تجربتي في البحث العلمي (3)





        عندما كنت في الجزائر أبحث عن المادة العلمية لبحثي كانت مجلة (الثقافة) من المجلات المهمة التي لا بد من الاطلاع على أعدادها المختلفة، فذهبت إلى مقر المجلة ودخلت إلى مكتب رئيس التحرير فطلبت منه أن يعطيني الأعداد القديمة المتوفرة عندهم، فقل ليس عندنا أعداد قديمة يمكن أن نعطيك إياها. فقلت له ولكني حينما دخلت رأيت رفوفاً فيها أعداد قديمة كثيرة وبعضها مكرر. عندها لم يملك نفسه إلاّ أن قال خذ ما شئت من تلك الرفوف. فخرجت واشتريت حقيبة صغيرة ورجعت إليه وملأتها من تلك الرفوف.

          أما في فرنسا فذهبت إلى المكتبة الوطنية القسم التجاري وكان بجوار متحف اللوفر، وبعد أن اشتريت الصحف الجزائرية القديمة في صورة مايكروفيلم خرجت وإذ بي أرى من بعيد برج إيفل وكان الفندق الذي نزلت فيه يقع خلف البرج، فقلت أمشي حتى أصل إلى الفندق، ولمن لا يعرف باريس فبرج إيفل شارع من ثمانية مسارات، ورصيف، ويُرى من كل أنحاء باريس. فمشيت ومضت ساعة ومضت الساعتان والثلاث، وأنا مثل البدوي لا ألتفت إلى الخلف وأصررت أن لا أركب سيارة أجرة أو أية مواصلات أخرى. وبدأت الشمس في الغروب وأنا في عنادي لا بد أن أصل الفندق مشياً. ووصلت مشياً. ومما يقال أنه من طباعي أنني عنيد أو أصر على أمر حتى أحققه. ومن الصفات التي وصفني بها عميد كلية الدعوة قديماً- غريمي لا أحتاج لذكر اسمه- بقوله: "وأخذ مازن يصول ويجول" والحمد لله ما زلت أصول وأجول، ومن لم يعجبه فليضع ما شاء من الحواجز والعقبات والعراقيل. وأسمع أحياناً من يقول: لقد أُصبت بالإحباط، فردي عليه من يقبل الإحباط يُحبَط. ومن لا يذد عن حوضه بسلاحه ومن لا يظلم الناس يُظلمِ.

          وزرت المكتبة الوطنية بباريس وأردت الاطلاع على ما عندهم من وثائق أو كتب عن جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، وكان الكمبيوتر لم يدخل في خدمات المكتبات آنذاك (1403هـ/1983م) فطلبت مني الموظفة الهوية، فقدمتها لها وكذلك خطاب كنت أسمّيه (خطاب التسول) وهو إفادة من الكلية أنني أبحث في موضوع كذا.  و- وانظروا إلى الخبث الإداري يقول المستند – فلان يتوجه إلى البحث في الموضوع الفلاني - فأعطتني رقماً وقالت جميع المقاعد الآن مشغولة فانتظر قليلاً وسينادى عليك.

ونودي علي لأدخل المكتبة، فوجدت طاولات ورفوفاً ومناضد وأثاثاً قد أصبحت من قدمها كأنها قطع في متحف، ولكن وجدت حركة عجيبة موظفين وموظفات يتحركون ويتحركن بين تلك المناضد والرفوف، ويذهبون ويعودون وفي أيديهم وأيديهن ما طلب القارئون والقارئات والباحثون والباحثات. لأن النظام في المكتبة يتيح لك أن تطلب عدداً محدداً –يصل إلى ستة أو ثمانية-من الوثائق والكتب. ورأيت رجالاً تقدمت بهم السن يجلسون الساعات الطوال يبحثون، قلت هؤلاء أجدادنا حين كانوا زعماء الدنيا في العلم، حين كان الواحد يؤلف كتاباً بين المغرب والعشاء، أو حين كان يؤلف المجلدات العظام، نحن علّمنا العالم الكتابة الموسوعية والعلم الموسوعي قبل أن يحصرونا في تخصصات ويقولون بعد التخصصات تخصصات، وكأن العالم لا يرى إلاّ من عدسة صغيرة. لا بأٍس بالتخصص والإبداع فيه، لكن أن يكون الإنسان لا يعرف من الدنيا إلاّ ساق الفيل، فالفيل كبير.

          وصورت من المكتبة الوطنية ما استطعت تصويره، ومن بين تلك الكتب التي صورتها ولم يكن لها علاقة مباشرة ببحثي، كتب تعليم اللغة العربية الدارجة، كما تتناول المناسبات الدينية التي يحتفل بها المغاربة عموماً مثل عاشوراء، وعندما تتاح لي الفرصة لتنقيح هذه التجارب سأقدم إن شاء نماذج من تلك الكتب.

          وبناء على اقتراح المشرف اتصلت بالبروفيسور روبرت مانتران أستاذ التاريخ العثماني في جامعة إكس إن بروفانس، ورتبت الزيارة معه في شهر مارس عام 1983م وحين وصلت إلى الموعد وبعد حديث موجز عرفت أنه غير متخصص فيما أدرسه، ولكنه ذكر لي أستاذ آخر اسمه برونو اتيان المتخصص في علم الاجتماع في المغرب العربي، واتصلت بمنزله وردت عليه ابنته باللغة الإنجليزية وقالت إن والدها في باريس وقد يتأخر، فلم أحصل على موعد معه، ولكني قابلت الباحث (المغمور حينذاك) فرانسوا بورجا الذي عاش في الجزائر سبع سنوات وتعلم اللغة العربية فيها وفي مصر. وهو الآن في مدير البحوث في مركز البحوث حول العالم العربي والإسلامي. (ألقي محاضرة في مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية حول نظرة الغربيين للحركات الإسلامية، في شهر ربيع الأول 1427هـ) وتحدثت معه عن الجزائر وأشياء أخرى وسجل لي عنوانه في الدفتر الذي كنت أحمله. وبورجا قد أصبح الآن من الباحثين المشهورين جداً حول العالم وبخاصة في كتاباته حول الحركات الإسلامية. وبخاصة في دول المغرب العربي.

          وذهبت إلى الأرشيف الوطني لما وراء البحار في مدينة إكس إن بروفانس. وكانت ثمة صعوبة للتفاهم مع الموظفين لقلة من يعرف اللغة الإنجليزية، وإن كان المدير يعرفها، شرحت لهم ما أريد وساق الله لي باحث جزائري يعد الدكتوراه في فرنسا فساعدني قليلاً. ولكن صحبته لم تعجبني فقد ذكّرني بنماذج من الطلاب العرب في أمريكا –حين كنت مبتعثاً في الفترة  1388-1393هـ/1968-1973م)  الذين لا همّ لهم إلاّ المال والنساء والمتعة. (ورضا الأوروبي) حتى إذا سألته عن مسجد في المدينة قال : دع المساجد للعباد... لا أذكر بقية البيت ولكن عرفت أنه لا تهمه المساجد.

          وأعطيت العلبة تلو العلبة وصورت ما شاء الله أن أصور مما اعتقدت أن له علاقة ببحثي، ولا أنكر مساعدة هذا الأخ في بعض العناوين، وإن كنت أحاول أن أخمن أن معنى العنوان بالفرنسي يعني الشيء نفسه بالإنجليزية مثل (تقارير الأمن) أو الجزائر في نصف قرن، أو غير ذلك. وجئت بالوثائق وبدأت أبحث عمّن يترجمها ولم يكن الأمر صعبا أبداً، فدفعت بعض النقود (وكان راتب الخطوط محترماً) وترجم لي موظف أمريكي زوجته تعرف الفرنسية فتمت الترجمة إلى الإنجليزية.

          وعرفت عن رسالة دكتوراه أنجزت في معهد الدراسات الإسلامية بجامعة مقيل، وكنت في رحلة عمل مع وفد من الخطوط السعودية للتفاوض مع الطيران المدني الأمريكي،  ففي واشنطن تركتهم في سهرة خاصة وذهبت إلى جامعة قريبة نسيت اسمها الآن فبحثت عن ملخصات الرسائل في أمريكا وكندا، ووجدت المعلومات كاملة عن الرسالة وكيفية الحصول عليها وأنه لا بد من شيك أو أمر مصرفي، وغادرنا واشنطن لقضاء ليلة في مدينة أتلانتك سيتي، وفي  تلك المدينة ذهبت إلى أحد البنوك وحصلت على أمر مصرفي وأرسلته إلى الجامعة وكان العنوان التي سترسل إليه الرسالة هو مكتب الخطوط السعودية في نيويورك حيث كان مدير الفرع حينذاك الزميل الأستاذ فهد حمّاد, وأخبرته أنه عندما تصله الرسالة فليبعث بها إليّ في جدة. وأحمد الله أن وصلت الرسالة وأفدت منها كثيراً، وربما كنت الوحيد في الباحثين العرب الذي اطلع على الرسالة وأفاد منها.

          وعرفت من خلال شركة الميكروفيلم العالمية (تحتفظ وتبيع كل رسائل الماجستير والدكتوراه في أمريكا) عن وجود رسالتي دكتوراه حول تاريخ الجزائر الحديث وحصلت عليهما من خلال إرسال حوالة مالية للشركة.

          وأختم هذه الجولة بقصة الوثائق مع المشرف (المحترم) فقد كان رأيه أن نضع بعض الوثائق ملحقات للرسالة، فطلب منّي المشرف أن أحضر له الوثائق ليساعدني في اختيار بعضها، ولكنّي قبل أن أذهب إليه بالوثائق قمت بتصويرها. وتركت الوثائق عنده مدة وأعتقد أنني أخبرته أنني احتفظت بصورة منها. وكنت كلما سألته عن طريقة ترتيب الوثائق أو الوثائق التي تصلح ملاحق للرسالة ماطلني وقال لي مشغول أو ما عندي وقت، وفي النهاية قال لي قم أنت باختيار ما تراه مناسباً وأطلعني على اختيارك. وفعلت وقبل ما فعلت. ولكني رجعت أطلب منه الوثائق بعد حين (وكان ذلك العام عامه الأخير في الجامعة)، فقال لي إنني أرسلتها مع العفش إلى مصر. قلت له ولكنها وثائقي وأنا الذي تعبت من أجل الحصول عليها. ولكن كان عليّ أن أصبر حتى المناقشة. واجتزت المناقشة والحمد لله ولكن لم ترجع الوثائق إلاّ بعد حين.

          فما أن عاد إلى مصر حتى أمطرته بالرسائل وفي واحدة منها قلت له بالحرف الواحد: أستاذي الجليل عندما كانت الحجاز فقيرة كان المصريون أثرياء وكانوا طيبين فكانوا يبعثون بالمساعدات إلى الحجاز. وأراد الله أن تغتني الحجاز والمملكة عموماً فجاء أبناء أو أحفاد أولئك الكرماء فأرادوا أن يستردوا ما قدمه أباؤهم أو أجدادهم. ولكن بأسلوب غير مهذب. وثائقي أعدها إلي، أيها الأستاذ فقد ظننت أنني غبي، ولكني كنت تحت حكمك ويا لك من مستبد طاغية. وأعاد إلي الوثائق وقال أرجو أن لا يعاملك طلابك بمثل هذه الطريقة. فقلت له لو فعلتُ ما فعلتَ فليعاملوني بأسوأ من هذا.

          وكانت الوثائق كثيرة كما قال أحد المناقشين، فقلت ما قاله لي المشرف، أردت أن يطلع الباحثون على هذه الوثائق. قال هذا عذر أقبح من ذنب. إنّك إن وضعت الوثائق ملحقة بالرسالة فأنت مسؤول عن كل كلمة فيها وكان عليك أن ترد عليها أو تناقشها وأنت لم تفعل. فسكت.

          هذه المرحلة انتهت بحمد الله وفضله، وكانت جمعية العلماء المسلمين الجزائريين بركة علي والحمد لله  كما كانت بركة على الجزائر حتى قال فيها أحد علماء المدينة الشيخ محمد الحافظ رحمه الله إنها كانت أكثر بركة على الجزائر من المطر.

          وإلى اللقاء في الحلقة التالية إن شاء الله (إن أحببتم)

         

         

         

         

تعليقات

  1. بارك الله في علمك دكتور مازن. قصة مليئة بالعبر خاصة لأمثالي ممن هم في بداية طريق الدكتوراة. انا اليوم في مرحلة قراءة وتفنيد الادبيات السابقة في مجال بحثي وبعد قرائتي لتجربتك عرفت اني اليوم في رحمة نظراً لوجود وسائل الكترونية تسهل عملية جمع المصادر وتصنيفها فالحمد لله على نعمه.
    انتظر منك المزيد ولك تحياتي.

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

تلخيص كتاب منهج البحث التاريخي للدكتور د. حسن عثمان

الكلمات النورانية: وتحمل الكل

الإسلام وتعلم اللغات الأجنبية