا قبطي نصراني من مصر يشكو إلى أمير المؤمنين أن ابن عمرو بن العاص قد ظلم ابنه ولم يفعل عمرو بن العاص شيئاً فما كان من القبطي إلاّ أن قدم إلى المدينة المنورة. وهنا استدعى عمر بن الخطاب رضي الله عنه عمرو بن العاص وابنه ليأخذ للقبطي حقّه ويقول لعمرو بن العاص تلك القولة التاريخية  الخالدة( متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً)([13])

          واشتهرت الدولة الإسلامية بإقامة العدل طوال تاريخها حتى إنه حدث في عهد عمر ابن عبد العزيز أن الجيش الإسلامي كان يقاتل في آسيا وعقد صلحاً مع أهالي سمرقند يمتنع فيه الجيش الإسلامي عن دخول المدينة ، ولكن الجيش لم يلتزم بتعهده مما جعل أهل سمرقند يشكون إلى الخليفة الذي قام بدوره بإرسال قاضٍ مسلم للحكم في القضية، وما كان من القاضي بعد أن استمع إلى الطرفين أن حكم على الجيش المسلم بالخروج من المدينة فتعجب أهل تلك المدينة من القاضي يحكم على جيش منتصر وجيش بلاده بالخروج فما كان منهم إلاّ أن سمحوا للجيش بالدخول ودخل كثيرٌ منهم في الإسلام.([14])

          ومما يؤكد العدل في السلطان والحكم ما جاء عن الرسول صلى الله عليه وسلم (ساعة عدل من سلطان خير من عبادة ستين سنة ، قيام ليلها وصيام نهارها ، وجور ساعة أشد وأعظم من معصية ستين سنة.)([15]) وجاء في الحديث الشريف أيضاً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( إن المقسطين على منابر من نور يوم القيامة بين يدي الرحمن بما أقسطوا في الدنيا)([16]) ونظراً لأهمية العدل فإن الرسول صلى الله عليه وسلم ذكر الإمام العادل بين السبعة الذين يظلهم الله في ظل عرشه يوم لا ظل إلاّ ظله. وقد قال أحد الحكماء :" عدل السلطان خير من خصب الزمان ، والولاية إذا لم يعم جوانبها عدل عزل صاحبها لا محالة."([17])

          ومما يتميز العدل في الإسلام أنه ليس طلباً لمكسب دنيوي أو مصلحة عاجلة وإنما هو طلباً لمرضاة الله سبحانه وتعالى . ولا يقتصر العدل على مجال الحكم بل إن العدل يشمل كلَّ جوانب الحياة : في القول ينبغي أن يكون الإنسان عادلاً كما قال تعالى :{ وإذا قلتم فاعدلوا  ولو كان ذا قربى }([18])وقد جاء الرسل الكرام لتحقيق العدالة الاجتماعية كما في قوله تعالى { لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط. }([19])

          ويقول الإمام الماوردي عن مجالات العدل:" والعدل في السيرة وسلوك الواسطة وتجنب الفضائل ومجاوزة الحدود ، والميل إلى ترك الإفراط والتفريط..والشجاعة بين التهور والتحرز ، والعبادة بين التهتك والتبتل، والحزم بين الاستقصاء والإهمال ، والجود بين التقتير والتبذير ، والتواضع بين التملق والتكبر … "([20])ومن ذلك ما جاء في القرآن الكريم :{ والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواماً}([21]) وقوله تعالى { ولا تصعر خدّك ولا تمش في الأرض مرحاً} ([22]) ومن ذلك قــول الله سبحانه وتعالى: { ومنهم من يقول ربنّا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة }([23])

          ويقول الماوردي :" وكانت العرب تقول : أحبب حبيبك هوناً ما عسى أن يكون بغيضك يوماً ما ، وابغض بغيضك هوناً ما عسى أن يكون حبيبك يوما ما."([24])

          ومن المجالات التي أمر فيها الإسلام بالعدل العدل في معاملة الأبناء فقد روت كتب الحديث أن أحد الصحابة أراد أن يعطي أحد أبنائه شيئاً لم يعطه لأخوته وأراد أن يشهد الرسول صلى الله عليه وسلم على ذلك فسأله الرسول عليه الصلاة والسلام هل أعطيت ذلك كلّ ولدك، فلما قال له لا ،قال عليه الصلاة والسلام : ( إني لا أشهد على جور أو ظلم.)

          وقد أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالعدل بين الزوجات لمن كان له أكثر من زوجة أن يعدل بينهن في الطعام والكسوة والسكن والمبيت وتوعد من لا يعدل بين نسائه أن يأتي يوم القيامة وشقّه مائل.

          وفي مقابل الأمر بالعدل جاء الأمر بتحريم الظلم ، وقررت الشريعة عواقب وخيمة للظلم ، وفيما يأتي بعض النصوص التي تحرم الظلم وتوضح عواقبه :

( الظلم ظلمات يوم القيامة)([25])

{ فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا}([26])

{وتلك القرى أهلكناهم لمّا ظلموا}([27])

{ وكذلك أخذ ربّك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إنّ أخذه أليم شديد.}([28])

{ ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون .}([29])

          والإسلام حين ينهى عن الظلم يأمر أيضاً بمقاومة الظلم ومحاولة منعه بأي طريقة حيث يجعل ذلك واجباً على كل مسلم ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم ( انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً فقال رجل : يا رسول الله أنصره إذا كان مظلوماً أ فرأيت إن كان ظالماً ، قال: تحجزه أو تمنعه عن الظلم فذلك نصره)([30])

          ومن الأحاديث التي تحذر من الظلم وأن الله عز وجل وعد بأن ينصر المظلوم قوله صلى الله عليه وسلم ( اتق دعوة المظلوم ،فإنه ليس بينها وبين الله حجاب)([31]) وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم : ( ثلاثة لا ترد دعوتهم : الإمام العادل ، والصائم حتى يفطر ن ودعوة المظلوم تحمل على الغمام وتفتح لها أبواب السماء ، ويقول الرب عز وجل : لأنصرنك ولو بعد حين )([32])

          وهكذا نرى أن العدل أساس من الأسس التي قامت عليها الأمة الإسلامية منذ نشأتها حتى إن المستشرق الفرنسي جوستاف لوبون لم يمتلك إلاّ الاعتراف بذلك حيث ذكر في كتابه المعروف  حضارة العرب أن العالم لم يعرف  فاتحاً أعدل ولا أرحم من المسلمين ([33])

الإحسان :

          من المعروف أن الإحسان من الأخلاق الإسلامية العالية وقد جاءت الآيات الكريمة توضح ذلك ومن ذلك قوله تعالى :{ وأحسنوا إن الله يحب المحسنين }() وقوله تعالى:{وبالوالدين إحساناً}() وقوله تعالى { وأحسن كما أحسن الله إليك.}()

والإحسان درجة أعلى من العدل ففي قوله تعالى:{ وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عاقبتم







[1] -سورة النحل ، آية 90
[2] -رواه مسلم .
[3] -محمد الأمين بن محمد المختار الشنقيطي . أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن .( القاهرة : مطبعة المدني ) جزء 3 صفحة 317.
[4] -لسان العرب، مادة حسن .
[5] -عفيف طبّارة. روح الدين الإسلامي. ص. 299.
[6] - المرجع نفسه ص 300.
[7] -سورة النساء آية 135.
[8] -سورة الأنعام آي 115.
[9] -النساء 135.
[10] -المائدة آية 8.
[11] -تفسير القرطبي ،ج 10 ص 137.
[12] -رواه البخاري.
[13] - ابن الجوزي .سيرة عمر بن الخطاب رضي الله عنه . صفحة….
[14] - ابن الجوزي . مناقب عمر بن عبد العزيز . ص…..
[15] - ابن الجوزي .الشفاء في مواعظ الملوك والخلفاء.  تحقيق فؤاد عبد المنعم أحمد ( الدوحة دار الحرمين 1402)ص 45.
[16] - رواه مسلم.
[17] - ابن الجوزي. الشفاء.  مرجع سابق ص 47.
[18] - الأنعام 152.
[19] -الحديد آية 25.
[20] -أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي . نصيحة الملوك. تحقيق خضر محمد خضر (الكويت : مكتبة الفلاح، 1403) صفحة 150 .
[21] -سورة الفرقان آية 67.
[22] -سورة لقمان آية 37.
[23] - سورة البقرة آية 201.
[24] - الماوردي ، مرجع سابق.ص 151.
[25] - رواه مسلم .
[26] - النمل آية 52.
[27] الكهف آية 56.
[28] - هود آية 102.
[29] -هود آية 113.
[30] - رواه مسلم
[31] -متفق عليه .
[32] - أخرجه الإمام أحمد في مسنده.
[33] -جوستاف لوبون . حضارة العرب.  ترجمة عادل زعيتر.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

تلخيص كتاب منهج البحث التاريخي للدكتور د. حسن عثمان

الكلمات النورانية: وتحمل الكل

الإسلام وتعلم اللغات الأجنبية