ندوة إعلامية في جامعة نيويورك



          اختار الغرب الطريقة المنطقية والصحيحة في دراسته للعالم الإسلامي وفي دراسته لجميع مناطق العالم فلديه المئات بل الألوف من لجامعات والكليات التي تقدم مواد علمية ضمن مختلف التخصصات (لغات، سياسة، اقتصاد، أنثروبولوجي، اجتماع، جيولوجيا، مشكلات مائية، وغيرها). كما إن العديد من الجامعات لديها برامج دراسية تهدف إلى حصول الدارس على درجة جامعية في مجال الدراسات العربية والإسلامية. وبالإضافة إلى الأقسام العلمية فلديهم أيضاً مراكز دراسات الشرق الأوسط أو دراسات الشرق الأدنى ، وهناك مراكز بحوث ومعاهد مستقلة مجالها الرئيسي هو الدراسات العربية الإسلامية.

     وجامعة نيويورك بمدينة نيويورك هي إحدى الجامعات التي فيها قسم دراسات الشرق الأدنى تديره البر فسورة جل كلاستر Jil N. Claster المتخصصة في دراسة الحروب الصليبية أو القرون الوسطى. وتعد الدراسات العربية والإسلامية في هذه الجامعة من الدراسات التي تحظى بمكانة علمية بارزة ويتم تقويم هذه المكانة وفق معايير صارمة منها مستوى أعضاء هيئة التدريس العلمي، وشروط القبول والإمكانات  العلمية للجامعة (المكتبة، المعامل…الخ) والنشاطات الأكاديمية المختلفة.

          وقد قررت جامعة نيويورك عقد ندوة مكونة من ست حلقات بعنوان(الرقابة الإعلامية والمصالح القومية) وتختص إحدى هذه الحلقات بدراسة الرقابة الإعلامية في الجزيرة العربية. وتهدف الندوة فيما تهدف إلى دراسة أثر البث المباشر ووسائل الاتصال الأخرى(الانترنت وغيرها) على الشخصية القومية أو الأيديولوجية أو ما يسمى بالهوية الإسلامية لسكان الجزيرة.

    والحقيقة أن هذا الموضوع لم يغب عن بال المسؤولين الرسميين أو الطبقة المثقفة أو وسائل الإعلام المختلفة. فقد صدر كتاب قبل أكثر من أربع سنوات بعنوان البث المباشر ولعله كان أول كتاب يتناول هذه القضية. ثم جاء كتاب الدكتور إبراهيم الدعيلج حول البث المباشر وآثاره الإيجابية والسلبية. كما إن مـكتب التربية لدول الخليج العربية عقد ندوة قبل عدة أشهر حول هذا الموضوع وبخاصة تأثير البث المباشر على الطفل في دول الخليج العربية. وقد أجرت عدة صحف منها هذه الجريدة استطلاعات لبعض المهتمين حول هذه القضية ، وقد عقدت ندوات في المساجد ، وتناول بعض الخطباء هذه القضية في خطبهم الجمعية.

        ومن الكتاب البارزين الذين تناولوا هذه القضية الدكتور فهد العرابي الحارثي في زاويته اليومية في جريدة عكاظ في مقالة بعنوان(ميثاق البث المباشر) وقد أكد فيها على أهمية أن تسعى الدول إلى التوصل إلى ميثاق دولي يصون الدول من أخطار البث المباشر .وقارن الدكتور فهد هذا الميثاق بما توصلت إليه الدول من مـواثيق خاصة بالمياه أو بحقوق الإنسان أو بالنقل الجوي أو غيره، وأكد أن هذا الميثاق أكثر أهمية وأشد خطورة. وكتب حول هذا الموضوع الدكتور عبد القادر طاش وألقى المحاضرات ونشر كتيباً صغيراً بعنوان التغريب الثقافي وجاء فيه أنه في الوقت الذي دخلت فيه الدول العربية الإسلامية مجال البث الفضائي فإننا لم نستعد بأن يكون لنا برامجنا وإنتاجنا الخاص بنا.وذكر بعض لإحصائيات عن نسبة البرامج الغربية المستوردة في القنوات التلفازية العادية  والمحطات الفضائية، كما أشار إلى نسبة اعتماد هذه المحطات على وكالات الإعلام الغربية المشهورة.

    وهكذا جاءت ندوة جامعة نيويورك امتداداً لهذا الاهتمام واشترك فيها كل من البروفسورة شيلا كارابيكو Sheila Carapico مديرة المعهد الأمريكي للدراسات اليمنية بجامعة رتشموند بولاية فيرجينياRichmond Univ.-Virginia ، ومحمد دلباح الصحفي الفلسطيني الذي عمل مراسلاً لعشر صحف خليجية في واشنطن منذ عام 1978.

   وقد بدأت الدكتورة كارابيكو بالحديث عن حرية الإعلام في اليمن فهذا هو مجال تخصصها حيث أمضت العشرين السنة الأخيرة في مجال الدراسات اليمنية، ولكنها في معرض الحديث عن اليمن تعقد  المقارنات مع الدول المجاورة متأثرة بوجهة النظر اليمنية . وذكرت حالات معينة عن حرية الإعلام في اليمن وبخاصة في مجال الصحف الصادرة باللغة الإنجليزية. وتناولت أثر القبلية في الأوضاع اليمنية المعاصرة. ولكن مما يؤخذ على تناول كارابيكو وغيرها من الباحثين الغربيين النظر إلى الشعوب الأخرى بالمعايير الغربية أو الأمريكية التي تتمتع في نظرهم بحرية الرأي التي لا  تعرف الحدود بينما هي مقيدة جداً في الدول الأخرى..

          ومما يغفله المتحدثون الغربيون أنه يمارس في بلادهم أحياناً رقابة إعلامية صارمة كما ذكر الدكتور محمد خضر عريف في أحد مقالاته عن منع عرض فيلم عن شخصية المسيح عليه السلام حتى إنه لم تقبل عرضـه سوى بعض دور السينما القليلة في الولايات المتحدة الأمريكية. وكتب الدكتور عاصم حمدان أيضاً عن موقف السلطات البريطانية من كتاب صائد الجواسيس لبيتر رايد الذي منعت نشره في بريطانيا. لأنـه  كما ذكرت السلطات البريطانية يمس الأمن القومي. وفي أمريكا نفسها كانت عندهم صحيفة اسمها (الحربي) (The Militant) ولكنها كانت محدودة الانتشار، وكذلك صحيفة الكرسشان ساينس مونيتور Christian Science Monitor لا توجد في معظم المحلات فالذي يريد هذه الصحيفة فعليه الاشتراك فيها أو البحث عنها في المكتبات التابعة للصحيفة أو للكنيسة العلمية.

          ومن ممارسة الغرب للرقابة الإعلامية أن المجلس الأعلى للثقافة والفنون في فرنسا وجّه المنتجين ابتداءً من عام 1995 أن يخففوا جرعات العنف والجريمة في الأفلام الموجهة للأطفال. وكذلك ما فعلته هيئة الرقابة البريطانية من النظر في منع عرض فيلم (قتلة بالفطرة) لأنه يشجع على الجريمة ويصورها بأنها شيء جميل وممتع ،

        لقد قسم دلباح ورقته تقسيماً جغرافياً فبدأ الحديث عن كل دولة على حدة ، وكانت الورقة خلاصـة لتجاربه مع الإعلام في دول الخليج العربي منذ عام 1978. وكانت رواية من طرف واحد تحتـاج إلى بحث وتمحيص. ولكن كان الغالب على الورقة عرض السلبيات من وجهة نظر دلباح أو وجهة النظر الغربية الأمريكية.

          وفيما يأتي ملخص لورقة الأستاذ محمد دلباح الذي عمل مراسلاً لعدد من الصحف والمجلات العربية في دول الخليج العربية.
       ولم تقتصر ورقة دلباح على الرقابة الإعلامية على الصحافة التي يزعم أنه خبير بها ولكنه أضاف إلى ذلك الخوض في كثير من القضايا السياسية. ومما ينتقد على هذه الورقة أنه أغفل الظروف السياسية والـدولية والاجتماعية والثقافية التي أدت إلى ذلك النوع من الرقابة الذي تحدث عنه. وعلى العموم فكانت ورقة دلباح نقداً قاسياً موجهاً لجميع دول المنطقة بلا تفريق.

       أما ورقة المتحدث الثالث-ورقتي ولم أشر في المقالة حتى لا أقول ذهبت فتغضب الجامعة- في الندوة فكانت أقرب إلى التعليق على الورقتين السابقتين حيث أشرتُ إلى أنه ليس من المنهجية العلمية إسقاط المعايير الغربية الأمريكية على دول الجزيرة العربية. كما أكدت على أن هذه النظرة إلى الآخرين تنطوي على نظرة فوقية. ووجهت النظر إلى أن دراسة الرقابة الإعلامية يجب أن تكون دراسة واقعية تتناول المتغيرات الاجتماعية، والثقافية، والسياسية، والاقتصادية والدولية في المنطقة.

            والمتتبع للإعلام  في دول الجزيرة العربية خلال العشرين سنة الماضية يجد أنه لم يكن على نمط  واحـد في كل تلك الفترة، فمن خلال تتبعه للصحافة على سبيل المثال وجد أن الصحافة تتمتع بقدر كبير من الحرية في تناول جميع القضايا التي تهم المجتمع دون الدخول في بعض أساليب الإعلام الغربي القائمة على الهجوم والانتقاد، فالحرية الإعلامية في دول الخليج أو في الجزيرة العربية حرية مسؤولة تقدر أن مصلحة البلاد مقدمة على الحرية المزعومة التي لا تحدها قيود.

            وأشرت إلى موضوع أغفله كلا المتحدثين السابقين وهو الرقابة الإعلامية التي تمارسها دول الجزيرة العربية عموماً وبخاصة المملكة العربية السعودية لحماية الشخصية الإسلامية، وأوضح أن هذا أمر مطلوب تفرضه الشريعة الإسلامية فلا بد من الرقابة على المطبوعات لمنع الصور الفاحشة والكتابات الخليعة. كما إن من مهمات الرقابة الإعلامية منع الكتابات التي تتناول مسلمات الأمة الإسلامية من عقيدة وقيم وأخلاق. فإذا كان الغرب يعتقد أن من حرية الرأي أن يسمح لأشباه الكتاب أن يتجاوزوا الحد في الطعن في الإسلام فإن الدول الإسلامية لن تسمح لمثل هذا. ومن أمثلة الكتاب الذين احتضنهم الإعلام الغربي سلمان رشدي، وتسليمه نسرين، ونصر حامد أبو زيد ومحمد سعيد العشماوي وغيرهم.

          ومن مهمات الرقابة الإعلامية حماية الهوية الإسلامية من موجات التغريب والفساد التي تحرص صناعة السينما الغربية على نشرها وتهدد الشخصية الإسلامية. وأشار إلى أن السينما الغربية قد أساءت إلى الغرب بقدر ما أساءت إلى دول العالم أجمع وربما أكثر. وقد  حدا هذا بالرئيس الأمريكي بيل كلينتون حين اجتمع بأربعمئة شخصية من هوليوود في أعياد الميلاد قبل عامين أن يناشدهم بتخفيف جرعات العنف والجريمة والجنس من السينما الأمريكية. ومن الأمور التي جعلها السيناتور الأمريكي بوب دول عنواناً لحملته العودة إلى القيم الاجتماعية وأشار إلى الفساد الذي تنشره السينما الأمريكية.

          والرقابة الإعلامية أمر تمارسه الدول الأوروبية المختلفة فقد نشرت جريدة التايمز اللندنية أن الحكومة البريطانية تقدم معونات نقدية لدور السينما إذا ما امتنعت عن عرض الأفلام الأمريكية وعرضت الأفلام الأوروبية.

          ومما يجد ذكره أن من أبرز الخلافات بين أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية أن صناعة السينما الأمريكية قد اجتاحت أوروبا مما دعا فرنسا إلى محاولة إخراج القضايا الثقافية من الاتفاقيات الاقتصادية بينها  وبين أمريكا. وقد نشرت وسائل الإعلام القرارات الفرنسية التي منعت فيها استخدام اللغات الأجنبية وبخاصـة الإنجليزية في المراسلات الرسمية وفي الندوات العلمية وفي الإعلام عموماً. فهل تعد هذه الرقابة من أنواع الحد من حرية الرأي؟

          وثمة نوع من الرقابة لم تتطرق له ورقتي المتحدثين وهي الرقابة التي تفرضها الدول لحماية أمنها، وهناك العديد من الأمثلة التي فرضت فيها بعض الدول الغربية منع نشر بعض الكتب في دولها. ولعل السبب في ذلك  أن ورقتي شيلا كارابيكو ومحمد دلباح ركزتا على ما ظناه سلبيات الرقابة الإعلامية في دول الجزيرة العربية هو أنهما لم يتعاملا مع الإعلام في دول الجزيرة العربية من الداخل فلم يمارسا الكتابة الصحافية أو إعداد  البرامج الإذاعية أو الاشتراك في البرامج التلفازية . ومن السهل على الشخص الذي لم يمارس التجربة من الداخل أن ينتقد كما يشاء .

            ومما يجدر ذكره أن الإسلام دين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ودين التناصح على المستوى الفردي والجماعي، والذي ينظر في تراث هذه الأمة من مخطوطات يجد أنها لم تضق أبداً بالرأي الآخر بل إنها  كانت دائماً تفسح المجال لكافة الآراء أن تتحاور فيما بينها فالإسلام لا يؤثر فيه أي فكر عدا أن يكون فكراً هدفه التدمير والإفساد .

       ومن الملحوظات المهمة أن هذه الندوة وغيرها الكثير مما يعقد في الجامعات الأمريكية لا يصل إلينا تفـاصيلها فإن كان من أفكار خاطئة فإنها تنتشر ولا تجد من يصححها، بل لقد مضى عليها أكثر من ثلاثة أسابيع لم تتناولها أي من صحفنا المحلية أو الدولية. 


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

تلخيص كتاب منهج البحث التاريخي للدكتور د. حسن عثمان

الكلمات النورانية: وتحمل الكل

الإسلام وتعلم اللغات الأجنبية