نظرة في كتاب (رسالة في الطريق إلى ثقافتنا) للشيخ محمود شاكر (رحمه الله*


-" استشراق إدوارد سعيد واستشراق محمود محمد شاكر" في الحياة (لندن) العدد 10687، 12 ذو القعدة 1412هـ (13مايو 1992م).




أثار كتاب الاستشراق لإدوارد سعيد أستاذ الأدب المقارن بجامعة كولومبيا بنيويورك عام 1987م ضجة كبرى في الأوساط العلمية والأكاديمية في الغرب والشرق. وقد زادت المراجعات والعروض التي تناولت هذا الكتاب على العشرات وبلغات مختلفة. كما ترجم الكتاب إلى لغات أوروبية عديدة . وترجمه إلى العربية كمال أبو ديب "الشاعر الحداثي" بلغة عربية حداثية. بينما ظهر كتاب الأستاذ محمود محمد شاكر العالم المسلم الحائز على جائزة الملك فيصل في الآداب عام 1403هـ (1983م) المتنبي : رسالة في الطريق إلى ثقافتنا عام 1407هـ (1987م) ، وقد تناول الأستاذ شاكر في مقدمته الاستشراق فلم يثر مثل تلك الضجة وحتى لما طبعت المقدمة منفصلة في كتاب وصدرت عن دار الهلال في شهر صفر 1412هـ – سبتمبر 1991م، ربما لم يكتب عنها سوى عدد قليل من الكتاب كان من أبرزهم الدكتور مصطفى عبد الواحد في ثلاث مقالات ظهرت أيام … و… و… . هذا وقد عقد  قسم الاستشراق بكلية الدعوة الإسلامية بالمدينة المنوّرة يوم 10 شوّال 1412هـ  ندوة حول هذا الكتاب شارك فيها كل من الدكتور محمود ماضي والدكتور زين العابدين الطشو رحمه الله الأستاذين بالقسم .

لا شك أن إدوارد سعيد قد حقق سبقاً باللغة الإنجليزية في تعرية الاستشراق والكشف عن فلسفته وأهدافه وأساليبه وبخاصة خدمته لأهداف الإمبريالية والاستعمار وتكريس نظرة التعالي والتفوق التي ينظر بها العرب إلى الأجناس الأخرى جميعها وبخاصة العرب والمسلمون. ولكن لم يكن من أهداف إدوارد سعيد على أية حال الانتصار للإسلام والدفاع عنه وإن كان الانتصار والدفاع قد أتيا عرضاً في طيات كتابه .

أما كتاب الأستاذ محمود محمد شاكر فهو كتاب أكثر من رائع وتستحق القضايا التي ناقشها في هذا الكتاب الذي لم يتجاوز المئتين وخمسين صفحة من القطع الصغير مجلدات لمناقشتها، وقد أشار المؤلف نفسه إلى كتاب محمد جلال كشك ودخلت الخيل الأزهر لمن أراد التوسع في بعض الجوانب . وأود هنا أن أشير إلى مسألة مكانة العلماء في الأمة في العصر الحديث قد ناقشها الأستاذ محمد قطب في كتابه قضايا معاصرة .

وقد اشترك إدوارد سعيد والأستاذ محمود شاكر في بعض الآراء من عدم اقتصار الاستشراق على الباحثين والعلماء المنقطعين لدراسة علوم الشرق ولغاته وتاريخه بل عدَّا منهم الرحّالة والمنصرين والتجار والعسكريين والسياسيين … ولئن كان تركيز إدوارد سعيد على مسألة النظرة الفوقية المتعالية للاستشراق في دراسة الشعوب الأخرى فقد كان تركيز الأستاذ محمود شاكر على قضية وأد الشمال المسيحي (النصراني) للصحوة الإسلامية التي أوشكت أن تقود العالم الإسلامي إلى الوقوف موقف التدمر الغرب النصراني.

ويهيمن في هذه المقالات أنها تتناول جوانب وقوف الشمال النصراني أو الغرب النصراني الاستشارة…وبدأ الزحف البطيء المتتابع الخفي الوطء يخترق دار الإسلام في تركية والشام ومصر والجزائر لا يبساكل زيّ: زي التاجر، وزي السائح، وزي العالم الباحث، وزي المسلم طالب العلم، وعلى الوجوه البشر والطلاقة والبراءة، وفي الألسنة الحلاوة والخلابة والمماذقة…ولم يتركوا شيئاً إلاّ خبروه وعجموه، وفتشوه، وسبروه، وذاقوه واستشفوه، متعاونين متآزرين تحت رعاية "المستشرقين" حملة هموم المسيحية الشمالية وإرشادهم وتوجيههم … (ص164) .

وتوالت التقارير والتوصيات على الحكومة الفرنسية من المستشرقين والتجار والسياسيين للقيام بالحملة على مصر، ولما استكملت الحكومة الفرنسية العدة لهذه الحملة دخلت القوات الفرنسية البلاد بخطة محكمة لتحطيم صحوة البلاد. وكانت هذه الخطة تتلخص فيما يأتي :

أولاً :توجيه النشاط إلى المشايخ الكبار لإقناعهم بأن هدف الحملة الفرنسية هو محاربة المماليك وظلمهم وجورهم الذي تعرض له المصريون والرعايا الفرنسيين …

ثانياً : إثارة الأقباط ضد المسلمين وأن الحملة الفرنسية جاءت لإعلاء راية المسيحية ؛ وإن لم ينجح هذا التدبير تماماً .

ثالثاً :محاولة تدجين العلماء، وقد نجح جيش الاحتلال بتدجين مجموعة منهم وقد "خدعهم حسن استقباله لهم وتوفيرهم خداعاً لهم بمراهنته ومكره ودهائه" (ص198)، والتدجين كما شرحه الأستاذ شاكر هو الاستئناس من قولهم داجن لكل ما يألف البيوت من طاتئر أو بهيمة مستأنسة" (ص153) .

رابعاً :تفقير الشعب بالاستيلاء على ثرواته من خلال الضرائب والأتاوات بالإضافة إلى التدمير والتخريب المتعمد .

خامساً :سرقة الثروة الفكرية للبلاد حيث سطوا على ذخائر البلاد من مخطوطات ما تزال خزائن كتبهم تشهد على ذلك لوأد الصحوة .

حكم الفرنسيون مصر بعد أن حطموا الحكومة القائمة وحاربوا العلماء ودجنوا منهم من استطاعوا تدجينه بالمكر والخديعة أو بالقوة و الجبروت . ثم أتى بمحمد علي سرششتمه (درجة بسيطة يلقّب بها قائد عدد من الجنود في الدولة العثمانية). ومما وصفه به الأستاذ محمود شاكر أنه "كان ذكياً داهية عريق المكر، يلبس لكل حالة لبوسها، وكان مغامراً لا يتورع عن كذب ولا نفاق ولا غدر …ولم يكن "الاستشراق" ـ وخاصة الاستشراق ـ الفرنسي غافلاً عن هذا المغامر الجديد عن خلائقه" (ص199 – 200)

وبدأت فرنسا في تنفيذ سياستها التي رسمها المستشرقون بمكر ودهاء لإفساد حياة المسلمين والقضاء على يقظتهم، وكان مما فعلوه ما جاء في رسالة نابليون إلى خليفته على مصر أن يبعث إليه خمسمائة أو ستمائة من المماليك أو من العرب ومشايخ البلدان ويرسلهم إلى فرنسا "يحتجزون مدة سنة أو سنتين يشاهدون في أثنائها عظمة الأمة الفرنسية ويعتادون على تقاليدنا ولغتنا . ولما يعودون إلى مصر يكون لنا حزب يضم إليه غيرهم …" (ص158)؛ وأما الطلب الثاني فهو إرسال جوقة تمثيلية "لأنها ضرورية للجيش وللبدء في تغيير تقاليد البلاد" . (ص159)

وجاء محمد علي وقدّم لهم أكثر من هذا بكثير فحارب العلماء أولاً حتى حطم هيبتهم لدى الجماهير وسلطتهم عند الحكام. وكان الاستشراق قريباً من محمد علي متمكناً لديه حتى استطاع أن يحقق نجاحاً كبيراً في "عزل الأزهر ومشايخه عن قيادة الأمّة، وأوغر صدر هذا الجبّار، ومكن في قراءة قلبه بغض الأزهر وطلبة العلم المجاورين فيه" . (ص201 – 202)

وكانت الخطوة التالية تنفيذ رغبات نابليون بإرسال بعثات من أبناء مصر ولئن كانت سابقاً من المماليك أو شيوخ العرب فهم الآن نجباء أبناء مصر، وبدأت البعثات من عام 1242هـ (1826م) حتى عام 1264هـ (1847م) تحت إشراف جومار (المستشرق الفرنسي) حيث يقضي هؤلاء المبتعثين سنوات قلائل يعودون إلى بلادهم ليتسلموا المناصب والأعمال وهم لم يحصلوا على علم حقيقي ولكنهم بالتأكيد يعودون بعد غسيل دماغ جيد، وقد أوضح الأستاذ شاكر حالة رفاعة الطهطاوي توضيحاً جيداً. (ص209 – 214)

لم يكتف الفرنسيون بالبعثات بل أسسوا مدرسة الألسن لتكون نافذة لإدخال فكرهم وثقافتهم عن طريقها…ولما لم يتوفر من المصريين من يدرس جميع العلوم فيها فقد جاء المستشرقون ليتولوا هم التعليم بل ظل هذا الأمر قائماً حتى بعد مائة سنة وزيادة في جامعة الملك فؤاد (القاهرة) .

هذه هي صور الاستشراق "حامل هموم الشمال المسيحي" كما قدمها لنا الأستاذ محمود شاكر في هذا الكتاب القيِّم . ولم تكن هذه هي الصحوة أو اليقظة الوحيدة التي عاشتها أمّتنا الإسلامية فإن هذا الدين بحمد الله يجد دائماً من ينتصر به وينتصر له وينهض به وينهض له . فالبرغم من كل هذا التخطيط الدقيق فقد عرفت مصر في الربع الثاني من هذا القرن حركة كادت تستلم الزمام وتنهض في مصر وفي العالم الإسلامي؛ فوقف المستشرقون والاستعماريون في وجهها . وقد شهدت الجزائر صحوة أولى في عهد عبد الحميد بن باديس رحمه الله (1306 – 1359هـ) (1889 – 1940م) ثم في عهد جبهة الإنقاذ. وما زال الصراع قائماً في شتى أرجاء العالم الإسلامي حتى يأذن الله بالنصر لعباده، حتى إذا كتب لهم التمكين كانوا كما وصفهم العزيز الجبّار بقوله : {الذين إن مكنّاهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور} .

إن ظهور هؤلاء العلماء الذين أشار إليهم الأستاذ محمود شاكر (البغدادي، الزبيدي، ابن عبد الوهاب، الشوكاني، الجبرتي "الكبير") لم يكن المظهر الوحيد للصحوة الإسلامية؛ فقد كان للنهضة جانب آخر خطير ألا وهو مكانة العلماء لدى الأمة التي كانت تعتز بقيادتهم وتفزع إليهم في الملمّات، وكان العلماء يعرفون قيمة أنفسهم فكانت كلمتهم مسموعة، فكم من مرة اشتكى عامة الناس ظلم المماليك وجورهم فما كان من العلماء إلاّ أن وقفوا في وجه الظلم فاستجاب المماليك حتى إن أمراء للمماليك وقعوا على حجة (وثيقة) برفع الظلم عن الناس وكف أيدي أتباعهم عن أموال الناس والسير فيهم سيرة حسنة، وكان ذلك سنة 1209هـ (1794م)؛ ويشير الأستاذ محمود شاكر بأن هذه الوثيقة بما تحتويه من ضمانات للحريات والحقوق أفضل مئات المرات من وثيقة (الماجناكارتا) التي يفخر بها الإنجليز (ص187) .

ومما يؤكد مكانة العلماء لدى الأمة ما رواه الأستاذ شاكر عن الجبرتي كيف دخل الشيخ علي الصعيدي العدوي والشيخ الجداوي وجماعته كثيرة من المنعمين على الأمير المملوكي لاستنكار سلوك جنود الأمير ضد أحد العلماء فصاح الشيخ الصعيدي بالأمير قائلاً : (ما هذه الأفعال، وهذا التجاري "أي الجرأة" ) فقام الأمير على أقدامه وصَرَخ : (والله أكسر رأسك)؛ فصرخ عليه الصعيدي وسبّه وقال له : (لعنك الله ولعن التسرجي "تاجر الرقيق" الذي جاء بك، ومن اشتراك ومن جعلك أميراً) وتوسط الحاضرون بينهما وأطلق سراح العالم المعتقل … (محمود شاكر ص 185) .

دخلت فرنسا وبريطانيا في منافسة حادة على الاستيلاء على الهند بهدف "استنزاف ثرواتها وكنوزها وخيراتها بشراهة لا تشبع" (127) وفشلت فرنسا فشلاً ذريعاً في الهند، وكان لا بد لفرنسا أن تبحث عن موقع آخر تخترق به ديار الإسلام، وهنا قدم المستشرقون نصائحهم ونتائج دراساتهم للسياسيين الاستعماريين للهجوم على مصر. ويستعرض الأستاذ شاكر إعداد الشمال المسيحي للحرب الصليبية الرابعة لا لتكون مرجاً"بقعقعة السلام" ولكن لسلام العمل والتفوق واليقظة والتدبير، ثم الصبر والمكر والدهاء واللين والمداهنة وترك من قضية الصحوة الإسلامية . ولم أتمالك نفسي في أثناء قراءة الكتاب من تزوير عبارة (ما أشبه الليلة بالبارحة) حيث نرى الصحوة الإسلامية تواجه بأعنف وأقسى وأخبث الأساليب قديماً وحديثاً .

ولقد استفاد الغرب النصراني كثيراً من الدروس والعبر على مر الأيام من مواجهته للصحوة الإسلامية فقد استخدم قديماً أساليب المكر والخديعة والقوة والجبروت وكان وحيداً في هذا الميدان بينما يواجهها اليوم وقد وجد أعواناً أو أوجد له أعواناً من أبناء الأمّة الإسلامية نفسها . لكنه وهو يستخدم أبناء الأمة نفسها في محاربة الصحوة يقف بوضوح يوجههم ويدعمهم ويقود خطواتهم كما يقود الشيطان خطوات أتباعه …

إنّ الصحوة الأولى التي وقف الاستشراق في وجهها وحرّك جيش نابليون لوقفها ورافقه في هذه الحملة ومكث في مصر بعد خروج الجيش الفرنسي كانت في أوائل القرن الحادي عشر الهجري إلى بداية القرن الثالث عشر الهجري. وقد حدد الأستاذ محمود شاكر هذه الصحوة بظهور خمسة من العلماء الأفذاذ (وهم بلا شك أكثر من ذلك) وهؤلاء هم عبد القادر بن عمر البغدادي (1030 – 1093هـ)، وحسن بن إبراهيم الجبرتي "الجبرتي الكبير" (1110 – 1188هـ)، ومحمد بن عبد الوهاب (1115 – 1206هـ)، ومحمد بن عبد الرزاق الحسيني المرتضى الزبيدي (1145 – 1205هـ)، ومحمد بن علي الشوكاني (1173 – 1250هـ)؛ وقد برز كل واحد من هؤلاء الأعلام في مجال من المجالات وإليك عبارات الأستاذ محمود شاكر عن هؤلاء العلماء .

"فالبغدادي ألّف ما ألّف ليرد على الأمة قدرتها على "التذوق" تذوق الشعر والأدب وعلوم العربية، وهب ابن عبد الوهاب يكافح البدع والعقائد التي تخالف ما كان عليه سلف الأمّة من صفاء عقيدة التوحيد…وهب المرتضى الزبيدي يبعث التراث اللغوي والديني وعلوم الدين وعلوم الإسلام…وهب الشوكاني محيياً عقيدة السلف وحرّم "التقليد" في الدين، وحطم الفرقة والتنابذ الذي أدى إليه اختلاف الفرق بالعصبية،…وكان الجبرتي "الكبير" فقيهاً حنيفاً كبيراً نابغاً عالماً باللغة وعلم الكلام ولكنه في سنة 1144هـ  ولّى وجهه شطر العلوم…حتى ملك ناصية الرموز كلها في الهندسة والكيمياء والفلك والصنائع الحضارية كلها … " . (ص118 – 120)

وأكد الأستاذ محمود شاكر بأن الفرق بيننا وبين الشمال المسيحي كان خطوة واحدة "تستدرك بالهمة والصبر والدأب والتصميم لاأكثر …" .

فماذا ستفعل أوروبا لوقف هذه الصحوة كما أخبرهم ثقاة مستشرقوها ؟ . 



تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

تلخيص كتاب منهج البحث التاريخي للدكتور د. حسن عثمان

الكلمات النورانية: وتحمل الكل

الإسلام وتعلم اللغات الأجنبية