تقنيات الكتابة والتعامل مع وسائل الإعلام


المقدمة   

الحمد لله الذي علّم بالقلم ، علّم الإنسان ما لم يعلم، والصلاة والسلام على نبي الهدى والرحمة سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد:

                فالكتابة أمر ذو بال فقد أقسم الله سبحانه وتعالى بالقلم وبما يسطرون في قوله تعالى:)ن، والقلم وما يسطرون( وامتدح الملائكة الكاتبين بقوله )كراماً كاتبين( وقد ثمّن علماؤنا الكتابة حتى ورد عنهم من الأقوال في الكتابة ما يؤكد مكانتها عندهم ومن ذلك قول معن بن زائدة:"إذا لم تكتب اليد فهي رجل." وقال سعيد بن العاص:"من لم يكتب فيمينه يسرى." وقال ثالث:"اليد التي لا تكتب فلا دية فيها." وقال المؤيد: "الكتابة أشرف مناصب الدنيا بعد الخلافة، إليها ينتهي الفضل وعندها تقف الرغبة ". وقال صاحب العقد الفريد-ابن عبد ربّه-: "وقد تنبّه قوم بعد الخمول، وصاروا إلى الرتب العلية، والمنازل السنّية."

      ونظراً لأهمية الكتابة عندهم فقد تعجب علماؤنا الأقدمون  من موقف الناس من الكتابة فقد كتب ابن قتيبة (ت 276هـ) يقول:" فإني رأيت أكثر أهل زماننا هذا عن سبيل الأدب ناكبين، وعن اسمه متطيرين ولأهله كارهين". فإذا كان هذا في القرن الثالث والأمة الإسلامية في أوج مجدها وعزتها فما نقول نحن في هذا الزمان الذي يأتي معظم الطلاب إلى الجامعة وهم لا يحسنون كتابة سطر واحد دون أخطاء إملائية أو أسلوبية؟ 

فالإعلام أصبح من الوسائل المهمة جداً لنشر الكلمة الطيبة والدفاع عن الإسلام. وقد عرف أعداء الأمة خطورة هذه الوسيلة فتسللوا إليها وشغلوا مناصبها. ومما يؤكد أهمية الإعلام ما كتبه الرئيس علي عزت بيجوفتش في كتابه الإسلام بين الشرق والغرب وبخاصة التلفاز حيث إن هذا الجهاز أصبح هو الذي يشكل عقول الجماهير. وقد ذكر الدكتور عبد القادر طاش في محاضرته التي ألقاها في أسبوع الندوة هذا العام (رمضان 1418) (معاً على طريق الخير) بعنوان: "البث الفضائي وموقفنا منه"إن العلماء المسلمين وأصحاب الاتجاه الإسلامي تأخروا كثيراً عن الإفادة من وسائل الإعلام، وسبقهم غيرهم."

       وحيث إن هذه المحاضرة حول الكتابة: أدواتها وشروطها فإننا نقدم لها بعدة أسئلة وهذه الأسئلة هي :

أولاً: لماذا أكتب؟

ثانياً : ماذا أكتب؟

ثالثاً: كيف أكتب؟

رابعاً: لمن أكتب؟

خامساً: أين أكتب؟

       وفي ختام هذه المقدمة أود أن أشكر الندوة العالمية للشباب الإسلامي مكتب المدينة المنورة-على تنظيم هذه الدورة فقد كان قبولها لاقتراحي بعقد هذه الدورة سبباً بعد توفيق الله عز وجل في كتابة هذه الصفحات وأشكر الإخوة الذين تشجعوا لحضور هذه الدورة كما أشكر إخواني الأستاذ الدكتور أحمد الخراط والدكتور إسماعيل النـزاري والدكتور أمين المغامسي على مشاركتي في تقديم محاضرات في اختصاصاتهم. كما أشكر أيضاً الدكتور أحمد الخراط على مراجعته لهذه الأوراق وتقديمه بعض المقترحات المفيدة.



أولا: لماذا أكتب؟

          قبل الإجابة عن هذا السؤال، يمكننا أن نطرح أسئلة أخرى وهي لماذا خُلِقْنا؟ وماذا فعلنا لتحقيق الهدف من وجودنا؟ وما هو مصيرنا؟ والإجابة عن هذه الأسئلة يعرفها كل مسلم، فقد خُلِقْنا لعبادة الله سبحانه وتعالى، وواجبنا أن نحقق هذه العبودية في كل ما نفعله وما ندعه. أما مصيرنا فلا نقول ما قاله ايليا أبو ماضي في قصيدته الطلاسم التي يتساءل فيها من أين أتى وأين المصير وما الهدف من وجودهأما نحن فنرجو رحمة الله ونخشى عذابه، نرجو أن يتقبل منّا صالح أعمالنا، وأن يتجاوز عن ذنوبنا.

        إذن فنحن نكتب لأننا أوتينا موهبة ولا بد أن نشكر الخالق سبحانه وتعالى على هذه الموهبة وعلى المنن الكثيرة، فقد منّ علينا بالخلق وبالصحة والعافية، وبالعلم ونقول مع الآية الكريمة )وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها، إن الإنسان لظلوم كفّار( ونحن نكتب لأن كلّ مسلم على ثغرة من الإسلام فالله الله أن يؤتى الإسلام من ناحيته. ولنكن كأبي بكر الصديق رضي الله عنه الذي قال: "الله الله أن يؤتى الإسلام وأنا حي" فقد جعل نفسه مسؤولاً عن هذا الدين.

          ونحن نكتب لأن المسلم مكلف بنشر هذا الدين عملاً بقوله تعالى  )قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعنوقوله تعالى )ادع إلى سبيل ربّك بالحكمة والموعظة الحسنة(وقوله صلى الله عليه وسلم (نضّر الله امرأً سمع مقالتي فوعاها فبلغها إلى من لم يسمعها، فربّ مبلَّغٍ أوعى من سامع ) وقوله صلى الله عليه وسلم ( بلّغوا عنّي ولو آية). ومعلوم عندنا في الفقه الإسلامي قاعدة :"من تعلّم مسألة وجب عليه أن يعلمها".

          ولا بد أن ندرك أن للكلمة قوة أكبر من السلاح، وقد كانت دعوة الرسل والأنبياء عليهم صلوا الله وسلامه بالكلمة . وما دامت الكلمة قوة وكما جاء في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف) وهذه الأمة تواجه حرباً فكرية من الخارج، كما تواجه حرباً فكرية من الداخل من أبنائها الذين تبنوا الفكر الدخيل. ولما أراد العلمانيون والقوميون نشر فكرهم استخدموا كل الوسائل لنشر هذا الفكر. وارجعوا إن شئتم إلى كتاب الدكتور محمد محمد حسين الاتجاهات الوطنية في الأدب العربي فسيذهلكم ضخامة الجهد الذي بذله أصحاب هذا الاتجاه الفاسد. ولا بد أن يسركم أيضاً ما بذله دعاة الفكر الإسلامي.

          فعندما ظهر طه حسين وسلامة جرجس موسى وأحمد لطفي السيد وعلي عبد الرازق وكتبوا كثيراً محاربين للإسلام  انبرى لهم مصطفى صادق الرافعي وضياء الدين الريس ومحمود شاكر وحسن البنا ومحمد الغزالي وغيرهم كثير.



ثانياً : ما ذا أكتب؟

      الكتابة أنواع كثيرة فمنها القصة القصيرة، والمقالة، والشعر، والبحث، والكتاب، وهناك ما يسمى السيناريو والحوار.(وصف المنظر الذي يقع فيه الحوار). ومن الكتابة الأعمال الصحافية المختلفة من إجراء الحوار، والتحقيق الصحافي، والخبر وغير ذلك من فنون الصحافة.

          أما اختيار شكل الكتابة فيعود إلى القدرات والمواهب التي يمتلكها الكاتب، فقد يمتلك  أكثر من موهبة فيكتب الشعر والقصة والرواية والمقالة والبحث والكتاب. وأذكر هنا أن الدكتور نجيب الكيلاني رحمه الله فقد كتب الرواية والقصة والمقالة والبحث. والشيخ محمد المجذوب كتب القصة والمقالة. وأحمد علي باكثير كتب أيضا الشعر، والرواية، والمسرحية، والدراسة. وكتب الشيخ عبد الحميد بن باديس المقالة والقصيدة. وقد أدرك أصحاب الفكر المتغرب من أمثال الدكتور غازي القصيبي أهمية الكتابة فكتب الشعر، والرواية (شقة الحرية، والعصفورية) وكتب المقالة والكتاب. والكتاب المعروف تركي الحمد كتب المقالة وقد نشر روايته الأولى وربما نشر روايته الثانية أيضاً. فنحن أولى منهم باستخدام كل أنواع الكتابة لنشر الفكر الصحيح.

          والدعوة الإسلامية بحاجة إلى جميع أشكال الكتابة فقد استخدم القرآن الكريم القصة في الدعوة فهاهي قصة يوسف عليه السلام تمتلك كل عناصر القصة من أشخاص وأحداث ونقطة ذروة وتشويق. وقد ذكر ذلك الدكتور عبد العزيز قارئ في إحدى خطبه حول سورة يوسف عليه السلام.

      إن السينما العالمية تنتج مئات الأفلام كل سنة تحمل الفكر الغربي ونحن بأمس الحاجة إلى كتاب القصة والسيناريو والحوار، كما نحن بحاجة إلى كتاب القصة والرواية والتحقيق الصحفي والمقالة الصحفية وغيرها. فهل نترك أبناءنا وأنفسنا ضحية للإعلام الغربي أو الشرقي المنحرف؟



ثالثاً: كيف أكتب؟

          يمكن تقسيم هذا السؤال إلى شطرين:أ- كيف نتعلم الكتابة ؟ب- كيف نكتب إذا تعلمنا؟

          أما تعلم الكتابة فهناك الكثير من المصادر التي تناولت هذه القضية وأبدأ بذكرها وهي:

1- أدب الكاتب . أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة . تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد.

2- صبح الأعشى في صناعة الإنشا. أبو العباس أحمد بن علي القلقشندي. وبخاصة المجلد الأول.

3- جواهر الأدب . أحمد عبد الحميد الهاشمي .

4- لجام الكتّاب. أبو تراب الظاهري.

5- كبوات اليراع. أبو تراب الظاهري.

وقد وجدت أن الكُتّابَ الأقدمين يؤكدون على القراءة والقراءة و القراءة. فهم يرون أن الكتابة ليست مجرد القدرة على صياغة الأفكار في مقالة أو قصة، ولكن الكاتب في نظرهم يكاد يكون علاّمة في معايير عصرنا ذلك أن هممَنا ليست مثل هممهم. وممن تناول الإعداد للكتابة أحمد الهاشمي حيث يحدد أن تعلم الكتابة يتطلب قراءة كتابات الأقدمين ومن ثَمّ تقليدها، وهذا في نظره أدنى المراتب. ويمكن للكاتب أن يبدأ بالمزج بين أسلوب الأقدمين وأسلوبه الخاص. وأما أصحاب الهمم العالية فإنهم يحفظون القرآن الكريم ودواوين فحول الشعراء ويكتبون على غير منوال سابق.

       وقد أكد الأستاذ محمد قطب على قراءة القرآن فقد سأله أحد الطلاب سؤالاً بعد إلقائه محاضرة في التربية الإسلامية. وكانت لغة السؤال ركيكة ،فقال للطالب: "يا بني اقرأ القرآن الكريم يستقم لسانك."

          ونجد تفصيلاً للقراءة والعلوم التي ينبغي على الكاتب الإلمام بها فيما كتبه ابن قتيبة :حيث ورد في كتابه ما نصّه:" وبُدّ له -مع ذلك-من النظر في جمل الفقه ومعرفة أصوله من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته كقوله: البينة على من ادعى واليمين على المدعى عليه، وجرح العجماء جبار، ولا وصية لوارث... ولا بد له -مع ذلك- من دراسة أخبار الناس، وحفظ عيون الحديث ليدخلها في تضاعيف سطوره متمثلاً إذا كتب."

          وصاحب (صبح الأعشى) أراد من كتابه أن يكون دليلاً لمن يعمل في ديوان الإنشا فإذ به يخرج لنا موسوعة تحتوي معارف مهمة في التاريخ والجغرافيا والسياسة والاقتصاد والأدب واللغة. فلله در علمائنا يعتقدون أن الكاتب يجب أن يكون علاّمة، وهذا يتطلب همماً عالية. وأنقل هنا نصيحة من أحد أساتذة أبي حيث قال له: "إذا وجدات ورقة في الأرض فالتقطها وليس عليك أن تقرأ كلَّ ما فيها بل اقرأ أول كلمة من كل سطر فإن كانت ثلاثة أسطر تعلمت ثلاثة كلمات أو تعلمت كلمة في استعمال جديد لم تألفه".

     ومن الكتب التي ينصح للمبتدئين أو حتى المتقدمين في الكتابة بقراءتها ما يأتي:

كتب مصطفى لطفي المنفلوطي،  النظرات والعبرات، وماجدولين أو تحت ظلال الزيزفون، وغيرها من كتب المنفلوطي. فقد عرف عن المنفلوطي اهتمامه باللفظ الجميل المعبر. وينبغي قراءة كتب مصطفى صادق الرافعي وبخاصة في كتابه من وحي القلم، فمن نصائح الدكتور أحمد الخراط أن تقرأ صفحة كل يوم وبصوت مرتفع. فالرافعي صاحب أسلوب رفيع يختار الألفاظ الجزلة والعبارات الدقيقة، وفي  كتاباته عمق. ولتقرأ المازني. ولا تنس أن من الكتب التي تعلم الأخيلة الجميلة والمعاني العميقة كتاب (كليلة ودمنة) وكتب الجاحظ فهو من كتّاب العربية الكبار مع بعض الانحرافات العقدية في بعض كتاباته.

          قراءة تحتاج إلى صبر وجلد وحتى تنمو لديك هذه الموهبة ابدأ بالقصص والروايات فإن أسلوب التشويق فيها والمتعة تمسك بك لتقرأ وتقرأ، ثم تنتقل إلى الأنواع الأخرى من القراءات. والحمد لله أن توفرت في أيامنا هذه الروايات الإسلامية الجيدة التي تضارع وتتفوق على غيرها ومن ذلك روايات الدكتور نجيب الكيلاني رحمه الله، وكتابات أحمد علي باكثير، وكتابات محمد المجذوب. أما في الأيام التي تعلمنا فيها القراءة فكانت كتابات إحسان عبد القدوس، ونجيب محفوظ، ويوسف السباعي، ومحمد عبد الحليم عبد الله. وهذه الكتب مليئة بالأفكار المنحرفة. ومن تجاربي الشخصية أنني أمضيت ثماني ساعات أقرأ قصة سجين زندا أو رجل الطيور في سجن ألكتراز -وكانت باللغة الإنجليزية- كما قرأت بتلك اللغة كتابات تشارلز ديكنز وهرمان هيسه. وبعد أن تتعود القراءة الأدبية ثم تدخل إلى القراءات الجادة التي تحتوي الدراسات قد لا تجد متعة إلاّ في الدراسات والبحوث.  

ومع القراءة يجب أن يحرص على البحث عن وسائل المعرفة الأخرى مثل السفر فقد قالوا كثيراً في السفر منها قول أحدهم: سافر ففي الأسفار خمس فوائد.... وقول الآخر سافر تجد عوضاً عمن تفارقه .... وبالإضافة إلى السفر فهناك وسائل الإعلام المختلفة مثل الإذاعة والتلفاز والاختلاط بالناس ومعرفة همومهم ومشكلاتهم وتطلعاتهم .

          أما الكتابة الفعلية فتتطلب إعمال الذهن فيما تريد أن تكتب فإما أن نكون قد أعددنا في أذهاننا ما نريد قوله كما جاء في قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه يوم سقيفة بني ساعدة حيث قال :زورت في نفسي كلاماً أريد أن أقوله فتكلم أبو بكر الصديق فقال كلاماً أحسن مما زورت. (لله درهم كيف تكون المحبة)، فهنا ما أن يلامس القلم الورقة أو تبدأ طرقاتنا على أصابع الحاسوب حتى تتوالى الأفكار. وقد تكون لدينا فكرة موجزة ولكننا لا نعرف التفاصيل، وهنا لا ينبغي أن ننتظر حتى تكون الفكرة كاملة في أذهاننا حتى نكتب. وينقل أبو العينين في كتابه الكاتب والأفكار عن أحد الغربيين (هوايتهد) قوله:"أما ضرورة الكتابة المستمرة والتعبير والصوتي فهما من حوافز ملكة التفكير بين أصحاب المهن الحرة وكبار القراء، فهم مفكرون لا بجرأة لديهم يلتزمون المحافظة، ولا شك أن هذا راجع إلى طغيان المعرفة عندهم على ملكات التفكير من جهة، ومن جهة أخرى لافتقارهم إلى المنبه الذهني عن طريق النشاط الذي يكون نتيجة اليد والصوت." ويضيف أبو العينين "وكثيراً ما يبدأ الكاتب كتابته عن موضوع من الموضوعات وهو لا يذكر شيئاً بالذات يريد كتابته أو هو يذكر شيئاً ولكنه غير واضح في ذهنه، ولكن عندما يبدأ في الكتابة يبدأ في التفكير الجدي فتسعفه الأفكار وتتداعى المعاني في ذهنه ويسيل لعاب القلم بما يغريه في الاستمرار في الكتابة فيكتب ويكتب، والكتابة تغري بالكتابة." (ص15).

ومن التجارب الشخصية في هذا المجال أنني كنت أمرُّ قريباً من ساحة موقف حافلات الحجاج (مركز تفويج الحجاج في المدينة المنورة) فخطرت لي عبارة (حافلات على مد النظر أو على مد البصر) فدونتها في ورقة-وما كنت بحاجة لذلك-وبعد أيام جلست إلى مكتبي فكتبت مقالة من صفحتين حول هذا الموضوع. وفي مثال آخر أنني كنت أستمع لإذاعة لندن فلفت انتباهي برنامج عن الكتب فدونت ما قيل عن الكتاب والمؤلف. وبعد أيام كتبت مقالة عنونها محرر الصفحة الإسلامية بجريدة المدينة المنورة  (آه منك يا إذاعة لندن) وجاءني الرد من عارف الحجاوي -المشرف على قسم المنوعات -بعد ثلاثة أيام فقط.

          ويرى الشيخ ابراهيم سرسيق-كان مشرفاً على الصفحة الإسلامية بجريدة المدينة المنورة- أنه لا يكتب مباشرة بل يضع الفكرة في قصاصة صغيرة ويتركها عدة أيام حتى تختمر الفكرة في ذهنه وتستوي أو تنضج ثم يكتبها. ويبدأ بعد ذلك بالمراجعة والتنقيح.

          أما العملية الفعلية للكتابة فيقول الهاشمي (جواهر الأدب) أن أركان الكتابة أربعة:

1-  حسن المطلع ويقول: "فإن الكاتب من أجاد المطلع والمقطع " وقد قرأت عن المقالة الصحفية أن الجملة الأولى هي المقالة كلها. فإن عرف كيف يجذب الكاتب القارئ من أول جملة استطاع أن يشده لقراءة المقالة كلها.

2- الانتقال من معنى إلى معنى، فلا بد من جودة الربط والتسلسل المنطقي في الانتقال من فكرة إلى فكرة فكأنما الإنسان في بستان ينتقل من روضة إلى روضة، أو من زهرة إلى زهرة.

3- اختيار الألفاظ والابتعاد عن العبارات المستهلكة وأضرب المثال ببعض هذه العبارات فمنها:

مما لاشك فيه ...والكل يعرف... ولا شك أن ...ومن الجدير بالذكرومن الجدير بالملاحظة. فعلى الكاتب أن يعرف حين يختار ألفاظه ويضعها في الموضع المناسب . وكم من كاتب يستخدم الألفاظ السهلة ولكنه يضعها في قالب جميل فيضفي عليها من استعماله رونقاً وجدّة وجمالاً.

4- المراجعة أو التهذيب وهو ما أطلق عليه الأقدمون ترداد النظر فيما تكتب. وممن عرف بالمراجعة والتنقيح لما كتب زهير بن أبي سلمى والنابغة الذبياني وغيرهما حتى أطلق عليهم شعراء الحوليات. فزهير كان يكتب القصيدة في أربعة أشهر ويعيد النظر فيها في أربعة أخرى ثم يعرضها على أصدقائه أربعة ثالثة ويعلنها بعد تمام الحول. وقد انتقدني أستاذي الشيخ إبراهيم سرسيق بأنني لم أكن أراجع ما أكتب حينما كنت أمارس الكتابة في الصفحة الإسلامية بجريدة المدينة المنورة. وعندما أرجع الآن إلى مقالاتي في تلك الأيام أجد أنها سيئة جداً من حيث الصياغة فلا تقسيم للفقرات، أو ترابط الأفكار أو غير ذلك.

          ومما يدعو إلى الإجادة في الكتابة أن تشعر في كل مرة وأنت تكتب أنك تكتب للمرة الأولى، فإنني أجد هذا الشعور كثيراً، وكما قال لي أحدهم بأن هذا يدعوك إلى الإجادة في الكتابة. ومما يضاف هنا أن الإنسان لا يستغني عن مشورة من هو أعلم منه أو حتى من أقرانه فابحث عمن يقرأ لك. فقد كان علماؤنا يقرأون على أقرانهم وعلى تلاميذهم. والكتابة تعلم كما هي موهبة. ومما يذكر بالخير للدكتور الشيخ عبد الله الرحيلي أنه عندما كان مديراً للمعهد العالي للدعوة طلب من الأستاذ الدكتور أحمد الخراط أن يقدم دورة في اللغة العربية للمعيدين والمحاضرين وحث الدكتور عبد الله الجميع على الالتحاق بهذه الدورة التي استمرت أربعة أشهر وكان بمعدل ثلاث ساعات كل أسبوع، وتضمنت الدورة دراسة نص من القرآن أو الحديث أو أبيات من الشعر نقوم بإعراب النص إعراباً كاملاً ونستخرج منها القواعد النحوية والإملائية والأسلوبية. وما زلت حتى اليوم -بعد أن أصبحت كاتباً محترفاً- أعود إلى الدكتور الخراط ليقرأ ما أكتب. وهذه المحاضرة عرضتها في صياغتها الأولى على زميل في كلية الدعوة فانتقدها نقداً شديداً جعلني أعيد صياغتها من جديد حيث لم تكن أفكارها مرتبة ولم أراع فيها حسن الانتقال من فكرة إلى فكرة.

        واحرص عندما تكتب أن تكون مقبلاً على الكتابة فلا تكتب إذا شعرت بالملل والضجر. وقد تستطيع أن تتغلب على مثل هذا الشعور إذا عوّدت نفسك على الكتابة المستمرة ونقل الشيخ عبد الله أبو العينين عن كتاب ديل كارينجي في كتابه الخالدون أن برنارد شو كان يكتب خمس صفحات يومياً، حتى لو لم يكن لديه ميل للكتابة. ومما يذكر عن علمائنا أنهم كانوا يكتبون الكتاب في جلسة واحدة أو في ليلة واحدة أو أثناء الحج أو غير ذلك وقد كتب ابن تيمية الرسالة التدمرية في وقت قصير. وقد كتب صاحب هذه السطور كتاباً (صغيراً) في خمسة أيام ( من 5إلى 9 ذي الحجة 1409)وهو  الغرب في مواجهة الإسلام

          ومما يروى عن نجيب محفوظ أنه يلزم نفسه بالكتابة يومياً فيبدأ في وقت مبكر من النهار فيكتب ويكتب.   

          ومما يعد جزءاً من الإجابة عن هذا السؤال أنك إذا أردت أن تكتب فلا بد أن يكون لديك شيئاً تقوله . فكما قال الشاعر:

                    فإن لم تجد قولاً سديداً تقوله     فصمتك عن غير السداد سداد.

وما زلت أذكر حينما كنت منتسباً لورشة الكتّاب بجامعة أريزونا عام 1392هـ قول أحد الزملاء: "إنني إذا لم يكن لدي ما أقوله فلن أكتب شيئاً." ولا بد أن نذكر قول الرسول صلى الله عليه وسلم :" قل خيراً وإلاّ فاصمت " وقوله :"من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه" وعلينا أن نعرف أن "ليس كل ما يعرف يقال." وثمة حديث شريف :" كفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما سمع." ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قيل وقال وكثرة السؤال. 

          والأمر الذي يميز الكاتب المسلم عن غيره الصدق في الحديث فهو يعلم أن كلَّ كلمة يقولها محسوبة عليه ) ما يلفظ من قول إلاّ لديه رقيب عتيد( والصدق خلق أصيل في المسلم فكما قال صلى الله عليه وسلم (إن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وما زال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صدّيقا، وإن الكذب يهدي إلى الفجور ،وما زال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً) ولا بد أن نتذكر قول الرسول صلى الله عليه وسلم بأن العبد يقول الكلمة من رضوان الله لا يلقي لها بالاً فيرتفع فيها درجات، وإنه ليقول الكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً فتهوي به في النار سبعين خريفاً.( أو كما قال صلى الله عليه وسلم)

          ومما يحدث عندما نبدأ طريقنا في الكتابة أن تغرينا الشهرة والأضواء فنقول كلاماً لا نعتقده أو نعتقد عكسه فنقع في سخط الله عز وجل كما قال صلى الله عليه وسلم (من أرضى الناس في سخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس، ومن أسخط الناس في رضوان الله رضي الله عنه وأرضى عنه الناس.)



رابعاً : لمن أكتب؟

          إن الجمهور الذي نختار الكتابة إليه هو الذي يحدد أسلوب الكتابة الذي ننتهجه فإن كنّا نكتب في الصحافة فعلينا أن نختار الموضوعات التي لها طابع السيرورة والسهولة في الطرح والتناول. وقد نحدد نحن هذا الجمهور بأن نكتب في مجال معين فيكون خطابنا خاصاً بهذا الجمهور. وإذا عرفنا جمهورنا فعلينا أن نراعي مقتضى الحال فقد ورد عن الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين بأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يتخيرهم بالموعظة. ولنذكر قوله صلى الله عليه وسلم :(خاطبوا الناس بما يفهمون أتريدون أن يكذب الله ورسوله؟)



خامساً : أين أكتب؟

        إن الكاتب صاحب الاتجاه الإسلامي قد لا يجد كثيراً من الأبواب مفتوحة له، ولكن لا ينبغي أن يكون هذا مثبطاً له. فإن التخصص في مجال من المجالات أو الإجادة في التخصص قد يجعلك مرجعاً تفتح لك الأبواب رغماً عن أصحاب الاتجاهات الأخرى.فقد اجتهد الشيخ الغزالي رحمه الله وكتب لمجلة "سيدتي" وهو أمر قد لا يوافقه عليه بعض الناس، ولكنها وجهة نظر فلعله رحمه الله اعتقد أن المرأة بعد أن تمل من الأزياء والطبخ وأخبار الفنانين والفنانات وأخبار الجريمة، قد تلتفت إلى ما يقوله الغزالي فتقرأ كلمة. ولعل الغزالي رأى أن من السنّة أن يحمل الإنسان دعوته إلى المدعوين فقد كان صلى الله عليه وسلم ينتقل بدعوته إلى القبائل حينما تقدم إلى مكة في مواسم الحج ، كما ذهب صلى الله عليه وسلم إلى الطائف، والتقى بنفر من أهل يثرب سراً في منى .

        وأذكر أنني كتبت حوالي سنة في جريدة "عكاظ وكنت أتأنق في الكتابة لعلمي بأن عليّ أن أكون متميزاً حتى أستطيع الاستمرار. وبالرغم من توقفي عن الكتابة لديهم -رغماً عنّي-لكنهم يتصلون بي أحياناً عندما يكون لديهم موضوعات خاصة أو استطلاعات للرأي.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

تلخيص كتاب منهج البحث التاريخي للدكتور د. حسن عثمان

الكلمات النورانية: وتحمل الكل

الإسلام وتعلم اللغات الأجنبية