التأمين ونفسية المؤمّن عليه




التأمين ونفسية المؤمن عليه

ملحوظة: هذه مقالة كتبتها في 13 جمادى الآخرة 1395هـ 

بحث الفقهاء كثيراً في عقود التأمين من الوجهة الشرعية وخرجوا بإجابات مختلفة لا أستطيع الخوص فيها لأني لست فقيهاً ولو أنني في قرارة نفسي أؤمن بأن فهم هذه الأمور ليس وقفاً على الفقهاء فقط، بل علينا جميعاً أن ندرك هذه المسائل لأنها تلقي الرواج بين ظهرانينا ولأنها أيضاً آتية إلينا من الغرب كغيرها من الأفكار الدخيلة التي لا مفر من اتباعها دونما قوة فينا لمجابهتها في عالم يسوده الغرب بل دونما إدراك منا لما لها من آثار نفسية واجتماعية وعقدية على المدى البعيد أو بصيرة بما جرته من عواقب وخيمة على المجتمعات الغربية في هذه المجالات.

فالتأمين بالنسبة للأشخاص العاديين ينقسم إلى قسمين: الأول: التأمين على الحياة، والثاني: التأمين على الممتلكات المادية مثل السيارة، والمنزل، والساعة، وغيرها.

أولاً: التأمين على الحياة ففي هذا العقد يقوم الإنسان بدفع مبلغ من المال إلى شركة التأمين على أقساط شهرية أو سنوية لمدة معينة مقابل أن تتعهد شركة التأمين بدفع تعويض معين لهذا الرجل إذا بلغ السن المحدد في العقد أو يتسلم هذا العوض ورثة المؤمَن عليه في حال وفاته قبل إتمام عقد التأمين.

ثانياً: التأمين على الممتلكات المادية فمثلاً يمكن لأي شخص أن يؤمن على منزله ضد العوامل الطبيعية كالسيول والصواعق والعواصف والنيران أو ضد العوامل البشرية كالسرقة والتدمير والحرق، وهنا يقوم صاحب المنزل بدفع مبلغ معين لشركة التأمين مقابل تعهدها بدفع قيمة المنزل أو ما فسد منه عند تعرضه لأحد العوامل المنصوص عليها في عقد التأمين بعد استيفاء الشروط اللازمة من حيث عدم وجود الإهمال من قبل صاحب المنزل أو التآمر على شركة التامين لاستيفاء هذا العوض.

     أما التأمين على السيارات فهو معروف لدى كثير منّا وذلك أن الحوادث وانتشار شركات التأمين على السيارات وتطور وسائل الاقناع العديدة التي لا يعدو بعضها أن تكون أحابيل ذكية أضف إلى ذلك أن من يشترى سيارة بالتقسيط يضطر إلى الدخول في عقد التأمين دون رضى منه.

كل هذا يبدو حسناً لأول وهلة ومن منّا لا يريد أن يدفع مبلغاً شهرياً ضئيلاً ليقوم باستلام دفعة كبيرة آخر حياته فيما لو عاش حتى تكون السن التي حددها عقد التأمين أو يقوم ورثته بقبض هذا المبلغ ليتقوا به غائلة الفقر والعوز؟ ومن منّا لا يريد أن يتقي شر حوادث السير وتكاليف إصلاحها وغير ذلك من تكاليف كإصلاح سيارة الغير أو دفع دية. دون ريب إن هذه لعروض مغرية للكثير منّا، ولكن مغرية فقط إذا ما اقتصرت نظرتنا إلى الناحية المادية البحتة، وليزداد الأمر وضوحاً ونستوفي جوانبه الأخرى دعني أضع هذه التساؤلات.

أولاً: ما الأكثر شيوعاً الحوادث في السيارات أو السلامة؟

ثانياً: ما الأكثر شيوعاً التعرض للسرقة أو عدمه؟

ثالثاً: هل قيمة المبلغ الفعلية المدفوع لشركة التأمين في عقد التأمين على الحياة يساوي قيمته عن الدفع فيما لو استمر الدفع حتى السن المحددة لقبض المقابل؟

رابعاً: ما دور الإسلام في خلق المجتمع المتكافل المتقارب المتحاب الذي تفقد فيه شركات التأمين الحاجة إليها؟

 خامساً: ما الأثر النفسي الذي يتركه التأمين على المؤمَن عليه من جراء اعتماده على شركات التأمين في تعويضه عن كل ما يمكن أن يبتلى به في حياته الدنيا والله سبحانه وتعالى يقول (ولنبلونكم بشيء من الجوع والخوف ونقص في الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين)

      والآن لأبدأ بالإجابة عن هذه الأسئلة علّنا نصل بها إلى الحقيقة عن مقدار حاجتا إلى هذا الداء الغربي الذي سرى في شرايين أمتنا دون إحساس منّا بمدى خطرها على عقيدتنا وإيماننا.

فبالنسبة لحوادث السيارات فإننا لو افترضنا أن ثلثي السيارات التي تسير في شوارعنا وطرقاتنا كانت تحمل عقود تأمين وكانت نسبة الحوادث تقع على عشرة في المائة من هذا العدد فأين هو المنطق في أن يتحمل التسعين بالمائة تكاليف ونفقات ما ارتكبه غيرهم نتيجة لتهور بعضهم أو لظروفهم السيئة؟ أليس في هذا غبن لهؤلاء وشبيه بهذا عقود التأمين على الصحة والتي يقوم الإنسان فيها بدفع مبالغ متوالية لعدة سنوات لا يمرض فيها إلاّ قليلاً ربما لا تبلغ تكاليفه عشر ما دفع فهو بلا شك يشعر بالغبن في ذلك، ولكن ليس هناك مفر حيث لا تتكلف الدولة بالعلاج وليس هناك من مفر، ولا يقوم المجتمع فيه على أسس من التكاتف والتعاضد والتآلف هذا في المجتمعات الغربية التي أخذت بنظام التأمين منذ زمن بعيد.

وعندما يقوم الناس بالتأمين على حاجياتهم ضد السرقة يعني أنه ليس هناك ثقة بين الناس أو ثقة بالقانون مما يدل على عدم كفاية القانون على ارتفاع نسبة الجريمة وتفشيها، وليس التأمين علاج للجريمة وجذورها، بل هو علاج للأعراض، وهذا ما أخطأت فيه الحضارة الغربية خطأَ لا يغتفر حتى ليصدق من قال فيهم (إنهم انتقلوا من البدائية إلى الهمجية دون المرور بدور الحضارة)

ثم لنتساءل عن القيمة الفعلية للمبلغ الذي تقدمه شركة التأمين للشخص المؤمن عليه في نهاية مدة العقد هل تساوي قيمة ما دفع؟ والجواب على هذا بالسلبية ذلك لأن جميع القرائن تشير إلى أن قيمة العملة في معظم دول العالم إن لم يكن كلها تنقص باستمرار فلا يكون مقدار ما يستلم إلاّ ما دفع أو أقل وإن زاد فهي نسبة ربح زهيدة جداً لا تعادل الأرباح الضخمة التي جنتها شركات التأمين من ورائه.

والإنسان المؤمن عليه لا يؤمن بحكمة ابتلاء الله عز وجل ولا يعرف قيمة الصبر على المكروه ولا تعرف قيمة الشيء إلاّ عند فقده، وهذا مما يفقد الحياة أحد مقوماتها الكبرى ألا وهو الأجر عند الصبر ومن ثم فهو يفقد الفرص العظيمة للسمو بالنفس البشرية فوق تفاهات الحياة المادية فالبلايا للنفس الإنسانية كالريح تهب على صغار الشجر فتبعث القوة في جذوعها وجذورها فتجعلها أقدر على مواجهة العواصف مستقبلاً. هذا وإن الابتلاء يدعو إلى التكاتف والتحاب فعندما تحل مشكلة بأخ يتسابق إخوانه وبنو عمومته وجيرانه في تقديم المساعدة والعون له، هذا هو المجتمع المسلم الحق وما صورة التآخي الذي عقده الرسول صلى الله عليه وسلم بين مهاجرين وما معهم من الدنيا شيء والأنصار في ديارهم يملكون الأراضي والمزارع والتجارة الوفيرة يتقاسمونها بكل طيبة نفس وصدق محبة لم ير العالم مثيلاً لها في تاريخه الطويل. والمساجد في المجتمع الإسلامي مكان مقدس شريف يجتمع فيه أهل الحي أو أهل البلدة ليقدموا عبادتهم لرب الناس وفي اجتماعهم هذا يتفقدوا بعضهم بعضاً، يعودون مريضهم ويسألون عن غائبهم مستفسرين عن شؤون أهله مقدمين لهم ما يحتاجونه، وإن كان منهم من أصيب بمصيبة تسارعوا جميعهم لجبر عثرته وإقالته. هذا هو الإسلام في أجمل صوره وأكثرها واقعية.

وحين يفقد العالم روحه واتصاله بالسماء يصبح لمكاتب شركات التأمين مكانة أساسية يقوم بأعمالها أناس مثقفون في صنعة الكلام والإقناع لا يدفعهم إلى العمل سوى حب المادة والتهافت عليها فيتنافسون في التغرير بالمؤمن عليه ليدفع ويدفع من كدّه حتى إذا أتى دورهم في الوفاء هربوا من التزاماتهم وتحايلوا على الزبون المسكين حتى يهرب منهم. وقد حكى لي رجل عادي أنه اشترى سيارة بالتقسيط وأجبر على شراء عقد تامين وحدث أنكُسر زجاج سيارته لسبب لا يعلمه فما كان من موظف شركة التأمين إلاّ إقناعه بشتى الوسائل أن شركة التأمين تقتضي أن يدفع هذا الرجل المسكين مبلغاً أعلى من قيمة الزجاج وهنا خرج الرجل متأففاً من شركة التأمين متكلاً على الله وليشتري الزجاج بنفسه وهو يقول (ليس لهم صنعة غير إجادة الكلام) ناهيك عن العقبات التي تضعها شركات التأمين في سبيل المؤمن عليه لئلا يحصل على التعويض المقرر له وخروجه في النهاية كالرجل الذي ذكرت قصته آنفا.

 وهذه العقبات والمطالبات المتوالية والخداع الذي تقوم ب شركة التأمين يقابله الزبائن بخداع مشابه فلو فرضنا أن الشركة تدفع للرجل قيمة ساعته المؤمن عليها فيما لو ضاعت فماذا تستطيع أن تفعل شركة التأمين فيما لو ادعى صاحب الساعة أنها ضاعت وكان قد أهداها لصديق له، ومثال آخر أن يقوم بتحطيم سيارته ليحصل على سيارة جديدة أو قيمة أعلى من قيمتها.

     إنها الحياة المادية البحتة التي تجعل المجتمع مفككاً يحقد الإنسان على أخيه الإنسان ويستغل الفرص لابتزازه ونهبه، هذه الحياة تبعد الإنسان عن خالقه فيعتمد على ما بيده من مال أو ما تقوم شركات التأمين بتقدمه له فيعيش مطمئناً آمنا من ابتلاء الله يعمل المحرمات لا يخاف فقراً ولا عوزاً والله يقول (أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلاّ القوم الكافرون)

هكذا نرى أن المجتمع المسلم لا يشجع إنشاء شركات التأمين أو التعامل معها بل أكاد أجزم أنه يحرمها وذلك أن الابتلاء سنة من سنن الله، وضرورة لها لتقوى النفوس وتترفع عن الانغماس في المادة الدنيئة الرخيصة وليسمو البشر فوقها ومع ذلك فإن الحكومة المسلمة بالتعاون مع المجتمع المسلم وخاصة إذا كانت ثرية فإنها تتكفل بالضمان الاجتماعي المجزي ولا أدل على ذلك مما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم مع ابنته فاطمة رضي الله عنها حين جاءته تطلب خادماً بقوله (كيف أعطيك وأترك أهل الصفة) أو قال (سبقك أهل الصفة) وكذلك الحادثة التي يرويها المؤرخون عن عمر بن الخطاب رضي الله حين شاهد رجلاً يهودياً يتسول فسأل عن أحواله فقال قولته المعروفة (أخذنا منك الجزية شاباً وتركناك لضعفك في شيخوخته) وأمر له براتب شهري.

فكيف يحتاج مجتمع كهذا إلى التأمين، أسأل الله عز وجل أن يبتعد المسلمون عن الحمى الغربية في كل مجال وأن يعودوا إلى دينهم ففيه كل حاجتهم من تشريع واقتصاد وغيره.

 13/6/1395هـ

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

تلخيص كتاب منهج البحث التاريخي للدكتور د. حسن عثمان

الكلمات النورانية: وتحمل الكل

الإسلام وتعلم اللغات الأجنبية