مستقبل الدراسات الأسيوية بعد تقرير هايتر




                                              بقلم ويليام هايتر(*)


ترجمة د. مازن صلاح مطبقاني



هذه هي المحاضرة السنوية التي ألقاها السيد وليام هايتر في الجمعية الآسيوية يوم الثلاثاء التاسع من شهر يونيه 1981. والسيد هايتر صاحب تاريخ دبلوماسي متميز حيث عمل في هذا الحقل في كل من فينا وموسكو والصين وواشنطن وباريس . وكان سفيراً لبريطانيا في روسيا في الفترة من عام 1953 إلى 1957. وعمل نائباً لوكيل وزارة الخارجية من 1957 حتى 1958، وعمل رئيساً للكلية الجديدة بجامعة اكسفورد من عام 1958 حتى عام 1973. وفي السنة الأولى من رئاسته للكلية المذكورة أن كلف برئاسة اللجنة الفرعية التي حملت اسمه . له عدة مؤلفات من بينها :"دبلومـاسية القوى العظمى " (1961)، "الكرملين والسفارة" (1966)، "روسيا والعالم" (1970) والحياة المضـاعفة (مذكرات)  (1974).



المحاضرة :

مستقبل الدراسات الشرقية!! لا أعرف كثيراً عن المستقبل، ومن يعرف المستقبل حقاً ؟. ولا أعرف كثيراً عن حاضر هذه الدراسات لأنني تقاعدت من الحياة الجامعية منذ ما يقارب الخمسة أعوام، ولكنني أعرف شيئاً قليلاً عن الماضي لعدة أسباب سأحاول شرحها، وربما سنكون قادمين على الانطلاق من هنا لتقديم بعض التخمينات عن المستقبل .

وكما يمكن أن يعرف بعضكم في المصطلحات الأكاديمية أن العالم كان حتى وقت قريب مقسماً بين مناطق تقرير هايتر Hayter، ومناطق غير تابعة لتقرير هايتر، وأن مناطق التقرير هي الأكثر اتساعاً إلى حد كبير . وكان أيضاً يوجد ما يسمى بأموال هاتير وهي الأموال التي لم استطع أن أمسك بها. وإن عدم قدرتي على فعل ذلك لم تكن مدركة تماماً. فقد سمعت أن باحثاً كان مسافراً إلى الهند قد أبلغ من قبل أحد المواطنين أنه يستطيع مساعدته للحصول على بعض أموال هاتير، ومقابل مائة روبية يستطيع أن يوفر له اللقاء بهاتير نفسه.

وقد حصل هذا كله كما يأتي: قدمت لجنة مكونة من عدة إدارات لدراسة وضع الدراسات الشرقية والسلافية والأوروبية الشرقية والأفريقية برئاسة ايرل سكاربورو تقريراً للحكومة البريطانية عام 1947. وكان من بين توصياتها العديدة أن هذه الدراسات يجب مراجعة أوضاعها كل عشر سنوات. وبعد اثنتي عشرة سنة (تأخير قليل) قررت لجنة المخصصات الجامعية تكوين لجنة فرعية للقيام بهذه المراجعة، وكنت حين ذاك خرجت لتوي من الخدمة الدبلوماسية التي عملت خلالها في عدة دول من بينها  الصين والاتحاد السوفياتي . وكنت في أول سنة لي في رئاسة الكلية الجديدة بجامعة اكسفورد (New College). وافترض أنني بديت هدفاً سهلاً لرئيس لجنة المخصصات الجامعية . وعلى أي حال قبلت عرضه لرئاسة اللجنة الفرعية ، ولكن ببعض السلبيات حيث أنني كنت أجهل تماماً عمل الجامعات سوى اكسفورد ، ولم أعرف الكثير عن ذلك . ولكن العديدين من أعضاء اللجنة الفرعية كانوا أكادميين متميزين وخبراء ولذلك فإن جهلي لم يؤثر كثيراً . ومع ذلك فإن اللجنة الفرعية عندما قدمت تقريرها أصبح من الضروري أن يعرف بتقرير هاتير حيث إن المنطقة التي شملها التقرير كانت واسعة حيث كان اسم اللجنة هو : الشرقية والسلافية والأوروبية الشرقية والإفريقية ، وهو لاشك عنوان طويل لذلك كان من الأيسر أن يطلق عليها هاتير، وأطلق على الأموال أيضاً أموال هاتير في الاستخدام العام .

لقد كان هذا في الواقع تسمية خاطئة فمعظم الأعضاء الآخرين في اللجنة كما ذكرت كانوا أكثر كفاءة مني وبخاصة بل ديكن Bill Deaken الذي كان رئيساً لكلية سينت انتوني Saint Anthony بجامعة اكسفورد، والبروفيسور مانسريغ Minsergh أستاذ دراسات الكومنولث بجامعة كامبردج ومن بعد رئيس كلية سينت جون في الجامعة نفسها. وكان لدينا سكرتيرة جادة هي اليزابيث لايتون التي كتبت معظم مسودة التقرير. ولكن كانت العملية تثقيفية بالنسبة لي شخصياً . لقد زرنا معظم الجامعات في هذه البلاد التي كان لها اهتمام في هذا المجال (كان هذا بالطبع قبل توسع الجامعات الكبير في الستينات). وقد مولت مؤسسة روكفللر زيارة اللجنة الفرعية إلى سلسلة من الجامعات الأمريكية الشمالية التي كان فيها أقسام تهتم بهذه الدراسات التي تهمنا. وكان لهذه الزيارة تأثير كبير في توصياتنا .

لم يكن الوضع الذي وجدناه في الجامعات البريطانية مشجعاً عموماً عدا استثناء أو استثنائين وبخاصة مدرسة الدراسات الشرقية والأفريقية في لندن وكلية سينت انتوني في اكسفورد. وبالرغم من الدفعة التي أعطتها لجنة سكاربورو لهذه الدراسات فإنها بدت في حالة هبوط. فقد بدأت الأقسام الصغيرة ذات العدد القليل من الطلاب بممارسة دراسات لغوية وأدبية ضيقة وغالباً بتحيز كلاسيكي قوي، وفي معظم الأحيان بعزلة تامة عن بقية الجامعات، وقد ازداد انخفاض المعنويات في هذه الأقسام التي يسيطر عليها أساساً أقسام اللغات وذلك بسبب التخفيضات في التمويل الحكومي الذي حدث عام 1952 في منتصف العشر السنوات التي قررها تقرير سكاربورو، وعكست الحالة في الجامعات حالة شبيهة بما كان يحدث في العالم الخارجي. وقد كشف بحثنا في المتطلبات من الخريجين من المهنيين وغير ذلك عن نتائج مثبطة . فقد قالت الإدارة الحكومية أنها تستطيع تدريب أي متخصصين لغويين يحتاجونهم .

وقد أوضح مكتب الشؤون الخارجية بصراحة أن متخصصاً من الدرجة الأولى في اللغة العربية أو الصينية لن يعوض النقص في القابلية العامة والشخصية والدوافع . ولم تكن المصالح التجارية مهتمة بالأمر . وحتى شركات البترول قالت بأنها لن توظف من يتحدثون العربية أو الفارسية فلديهم مترجمون قادرون في حقول البترول (ويستطيعون الآن أن يغنوا لحناً مختلفاً) .

وكان الوضع في الولايات المتحدة مختلفاً تماماً . ففي أواخر الخمسينات بدأ الأمريكيون فجأة يخشون أن يواجهوا خطر تفوق الروس عليهم تكنولوجياً . وقد استخلصوا من هذا التزاماً بأن عليهم أن يبدأوا بدراسة الدول الأخرى بجدية ، وكان مرسوم الدفاع القومي للتعليم عام 1958م هو الذي وضع دراسة اللغات الأجنبية على درجة المساواة مع تلك البقرات المقدسة وهي دراسة العلوم الطبيعية . وشرع في برنامج ضخم (تسبب بالتالي في تخفيض جوهري في المتخصصين البريطانيين في هذه المجالات لصالح الجامعات الأمريكية) وقدمت كميات كبيرة من الأموال من الحكومة والمؤسسات الأخرى .

وليس حجم البرنامج التي كانت نتيجة تلك هي التي أشغلتنا ولكن طبيعة هذه البرامج . فلم يقتصروا على تعليم اللغة مع أن هذا قد قدم علة نطاق واسع . وقد أضافوا أيضاً تأسيس المراكز والمعاهد لتقديم ما أصبح يعرف بدراسة المناطق . وقد وجدت هذه المراكز والمعاهد العلماء في الفروع المعرفية المختلفة المهتمة بمناطق معينة . وهؤلاء العلماء بالرغم من عملهم في دراسة المناطق ظلوا أيضاً في أقسامهم العلمية ، وهكذا فإن الاهتمام بالمناطق لم يكن قاصراً مع المراكز ولكنه تغلغل في الفروع المعرفية الأخرى في الأقسام الأخرى وانتشر في الجامعة كلها .

والنقطة الأخيرة في تجربتنا الأمريكية التي أثرت فينا هي التركيز على الدراسات الحديثة . وحيثما وجدت الدراسات الكلاسيكية فإنه تم دعمها وتوسيعها وعادة في أقسام اللغات العادية ولكن المراكز التي أنشئت حديثاً واتجه أعضاؤها للتركيز على العلوم الاجتماعية والتاريخ الحديث والآداب الحديثة .

وقد بدا لنا هذا كله عندما عدنا إلى المملكة المتحدة أنه ذو علاقة كبيرة بالوضع هنا . ولقد كانت تجربتنا الأمريكية حاضرة في أذهاننا عندما قمت بكتابة مسودة ما أصبح من عدة طرق إحدى الفقرات الأساسية لتقريرنا (وبالمصادفة هو الجزء الوحيد الذي كتبته بنفسي) فقد كتبت : "إن العالم الآن وكان مختلفاً بطريقة مروعة عما كان عليه في نهاية الحرب . وليس من الضروري الخوض في التفاصيل هنا حول التغيرات التي حدثت في العالم في هذه الفترة . إن النقطة ذات العلاقة بعمل اللجنة الفرعية هي أن مركز الثقل السياسي في العالم الذي كان حتى الحرب العالمية الثانية يقع في أوروبا قد انتقل إلى الشرق والغرب والجنوب . ولم يهتم النظام التعليمي الإنجليزي كثيراً بهذه التغيرات .

وحتى الآن فإن اهتمام هذا النظام بأي منطقة خارج المملكة المتحدة يظهر أنه لم يكن قادراً على رؤية أي شئ سوى أوروبا الغربية مع انحناءة بين الحين والآخر نحو أمريكا الشمالية ودول الكومنولث . ويبدو للجنة الفرعية أن هذا الموضع ينطوي على مفارقة تاريخية أو يظهر استجابة غير كافية للتغييات التي تحدث الآن في العالم . إن هذه الاستجابة الناقصة ليست بالطبع غريبة على الجامعات ، ولكنها (الجامعات) هي التي تتحمل المسؤولية الأكبر في تصحيحه" .

كان هذا كله حسناً، ولكن لم يكن واضحاً حينذاك ما كان مفروضاً أن تقوم الجامعات بعمله . ولم يبد أن تخريج لغويين أكثر هو الحل. وإن بحثنا عن المستخدمين السياسيين قد أظهر لنا بأن لم يكن ثمة أي طلبات لم تلب لديهم. وربما نحتاج عدداً قليلاً من المتحديثين بالروسية ، وكذلك عدداً قليلاً من المتحدثين باللغة العربية ومتحدثين بالصينية، ولكن هذا بوضوح لا يحل المشكلة. إنني أتذكر قيام اللجنة الفرعية بعقد اجتماع كئيب في فندق كئيب في أدنبره في الفترات الواقعة بين الزيارات لعدة جامعات سكوتلاندية حيث كانت كآبة النقاش وإن لم تكن بسبب الفندق فقد تفرقنا بملاحظة من البرفسور فانسيرغ Fansergh، فقد قال: "إن ما نحتاجه ليس توسيع أقسام اللغات ولكن دراسة هذه المناطق". لقد كان هذا هو المفتاح للتوصيات النهائية للتقرير كله . لقد كان التزامنا الأساسي ـ كما قلناـ هو تشجيع البحث في العالم غير الغربي، ولزيادة عدد الطلاب في المرحلة الجامعية المتصلين بأفكار وتاريخ ومشكلات العالم غير الغربي، وأن يحققوا توازناً أفضل بين الدراسات اللغوية وغير اللغوية والدراسات الكلاسيكية والدراسات الحديثة. ولتحقيق هذا الهدف اقترحنا إيجاد عدد كبير من المناصب الجديدة في الأقسام غير اللغوية للعلماء في الفروع المعرفية في الأقسام الذي يرغبون التخصص في إحدى المناطق غير الغربية ، وإنشاء من سنة إلى ثمانية مراكز لدراسة المناطق في الجامعات وفقاً للطريقة الأمريكية. وكانت ثمة تدابير أخرى لتقديم منح للدراسات العليا ولدورات لغوية مكثفة وللرحلات العلمية والمكتبات.

وربما لم يكن مدهشاً أن هذه التوصيات لم تلق قبولاً حسناً من قبل أقسام اللغات الموجودة حالياً والمتخصصة في هذه المناطق. لقد كانوا ياملون بتوصيات لتقوية نشاطاتهم الحالية وتوسيعها وفقاً للجنة سكاربرو، وهنا جاءت لجنة أخرى توصي باستثمار واسع في أقسام أخرى. وفي الحقيقة أوصت اللجنة بعدة اقتراحات لتقوية أقسام اللغات وأملت في أن اقتراحاتها ستحسن موقفها بجعلها أكثر التصاقاً بالأقسام الأخرى في جامعتهم وزيادة الاهتمام بنشاطهم. ولم يعتقد أن هذا كافياً ووجهت رسائل غاضبة إلى صحيفة التايمز، وكتبت بعض المقالات الغاضبة في دوريات علمية وقد حددت إحداها بأن تقرير اللجنة الفرعية "يزدحم بأخطاء في المفهوم رغم أنها أساسية وثمة أخطاء ملموسة في الحقائق إن كل الحقائق والأرقام في التقرير قد تم مراجعتها مع الجامعات ذات الشأن ولكن المطالبة الملحة لتفصيلات حول الادعاءات بوجود الأخطاء الملموسة في الحقائق لمي تم الاستجابة لها. وكاء الادعاء بسوء الفهم مسألة أخرى. من الواضح أن مفاهيمنا كانت مختلفة عن بعض مفاهيم أقسام اللغات، ولم يكن واضحاً مع ذلك من كان المحق منا ومن المخطيء .

ومن المؤكد أن بعض الناس اعتقدوا بأننا كنا مخطئين . لقد استقبل التقرير استقبالاً حاراً في كلية سنيت انتوني (جامعة اكسفورد) الذي كان بالفعل مركزاً لدراسة المناطق (بالرغم من أنني اتهمت فيما بعد من قبل البرت حوراني في مناظرة جمع حاشد بأنني أخطأت في فهم تقريري). وشعرت بكثير من النشوة عندما تلقيت طلباً من عضو من أعضاء قسم التاريخ في جامعة كمبردج لتقديم المشورة حول تعديل لائحة (امتحان الشرف في التاريخ هناك لجعلها ملائمة لتوصيات التقرير . وبعد سنة أو سنتين عندما أنشئت درجة البكالوريوس في فلسفة الدراسات الاستشراقية في جامعة اكسفورد وصفت هذه الخطوة في مجلة اكسفورد بأنها خطوة مهمة نحو تحقيق بعض التطلعات التي نادى بها تقرير هايتر. 
وعلى أي حال لقد استقبل التقرير استقبالاً حسنا من الجهات ذات الأهمية الكبرى. فقد وافقت عليه لجنة تمويل الجامعات بكامله واستمالت الجامعة للتصويت بالموافقة على كل الأموال التي طلبتها اللجنة. وقد جعلن هذا في حالة انتباه شديد بأننا كنا متواضعين جداً في اقتراحاتنا، وأننا لو طلبنا زيادة فربما حصلنا عليها . ومع ذلك فربما كان ذلك صحيحاً وهو أن البرنامج شرعنا به في تقريرنا قد أنجز تماماً في السنوات التالية. فقد قدمت لجنة تمويل الجامعات منحاً ضخمة مما أدى إلى إنشاء عشرت مراكز دراسات إقليمية بزيادة اثنين على العدد الأقصى الذي اقترحناه ، وكان أربعة منها للدراسات الآسيوية واثنان لكل من الدراسات الإفريقية والشرق أوسطية والدراسات السلافية والأوروبية والآسيوية. وقد عوملت مدرسة الدراسات الشقية والإفريقية ومدرسة الدرات السلاقية والأوروبية الشرقية لمبذن على أنها مراكز إضافية . وقد أنشئ مائة وخمسون منصباً أكاديمياً وكان يطلق عليها "مراكز الصندوق المشترك" والتي تستطيع الجامعات أن تأخذ منها لتوسيع الدراسات غير الغربية في الفروع المعرفية المناسبة . وقد قدمت المخصصات لمكتبات متخصصة ولرحلات الموظفين .

وقد استنتجت لجنة تمويل الجامعات في تقريرها بعد عشر سنوات في السنة الأكاديمية 1970 ـ 1971 بأنه بحلول تلك السنة فإن الأهداف الرئيسة لتقرير هايتر قد تم إنجازها. وقد استطاعت الدراسات غير الغربية أن تتغلغل أقسام الفنون والعلوم الاجتماعية النامية في الجامعات بمساعدة الأموال الضخمة (المسماة أموال هايتر). لقد وجد تحول واضح لصالح الدراسات الحديثة في كل المجالات السلاقية والدراسات الآسيوية والشرق أوسطية (الدراسات الإفريقية كانت دائماً حديثة). وقد أصبح اللغويون أكثر رضى بأسلوب"هايتر" في تناول هذه الدراسات وربما لأنهم وجدوا أن ازدياد التوسع في الدراسات غير الغربية قد قوى مراكزهم أكثر من إضعافهم.

لقد أوصى تقرير "هايتر" بتوفير أموال ضخمة للموضوعات التي كانت مهتمة بها لمدة عشرة أعوام، وبحلول العام الأكاديمي 1971 ـ 1972  كانت هذه الفترة قد انتهت. وقد قررت لجنة تمويل الجامعات عدم تمديد المخصصات الضخمة بعد هذه الفترة . لو وصلت هذه الدراسات حد الاكتفاء وذلك لأنه تم إيجاد مجموعة من الأساتذة المدربين ومجموعة من طلاب الدراسات العليا القادرين على استثمار تطور السنوات الأخيرة والاستمرار وبخاصة في المناطق التي تشهد نمواً كالتخطيط الاقتصادي وعلم الاجتماع ودراسات التنمية. وقد أدركت الجامعات التي قبلت المخصصات المالية الضخمة أنها ارتبطت بالتزام دائم بدراسات "هايتر". 
  إن أحد متخصصي اللجنة الفرعية (التي كنت أحد أعضائها) والتي أنشئت لمتابعة تطوير التقرير خلال فترة المخصصات الضخمة قد وصل إلى نهاية عمله .

وأعتقد أن يمكن القول بأنه نتيجة لتقرير هايتر وتطبيقه الكامل المدهش بأن تدريس التاريخ واللغات والاقتصاد والعلوم الاجتماعية في الجامعات البريطانية قد افتقد ـ على الأقل ـ بعض عزلته السابقة . وما زالت المراكز العشر تزدهر (بعضها تفوق على البعض الآخر) وأن المناصب المشتركة التي أنشئت بأموال "هايتر" في نطاق واسع في الأقسام الجامعية قد تم امتصاصها ونظر إليها على أنها أساسيات عند الجامعات المهتمة.

ويبدو الأمر حتى الآن قصة نجاح، وإنني إذ أكتب حديثاً في عام 1975 شعرت بأمان أن أقول أن "دراسات هايتر أصبحت دائمة" ولكن بالطبع فإن الأمور الآن تشير إلى عدم توفر هذا الأمان. وكما ذكرت سابقاً ففي عام 1952 وهي إحدى السنوات التي لم تكن الأمور فيها تسير سيراً حسناً على الإطلاق أو هكذا أخبرنا حيث فرضت الظروف المالية إلغاء المخصصات الضخمة التي اقترحها سكاربورو قبل أن تصل توصياته منتصف الطريق. وكان سبب هذا يعود جزئياً إلى التراجع في عدد الطلاب المسجلين في هذه الدراسات. وفي تلك السنوات كان هذا الانخفاض في الطلاب الإنجليز قد تم تعويضه إلى حد ما بزيادة عدد الطلاب الأجانب. ولكننا حرمنا هذا المصدر الآن بسبب التمييز في الرسوم، وهو ما يثبط الطلاب الأجانب. فالأقسام ذات العدد الكبير من الموظفين.ـ أو ربما يكون قليلاً؟ ـنسبة الطلاب للمدرسينـ أعني على أي حال الأقسام التي يكون فيها عدد كبير من الأستذة وعدد قليل من الطلاب.ـ مثل هذه الأقسام معرضة دائما لأن يكون ترتيبها عالياً في القائمة عندها يفرض على الجامعات إجراءات اقتصادية. وإن الأقسام المتخصصة التي تهتم بها هي دائماً معرضة للوقوع في هذا التصنيف. وقد لاحظ تقرير هايتر أن الغالبية العظمى من الطلاب السابقين في الجامعات البريطانية الذين لم يتخصصوا في موضوعات التقرير يشكلون إلى درجة كبيرة المراتب العليا في الخدمة المدنية وفي القنصليات البريطانية، وفي التجارة وفي الفروع غير الفنية في الصناعية، ونجد هؤلاء في السياسة وفي الصحافة. إن تأثرهم الكلي واسع بقدر ضآلة اهتمامهم ومعرفتهم الجمعية حول العالم غير الغربي. ويعدو الشكر جزئياً لتنفيذ التقرير، وقد يكون هذا أقل صحة عام 1981 منه قبل عشرين سنة عندما تمت كتابته. ولكنه ما زال يحتفظ بقيمته للجيل الأكبر سناً وأن الموقف الذي تمثله قد قويت بانسحاب هذه الدولة من المسؤولية ـ فيما وراء البحار وانشغالها بأوروبا مهما كان هذا الإجراء ناقصاً. ففي هذه الظروف لا بد من وجود الضغط. في أزمنة  الصعوبات الاقتصاديةـ على الأقسام غير المستخدمة تماماً لدراسة الشرق والدول غير الغربية في جامعاتنا . ومن حسن الحظ أن البناء الذي أوجده التقرير جعل من الأكثر سهولة مقاومة هذه الضغوط حيث توزعت هذه المناصب خلال عدد من الأقسام وينتشر في تدريس أجزاء من مناهجها العادي أقل مواجهة للنقد من الأقسام المفردة غير المستخدمة.

ومع ذلك فما زال الخطر موجوداً. ومن الواضح أن الحال كذلك عندما تضطر كل الجامعات إلى التخصيص فإن الدراسات الشرقية لا تستطيع أن تكون معزولة كلياً . وثمة خطوة يجب على الجامعات أن تذكرها في هذه الأوقات العصيبة هي "تجنب المبالغ الصغيرة" ولقد أصر تقرير سكاربرد على ذلك ولقد نظر حقاً إلى على أن اقتراحها الأساس هو بناء أقسام قوية في مكان الكراسي العديدة المنعزلة التي كانت موجودة حين إعداد التقرير . ولم ينفذ هذا الاقتراح بكامله وكان بالفعل أحد نتائج تقرير سكاربرد أو عدم تطبيقه كليا هو إيجاد عدد من الجيوب الصغيرة والمنعزلة وغير مجهزة تماما بالأفراد وغير مستخدمة مما جعل لجنة هايتر الفرعية في جولتها على الجامعات تواجه كثيراً من أعضاء الكليات الذي يشعرون بالمرارة والإحباط ، وقد بذلت اللجنة جهدها للتخلص من ذلك، ولكن بعضها استمر، وربما أقل في مجال الدراسات الشرقية عنه في الدراسات السلافية فلا يوجد جامعة تشعر بأنها كاملة كما ينبغي لو لم يكن لديها قسماً للدراسات الروسية، ولكن لحسن الحظ لم يشعروا بهذا بالنسبة للدراسات الشرقية. وهذه الجامعات التي تشعر بالنقص ولكن لاتستطيع سده فعليها أن تطبق على نفسها المقولة الكانتية (نسبة إلى الفيلسوف كانت) تصرف حتى يمكن تعميم تصرفاتك، وإذا لم يطبقوا هذه المقولة فيجب على لجنة المخصصات الجامعية تطبيقها عليهم.

إن الدراسات الشرقية في الجو الاقتصادي المرعب الذي نعيش فيه يجب أن تتوقع بعض التخفيضات التي قد يكون بعضها مؤلماً، والبعض الآخر مفيداً. لا شك أن اللورد أنان Annan كان يحاول أن يخيفنا أو يخيف الحكومة عندما قال بأن أحد تأثيرات انخفاض المنح الدراسية لجامعة لندن سيكون إغلاق مدرسة الدراسات الشرقية والإفريقية. وسيكون هذا القضاء على قلب الدراسات الشرقية في هذه البلاد ، فالمدرسة ليست فقط أهم مركز للدراسات الشرقية في البلاد وربما الأهم  في العالم. وهي أيضاً الحاضنة لمعظم الدراسات الشرقية في أنحاء بريطانيا لأنها تنتج وتدرب كثيراً من الأساتذة والعلماء الذين نحتاجهم.

ولذلك فلا أعتقد أنه من المتوقع أن نهتم كثيراً بملاحظة اللورد أنان Annan ، ولكن ربما كان الحدث الأخطر هو التقرير الأخير للجنة سونرتون داير Swinerton-Dyre الذي لم أطلع عليه كاملاً ، ولكن البرفسور كوان Cowan كان لطيفاً بأن بعث إليّ بنص الفقرة في ذلك التقرير التي تشير إلى مدرسة الدراسات الشرقية والإفريقية ، وأعتقد أنني من الأفضل أن أقرأ لكم النص كاملاً ؛ وهو كما يأتي:

ليست مدرسة الدراسات الشرقية والإفريقية الجزء الوحيد في جامعة لندن الذي يخدم حاجة قومية، ولكنها من بين كل المدارس هي الوحيدة التي من أصعب الأمور النظر إليها في السياق اللندني فقط. ثمة حاجة قومية لنوعية من الخبرة في الدراسات الشرقية والإفريقية وهو من الخبرة موزعة على عدد من الجامعات. ولكن هناك أسباب مسيطرة لماذا يجب أن تكون لندن هي المركز الأساسي. إن نطاق الحاجة القومية قد تم تقديره قبل عشرين سنة من قبل لجنة سكاربرد ولجنة هايتر، وإن حجم مدرسة الدراسات الشرقية واتساعها كان قد تم إقراره في هذه التقارير، ولكنه يتقلص في المدة الأخيرة. إن العالم والدور البريطاني فيه قد تغير كثيراً منذ تقديم هذين التقريرين، وإن الحاجة القومية قد تكون مختلفة جداً عما كان يعتقد حينئذ. ولكن الحاجة تتركز على الخبرة وليس مجرد البحث والقدرة على التدريس ولذلك فهذه حاجة لا يتوقع أن النظام الجامعي بله جامعة لندن وحدها تحديده. وإذا كان ثمة جهاز يستطيع تقدير هذه الحاجة فهذا الجهاز هو وزارة الخارجية. ونعتقد أن نائب الرئيس يجب أن يتصل بوزير الخارجية عند النظر في إنشاء لجنة سكاربورو جديدة. ومن هذا التصرف سيجد التأييد من نائبي رئيس جامعتي اكسفورد وكامبردج اللذين يضمان مركزين أساسيين للدراسات الشرقية في هذه البلاد. وإن كثيراً مما قلنا في هذا التقرير ينطبق على الدراسات السلافية والأوروبية والشرقية، ولا نرى أي سبب لماذا لا يكون ضمن مراجع مثل هذه اللجنة الدراسات الروسية والأوربية والشرقية أيضاً.

ولسنا هنا مهتمين بالدراسات الروسية والأوروبية والشرقية، ولكن مما ستيحق بعض العناية الموجزة العوامل التي يراعيها لجنة مكتب الشؤون الخارجية إذا شكلت مثل هذه اللجنة في العلاقات مع الدراسات الشرقية. فالفقرة التي أشرت إليها سابقاً من تقرير هايتر ركزت على الطريقة التي كان ينظر فيها العالم عام 1961. وقد شعرت لجنة هايتر بأننا كنا في هذه الدولة نميل كثيراً لرؤية غرب أوروبا فقط وأن ننسى بأنه منذ الحرب الأخيرة لم يعد هذا الجزء مركز العالم. وهذا صحيح منذ عام 1981 كما كان كذلك منذ عام 1961، ولكن وضع هذه الدولة قد تغير في الفترة ما بين الحربين العالميتين المذكورتين كما أشار إلى ذلك تقرير سونورتون ـ داير. ففي عام 1961 كنا ما زلنا قادرين على الاحتفاظ بنوع من الوهم بأننا كنا قوة عالمية ولنا مصالح تشمل العالم كله . وقد اندثر هذا الوهم منذ ذلك الوقت ، وأصبحنا عضواً في السوق الأوروبية المشتركة . وربما يعني هذا أنني كنت مخطئاً عندما قلت عام 1961 أننا يجب أن توقف تركيزنا على أوروبا الغربية التي نحن جزء منها الآن ، وأمل بصورة نهائية جزئياً ، وهذا مناقض أننا يجب أن نبني دراساتنا أكثر حول جيراننا الأوروبيات على حساب المناطق الأخرى. وربما كان هذا هو الاستنتاج الذي كان يجب أن تتوصل إليه لجنة سونرتون ـ داير.

وإذا كان الأمر كذلك فإن مستقبل الدراسات الشرقية في هذه البلاد سيكون منذراً بكارثة. ولكني أعتقد أنه سيكون استنتاجاً زائفاً. إن لدول السوق الأوروبية المشتركة الآن على الأقل حاجة تماثل حاجة دولها منفردة كما كانت دائماً في الماضي لفهم العالم غير الأوروبي. إن أزمة البترول المستمرة قد تكون العارض الأكثر وضوحاً لهذا الأمر. وثمة أيضاً المشكلة مع اليابان وخروج الصين من عزلتها الطويلة. وكل هذه الأسئلة التي أثارها تقرير براند Brand نحتاج إجابة ولن تختفي. 
 وكل هذه الأسئلة والمشكلات يجب أن تكون في مقدمة تفكير الجماعة الأوروبية السياسي والاقتصادي ويجب معالجتها من قبل أناس لديهم فهم أصيل ومعلومات عن هذه المناطق غير الأوروبية.

ولا أعتقد أننا نستطيع أن نقول بأن تغير وضعنا في العالم أو أن عضو يتنافى الجماعة الأوروبية يجب أن لا يلغى بأي طريقة حاجتنا لدراسة مناسبة للعالم غير الأوروبي في هذه البلاد. وإن لبريطانيا العظمى حقاً إسهام مهم في مجال الدراسات الشرقية عليها أن تؤديه للمجتمع الأوربي ليس فقط لأننا لأسباب تاريخية لدينا خبرة أوسع وأعمق في آسيا أكثر من أي دولة أوروبية أخرى. ولدينا رغم كل نواقصه جهازاً أفضل للدراسات الشرقية. وفوق هذا كله فإن لدينا في مدرسة الدراسات الشرقية والإفريقية ما لايمكن الشك فيه أنه أفضل مدرسة من نوعها في أوروبا ، ولذلك فإن هذا المجال هو ما نأمل أن ترشد أوروبا ونقودها وتقدم شيئاً تحتاجه أوروبا حقاً.

لا أحد يعرف بالطبع في هذه المرحلة فيما إذا كان التحقيق الذي أوصت به اللجنة الحكومية المسماة سونرتون داير سيتم إنجازه أو حتى ماذا ستوصي به، ولكن يجب علينا جميعاً أن نتطلع إليه في حالة قيامه . كما أرجو ذلك عموماً فإنه إذا ما تم قيام ذلك، وأقول دعونا نأمل أن ذلك لا يتخذ من منظار ضيق أو محدود كأمر رسمي أو ينظر إلى الأمر فقط من زاوية عدل الوظائف المتوفرة في البلاد لخريجي الدراسات الشرقية ، وألاحظ أن تقرير لجنة سونرتون ـ داير يتحدث في أماكن عديدة عن الحاجة القومية ويبدو أنه يعدل بين ذلك مع الحاجة إلى "نوع من الخبرة في الدراسات الشرقية والإفريقية" وهذه عبارة غامضة . ولكنها إذا كانت تعني ببساطة بأن كل ما نحتاجه هو كادر من المترجمين الأكفاء . عندئذ أعتقد ان التقرير يجب أن يقول بأن الأمة تحتاج أكثر من ذلك. إنها في حاجة إلى نشر أوسع للمعرفة والتفاهم مع الدول خارج أوروبا. ولكن حتى في المفهوم الأوسع فإن الحاجة القومية ليست الكينونة الكلية أو النهاية الكلية للدراسات الشرقية، ومع ذلك فإنني أخشى أنني أذنبت في الحديث كأن الأمر كذلك. إن الدراسات الشرقية كأي فرع أكاديمي جاد جزء من عملية توسعة المعرفة والتي هي العمل الجوهري للجامعة ولها قيمة لكونها كذلك مستقلة عن أي حاجة قومية. وأذكر حينما كان يتم إطلاعي على معمل جديد للفيزياء النووية في جامع اكسفورد وسألت الفيزيائي الشاب الذي كان دليلي ما الفائدة العملية المتوقعة من عمل المعمل أجاب قائلاً :"ليس له أي فائدة، ولن يكون له فائدة عملية، إننا ببساطة نوسع حدود المعرفة" وفي هذه الأوقات الصعبة لايبدو مثل هذا الموقف الوهمي شعبياً، ولكنه يحتوي أساس الحقيقة النبيلة. وهو قابل للتطبيق على الدراسات الشرقية كما ينطبق على الفيزياء النووية ويجب أن لا ننساه من كل حديثنا الذي له ما يبرره حول الحاجة القومية.

في هذا الاستطلاع الموجز والذي أخشى أن يكون سطحي من شخص غير خبير حول تطور الدراسات الشرقية من هذه البلاد في سنوات ما بعد الحرب يبدو أنني انتقلت من التشاؤم إلى التفاؤل وعدت إلى التشاؤم. ولكنني لست متشائماً عموماً أعتقد أن بعض الأساسيات قد أرسيت والتي سيبرهن أنه من الصعب عكسها، وأعتقد أيضاً أن رجالاً عقلانيين يعالجون هذه المشكلات بعقلانية سيفهمون أن الدراسات الشرقية ليست فقط ذات قيمة موروثة ولكن سيكون لها إسهام لجعل الحاجات القومية التي تجاوز مجرد التوسع في الخبرة الفنية فقط وأنها ازدادت نمواً مع مرور الوقت.



* William Hayter. “ The future of Asian Studies after the Hayter Report .” in Asian Affairs. Vol. XII, Part III, October 1981. Pp 245-253

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

تلخيص كتاب منهج البحث التاريخي للدكتور د. حسن عثمان

الكلمات النورانية: وتحمل الكل

الإسلام وتعلم اللغات الأجنبية