الفوز بالبعثة إلى الولايات المتحدة الأمريكية



        نجحت في اختبار الثانوية العامة بتقدير 71 % وكان ترتيبي 99مكرر من بين الناجحين وعددهم سبعمائة، وهم نصف من تقدم للامتحان أي أن النجاح في تلك الأيام الخوالي لم يكن سهلاً (مدرسة لأبناء الطبقة الثرية تقيم حفلاً لطالباتها قبل نهاية العام الدراسي باعتبارهم ناجحات) كما أن الاختبارات كانت في لجان عامة خارج المدرسة ويعطى كل طالب رقم جلوس ولكل طالب رقم سري يرتبط برقم الجلوس.
        وعلى الرغم من أن مشواري العادي كان فوق مستوى السبعين في المائة لكن هيبة الاختبارات العامة كان يجعلني أتراجع عن مستواي الحقيقي. والأيام تصدق ذلك، وبعد النجاح كان لا بد من البحث عن الابتعاث حيث وصلت برقية من زوج عمتي العقيد صلاح بن محمد مطبقاني يخبر والدي بوجود بعثة لي من وزارة الدفاع والطيران، فسافرت إلى الرياض وكانت إما داكوتا أو دي سي 6. وفي تلك الأيام كان الركوب في الطائرة أمراً غريباً فيمكنك أن تحصل على مقعد بأقل من السعر الرسمي للتذكرة ولكنك تضطر للانتظار حتى يركب جميع الركاب وتعطى بطاقة صعود باسم شخص آخر وكان في تلك الطريقة مهينة إلى حد كبير حيث يظل الراكب الذي لم يشتر التذكرة بالطريقة الرسمية وكانت غالية الثمن، والسفر براً مغامرة خطيرة. وكانت الطائرات تتأخر كثيراً ولذلك فبعض الناس كانوا لا يأتون إلى المطار إلاّ بعد أن يتلقوا خبراً أن الطائرة وصلت حيث إن المطار ليس بعيداً فيكفي ربع ساعة للوصول من أي مكان في المدينة المنورة.
        كانت البعثات لدراسة الطب في النمسا والهندسة في أوروبا وأمريكا والبعثات التي تقدمت إليها كانت في وزارة الدفاع وبدأت الإجراءات وكان من ضمنها مقابلة شخصية وتحريات لا أول لها ولا آخر لها. وكانت المقابلة الأخطر  مع العقيد طيار صالح السديس الذي سألني ماذا كان يفعل والدك في الأردن؟ هل كان يعمل في الحكومة السعودية أي السفارة أو كان عسكرياً؟ فأخبرته أنه عمل في الحكومة الأردنية في إدارة المشاريع التي كان يطلق عليها (النافعة)، وربما كان ينبغي أن أقول له إن والدي كان  تاجراً أو أي شيء آخر. ولكن لم أحصل على المنحة. وهنا تقدم عمي محمد الذي كان مدير عام التعليم الفني بالتوسط لدى وزارة المعارف لابتعاثي وأحمد سمباوة وحسين عبد الله أبو الطاهر للدراسة في الولايات المتحدة الأمريكية الإدارة الصناعية.
        بدأت إجراءات السفر بالحصول على جواز سفر ولدى أحد الموظفين في الجوازات لم يسألني كيف تكتب اسمك بالأحرف اللاتينية بل أخرج ورقة من درجه وكان فيها أسماء بعض الأسر في المدينة الذين كان من الممكن أن يحصلوا على جوازات سفر فلم يكن أمامي غير القبول، وهي ثقافة القبول أو الرضوخ لما يقوله المسؤول الحكومي. حصلت على الجواز وعلى ختم الإذن بالسفر من المكتب السري.
        وليلة سفري إلى جدة ومنها إلى أمريكا اجتمعت الأسرة وكان ضمن الحاضرين الجدّة أم عصام (فاطمة عزوز) رحمها الله وعمي عصام رحمه الله ووالدي بالطبع ووالدتي وأبناء العمومة، وأذكر أنه كان أمام بيتنا دكّة وكان الجو خريفياً ممتعاً في المدينة وسهرنا وفي ختام السهرة قدّمت لي بعض الهدايا والنقود. وحملت نقوداً لم أعرفها من قبل، وكان اليوم التالي بداية مسؤوليتي عن نفسي وما أصعبها من مسؤولية. ولكن كان هذا هو أسلوب التربية المتبع حينها.
        وفي جدة أقمت مع زميلي حسين عبد الله أبو الطاهر في فندق الحرمين في منطقة باب شريف، وحصلنا على التأشيرة من السفارة الأمريكية ثم انطلقت بنا الرحلة إلى بيروت حيث أقمنا في فندق في ساحة الشهداء. وتذوقنا الأكل اللبناني حتى إني ما زلت أقول إن صحن فول في بيروت ألذ من خروف كوزي في بلاد أخرى. وكان يرافق صحن الفول النعنع والبصل والفجل والفلفل الحار. وفي تلك الساحة كان المصورون يتجولون لالتقاط الصور التذكارية للسواح وكان من الصعب أن تعطي أموالك لشخص لا تعرفه ولا تدري هل سيأتي بالصور أو تضيع عليك الصور. وقد عرفت فيما بعد أن المدن السياحية يكثر فيها النصب واللصوصية.
        وكانت الرحلة بعد يومين أو ثلاثة إلى لندن عن طريق جنيف حيث بقينا ليلة ما تزال عالقة في ذهني تلك الخضرة الرائعة والترتيب البديع، ولم أعد إلى جنيف زائراً منذ تلك الرحلة عام 1388ه ـ(1968م). ومن جنيف رحلنا إلى لندن وكان مع حسين عناوين لشقق في لندن وكانت في طريق الملكة.
        وصلنا نيويورك حيث نزلنا في فندق يتكون من أكثر من ثلاثين طابقاً. ورأيت البنايات الشاهقة والشوارع الواسعة والسيارات الكثيرة وقطارات الأنفاق والحافلات وسيارات الأجرة الصفراء. فإن لم تصبنا الصدمة الثقافية هنا فأين كانت ستصيبنا؟ وخرجت من الفندق وحدي أبحث عن مكتب البرقيات لأبعث لوالدي برقية بوصولنا نيويورك. وعثرت على المكتب بعد سؤال بعض المارة أو رجال شرطة. وأرسلت البرقية وكانت بتاريخ 25 رجب 1388هـ. وكان لا بد من زيارة مكتب الملحق الثقافي لتوجيهنا إلى برنامج اللغة فاختار لنا الملحق برنامج اللغة في معهد في مدينة لوس أنجلوس. ووصلنا مطار لوس أنجلوس فكان في استقبالاً رجل دين بلباس مدني ما زلت أذكر اسمه وهو إيمري Emery الذي صحبنا إلى فندق بجوار المدرسة وفي اليوم التالي أخذنا إلى بنك أمريكا لنضع ما لدينا من مال ليعطونا دفتر شيكات وهو أول دفتر شيكات أراه في حياتي.
        وكان لرجال الكنيسة التي تسمى كنيسة الباب المفتوح اهتمام بالطلاب الأجانب حيث  أقاموا نادياً اجتماعيا فيه مكتبة وتلفاز وبعض الألعاب كالتنس. وكان يأتيهم عادة الطلاب الأجانب الأسيويين. وكنت ممن يتردد على هذا النادي لأنني لم أكوّن صداقات مع الطلاب العرب ولم يكن يستهويني بعض نشاطاتهم. حتى إنني اتفقت مع رئيس الكنيسة أن أسكن معه في بيته. وكان يوصلني في الصباح وأجد حافلة بعد الظهر. وكانت المنطقة التي يسكنون فيها من أجمل مناطق لوس أنجلوس حيث تقع في شارع يتفرع من شارع لوس أنجلوس المشهور ولشيار Wilshire Blvd. وهو الذي يقع عليه الفندق الذي اغتيل فيه روبرت كينيدي. ويمتد من وسط لوس أنجلوس حتى مدينة سانتا مونيكا على البحر بمسافة 26 كيلو متر (16 ميل) ويوصل من شرق المدينة إلى غربها. وقد سرت في هذا الشارع مرات ومرات وقد قطعته كاملاً مشياً على الأقدام.  
        وكان لهذا النادي رحلات إلى مناطق قريبة ومنها رحلة إلى منطقة الوادي العميق في ولاية أريزونا. ولكن رحلات هؤلاء كانت تمر بالكنائس والحديث التنصيري الفج أحياناً حيث مررنا بكنيسة وأتوا بشخص اسمه محمد تحول أو ارتد إلى النصرانية تحدث عن عظمة النصرانية وأنه وجد فيها الراحة والطمأنينة وغير ذلك. وقد كان ذلك يزعجني ولكن النادي أو الكنيسة كانت توفر لي فرصة تعلم اللغة الإنجليزية ورؤية أماكن ما كان بإمكاني أن أزورها وحدي.
        وبعد شهرين من السكنى مع رئيس الكنيسة دار حديث بيننا عن فلسطين فأخبرته بحديث الرسول صلى الله عليه وسلم (تقاتلون اليهود على الأردن (نهر) أنتم في شرقيه وهم في غربيه، حتى يقول كل شيء يا مسلم يا عبد الله ورائي يهودي تعال فاقتله إلاّ شجر الغرقد فإنه من شجر اليهود) وهنا وقعت الطامة حيث أخبرني أنه لا يؤمن بوجود نبي أو رسول بعد عيسى عليه السلام. فقلت هذا فراق بيني وبينك، أن تدعو إلى دينك أو تعلي شأنه فأنت وشأنك أما أن لا تعترف برسولنا صلى الله عليه وسلم وتصر على حق اليهود في فلسطين والقدس فأمر آخر، وقررت مغادرة منزله وكان.
وعندما ذهبنا إلى المدرسة أجري لنا اختبار مستوى فكان نصيبي المستوى الثاني ووضع الآخرون في المستوى الأول. وبعد انتهاء المستوى الثاني انتقلت إلى المستوى الثالث الذي كتب أستاذ هذا المستوى في تقريره عن مستواي: " يمكن للطالب أن ينتقل إلى المستوى الخامس دون أن يمر بالمستوى الرابع" ولمّا عرفت ذلك لم أكن متحمساً في المستوى الرابع فلم أفد كثيراً، ولكن المدرسة فيما يبدو كانت تريد أن تكسب رسوم المستوى الرابع أو كان لهم رأي علمي. المهم أكملت المستويات كلها ودخلت اختبار ما يسمى اختبار ميتشجان وكانت درجاتي تؤهلني للدراسة الجامعية، ولكن الملحق رأى أن أواصل دراسة اللغة فليس معتاداً أن يكمل الطالب الدراسة من 20 أكتوبر إلى مارس دراسة اللغة فأرسلوني إلى مدينة كورفالس ولم يعجبني ذلك فنقلوني إلى مدينة بورتلاند وكان الطلاب المتميزين الذين حصلوا على أعلى درجات في المرحلة الثانوية مازالوا يدرسون اللغة، فتعجبوا أنني سبقتهم في اللغة وبإمكاني الالتحاق بمواد في الجامعة وكان ذلك أن سجلت في مادة في الجغرافيا، ولكن كان علي أن أدرس بعض المواد في اللغة مثل الكتابة والقراءة السريعة. وفي مادة الكتابة كان لدينا واجب عن استخراج الجملة الأساسية في الفقرة وغير ذلك وأنجزت الواجب بسرعة فكتبت الأستاذة: أرجو أن تستغل قدراتك فأنت بالإمكان أن تكون طالباً ممتازاً" ولكني كنت قد بدأت مرحلة الضياع، غياب المرشد الأمين والموجه. ومع ذلك فما أن انتهت السنة حتى كنت قد حصلت على موافقة من كلية وسط أوريجن المتوسطة (مدتها سنتان وتعطي مواد عامة) في مدينة بند. وفي عام 1969م كان عدد سكان المدينة (القرية لا يتجاوز ثلاثة عشر ألف نسمة) وهم الآن يزيدون على ست وسبعين ألف، وترتفع فوق سطح البحر ب 3625قدم. وأذكر أن الثلج كان يبقى أكثر من خمسة أشهر.
بدأت الدراسة في هذه الكلية مسجلاً في عدد من المواد الدراسية منها علم النفس والجغرافيا والرياضيات والفيزياء، وكان مستواي العلمي فوق الجيد وكنت أعد نفسي لدراسة المواد المؤهلة لبرنامج دراسة الطب. ومن الأساتذة الذين درست معهم أستاذ علم النفس واسمه دينيس لاد Dennis Ladd وكان يعطينا المحاضرات أحياناً خارج قاعات المحاضرات على العشب الأخضر حين يكون الجو ربيعاً مشمساً وكانت أولى خطوات البحث العلمي في هذه المادة حيث أعددت بحثاً عن التفرقة العنصرية في أمريكا تعلمت كيف أبحث في المكتبة وكيف أبحث في فهارس المجلات وكيف أعد الاقتباسات والمراجع وغير ذلك.
أقمت في هذه المدينة عند أسرة في منزل مكوّن من طابقين على الطريق إلى الكلية حيث كنت أذهب مشياً على الأقدام، وهو بيت مبني من الخشب وعلمت أن المنطقة كانت للطبقة المتوسطة العليا حيث فهمت أن المنزل كان يسوى خمسين ألف دولار (في تلك الأيام) وعلى الرغم من أنه من الخشب لكنه كان مجهزاً تجهيزاً راقياً فكان فيه على سبيل المثال مكنسة كهربائية مركزية حيث لا تحتاج إن تنقل المكنسة الكهربائية من مكان إلى مكان حيث كل ما في الأمر أن تربط أنبوب في الجدار وتدير الكهرباء. أما صاحب المنزل فكان عالماً متخصصاً في المحافظة على الطيور حتى إنه فاز بجائزة قومية تسلمها من الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون في مدينة بورتلاند. وكان قليل الكلام وعلمت أنه كان يكتب مقالات لمجلات علمية وفهمت أنه يحصل على مكافأة خمسمائة دولار مقابل المقالة الواحدة، وهو أمر لم نصل إليه بعد.
لاحظت أن علاقته بزوجته اتسمت بالمودة واللطف فلم أشهد خصاماً أو جدالاً أو عراكاً بل انسجام وتفاهم. وكان لهما ولد وبنت قتل الولد في حادث سير بسبب الثلوج في المنطقة وهنا رغبت الأسرة أن يكون لديها طالب أجنبي كأنه تعويض عن فقد ولدهم، وهذا ما لمسته في تعاملهم معي ومع زميلي محمد الرجراجي الذي أحب أن يسكن مستقلاً فيما بعد. كما أن طريقة تقديم الطعام كان فيها شيء من الاقتصاد، فالإفطار لا يزيد على بيضة واحدة وقطعتي خبز، وكان الغداء قطعة لحم أو حساء أو غير ذلك. وكانت المعاملة رسمية في البداية ومع مرور الوقت أصبحت واحداً من الأسرة حتى إنهم رغبوا في قضاء إجازة في ولاية كاليفورنيا، وكان بإمكانهم  أن يطلبوا مني أن أبحث عن سكن بديل ولكنهم تركوني في المنزل وإن كانوا أعطوا المفتاح لأصدقاء لهم هم أسرة البيوكانن Buchanan   الذين جاءوا ذات مساء ففتحوا الباب دون أن يطرقوا الجرس وهذا أثار غضبي واحتجاجي، وقد اعتذروا عن أصدقائهم.
أما بند فكانت قرية جميلة تكثر فيها الغابات وأشجار السرو والصنوبر وفيها جداول مياه في كل مكان بالإضافة إلى وجود الثلوج على الأرض وأماكن التزلج حتى إنك لا بد أن ترى عدداً من أصحاب الأيدي أو الأرجل المكسورة بعد نهاية الشتاء.
وبعد أن  أتممت السنّة الأولى تطلعت إلى الالتحاق بجامعة كبيرة فما كان مني إلاّ أبحثت عن تسجيل مواد دراسية في الصيف وكانت الجامعة الأقرب هي جامعة أوريجن الكبيرة فسجلت مواد في علم الأحياء ومختبر علم  نفس والكتابة الإبداعية. وفي مادة علم الأحياء كانت القاعة تزدحم بعدد كبير من الطلاب يزيد على مائة وخمسين طالباً وكانت المحاضرة عن الفصل بين العلم والدين وأصرت الأستاذة أن الدين لا دخل له بالعلم  وربما أكدت على صحة نظرية دارون في النشوء والتطور، وكان للمادة ساعة مختبر يدرسها شاب إنجليزي ولكنها لم تكن علمية مائة بالمائة حيث كان من بين الموضوعات النمو السكاني أو تحديد النسل وتأكيد النظريات الغربية. وكان لدينا واجب أن نكتب موضوعاً عن تحديد النسل فكتبت على عجل إن الغرب إذا استمر في تحديد النسل فسيأتي اليوم الذي يزيد فيه عدد كبار السن المتقاعدين ويقل عدد الشباب المنتج مما يكلف ميزانيات تلك الدول الكثير. فأعجب الأستاذ بإجابتي وكتب لي تعليقاً: "أنت تفكر جيداً ولكنك غير منظم"
ومن المواد التي غامرت بالتسجيل فيها مادة (الكتابة الإبداعية) وحضرت المحاضرات، وكتبت ما ظننته إبداعاً فكتب لي الأستاذ ذات مرة:"كتابتك سليمة لغوياً وقواعديا ولكنها غريبة" ولا بد أن الغرابة فيما كتبت هو ما أستخدمه من تركيبات وخيالات مرجعها إلى ثقافتي العربية أو شخصيتي المختلفة عن بقية التلاميذ.
أحببت جامعة أوريجن في مدينة يوجين على الرغم من أمطارها الدائمة وربما أعجبني فيها أنها كانت من الجامعات التي كان الوعي السياسي فيها مرتفعاً وكانت من الجامعات التي شهدت حراكاً طلابياً حتى إني حضرت جلسة استماع لأحد الأساتذة المتهمين بتحريض الطلاب على الاحتجاج والاعتراض على وجود طلاب القوات المسلحة (ROTC) ولقيت فيها بعض الطلاب من السعودية الذين كان اللقاء بهم ممتعاً فكريا على الرغم من أننا اختلفنا مع مرور الزمن ومن هؤلاء الدكتور عبد الله المعجل الذي كان في القسم الأدبي في الثانوية ولما سخر منه أحد زملائه في مرحلة اللغة الإنجليزية بأنه أدبي ولا يفهم في الرياضيات مما جعله يحصل على الدكتوراه في الرياضيات وهو صاحب رواية لم أقرأها ولكن مما أذكره أنه كان ممن يتبنى أفكاراً علمانية وتحررية على تصنيف البعض.
وانتهى الصيف ولم أحظ بالقبول في جامعة أوريجن لأنهم كما ادعوا لم يكن لديهم التمويل الكافي أو الميزانية لقبول طلاب أجانب. فكان انتقالي مع الزميل مصطفى صالح جلالي إلى مدينة تمبي، ومصطفى كان هاوياً لعزف العود والكمنجة ومحب للدراجات النارية والسرعة العالية في قيادة السيارات ولكنه رفيق لطيف انقطعت بيني وبينه الاتصالات بعد عودتي إلى البلاد ولكني فهمت أنه تزوج أمريكية من أصل هندي وعاد مهندساً، ومدينة تمبي تقع في ولاية أريزونا بالقرب من مدينة فينكس والجامعة اسمها جامعة ولاية أريزونا الحكومية Arizona State University  التي درس فيها الدكتور فهد بن حزام الدوسري وإياد مدني الذي أصبح وزيراً للإعلام ووزيراً للحج. وكان عدد طلاب الجامعة أكثر من ثلاثين ألف وكانت عدد سكان مدينة تمبي حوالي ستين ألف نسمة. وأمضيت في تمبي ثلاث سنوات أذكر أن أشجار المدينة للزينة هي البرتقال أو الحمضيات فإذا جاء الربيع فما أجمل تلك المدينة، ولكنها كانت مدينة صغيرة تفتقد إلى روح المدينة فمساكنها متباعدة وليس فيها سوى مجمع سكني لطلاب الجامعة يطلق عليه مدينة الذنوب (Sin City) وفيها مباني سكنية للطلاب وكان منها مبنى ضخم اسمه لامانشا وهي اسم اسباني لعدة مناطق في  أمريكا اللاتينية.
وكانت مرحلة تمبي (Tempe) مرحلة خصبة فكرياً حيث إنني درست عدداً من مواد اللغة الإنجليزية بالإضافة إلى دراستي علم النبات وعلم الحشرات وعلم التشريح وتاريخ العلوم وغيرها من المواد ولكني استمتعت باللغة الإنجليزية ولم يبق وقت كبير حتى أحصل على درجة في الأدب الإنجليزي غير أنني سئمت فقد اكتملت الخمس سنوات ولم أعد أطيق صبراً على الانتظار.
وفي إحدى مواد اللغة الإنجليزية وكانت القصة القصيرة تحدثت الأستاذة وهي بصدد الحديث عن قصة الحائط لجون بول سارتر (الوجودي المشهور) فذمت تلك الفلسفة ونعتتها بشتى النعوت السيئة، وما كنت أعي ما الوجودية ولكني قمت وقلت أستاذتي لقد جئنا إلى هنا لنتعلم عن القصة القصيرة وليس عن آرائك  فهذا يسمى سوء استغلال قاعة الدرس، فقالت لقد سألني أحد الطلاب رأيي فقلت لها نحن ست وثلاثون طالباً ولو أن كل طالب طلب رأيك في قضية لم ندرس شيئاً، وفي الأخير قالت هي محاضرتي وأفعل فيها ما أشاء، وهنا ثار الطلاب الآخرون وناقشوها بقوة. وبعد أيام عاد بعض الطلاب أو معظمهم فاعتذروا للأستاذة عما بدر منهم إلاّ أنا فلم أعتذر وهو ما تسبب في حصولي على درجة مقبول. ولكن هذه الحادثة قادتني إلى التعرف أكثر على عدد من الطلاب فكنت في مبنى النشاط الطلابي ورأيت بعضاً من زملائي في تلك المادة فجئت إليهم وقلت لهم أنتم منافقون لقد خفتم منها فاعتذرتم، وكان بيدي مجلد لبعض كتاباتي فقال لي زميل واسمه توم مارس ما هذه الكتابات فقرأها وقال أنت كاتب وشاعر لا بد أن تشترك معنا في ورشة الكتاب التي يشرف  عليها أستاذ اللغة الإنجليزية جيمس قرين وتجتمع أسبوعياً في إحدى زوايا المقهى في مبنى النشاط الطلابي. وبالفعل اشتركت معهم وكانت فرصة لتعلم المزيد وتطوير لغتي الأدبية.
وأذكر من المواد التي درستها مادة شكسبير للسنة الأخيرة (420) وحصلت فيها على مقبول كبيرة ولكني استمتعت بقراءة الأستاذ جون راتلف John Ratliff  (يقولون كان رجل  أعمال وعقار ولا يأخذ راتباً من الجامعة، كما استمتع بقراءة الممثل الإنجليزي لروايات شكسبير وهو ريتشارد بيرتون، كما درست مادة التأثيرات الإنجيلية في الأدب الإنجليزي وكم هو جميل لو كان لدينا مادة عن تأثير القرآن الكريم والحديث الشريف في الأدب العربي والآداب الإسلامية عموماً. كما درست مادة وانسحبت منها وهي الكتابة المتقدمة حيث كان من المطلوب كتابة مقالة أو بحث في حدود ألف كلمة كل أسبوع ووجدت أن التكليف أكثر من طاقتي ولكني تعلمت من أستاذة المادة أهمية أدوات الربط بين الجمل والفرق بين الكاتب المبتدئ وكتابات كبار الكتاب الذين تكون جملهم طويلة مثل وليام بكلي وغيره.
وفي مرحلة جامعة أريزونا التحقت بجمعية الطلاب العرب التي كان يرأسها بعض من يزعم النضال وتأييد المناضلين الفلسطينيين. حتى إني التحقت بمجلس إدارة الجمعية أميناً للصندوق بلا صلاحيات حيث كانت الأمور تدار في الخفاء من قبل المجموعة المتنفذة. ولكن ما أزعجني أن هؤلاء الذين يزعمون النضال كانت لهم جلسات خمر وقمار في نهاية كل أسبوع ويتحدثون كيف قادت الزوجات السيارات عندما سكر الرجال الأشاوس. فتعجبت كيف يكون نضال وخمر وقمار.
لم أتعلم السياحة الحقيقية ولكن مع ذلك كان لي تجارب زرت خلالها روما وأمستردام وبيروت وعمّان. ولكنها زيارات خاطفة لم أطلع عليها بتوسع. ولكن بعضها كان مغامرة في البحث عن فندق أو ترتيب تأشيرة أو غير ذلك. وأتذكر من رحلتي إلى روما أني نزلت في فندق فدار حديث بيني وبين صاحب الفندق وكان يشكو من سلوك أستاذ طبيب أمريكي جاء لإدخال ابنه في كلية الطب بجامعة روما (لأن دراسة الطب في روما أرخص من أمريكا) فقد طلب الأب من صاحب الفندق أن يأتي معه إلى الجامعة مترجماً وبأسلوب فيه غطرسة وكبرياء، وهي من الأخلاق المشهورة عن الأمريكان في تلك الأيام وربما حتى اليوم. وقد أصابني بعض هذه الأخلاق في تعاملي حتى إني كنت أنتبه لنفسي متلبساً ببعض العنجهية والكبرياء. وأضاف صاحب الفندق إن ما أكسبه من إدارتي لفندقي أكثر مما يمكن أن يعطيني إياه هذا الأمريكي المتغطرس.
وكان يلفت انتباهي جمال الميادين العامة في روما وفي أمستردام وغيرها وضخامة المباني ولكن لفت انتباهي كثرة التماثيل وصورها العارية مما يعني أن القوم يمجدون الجسد والجنس والقوة.
وقد امتازت مرحلة أريزونا بالقراءة والاطلاع ومما أذكر في هذه الأيام أن الجامعة وبخاصة لمن يبتعد عن الطلاب العرب الذين كان كثير منهم يهتم بلعبة البلوت والحفلات والنساء. أما مع الأمريكان فالحديث ثقافي فكري وربما سياسي. فقد وقعت على عريضة ذات مرة تطالب الحكومة الأمريكية بعدم إلقاء النفايات النووية في المحيط ولكن كما فهمت ولا حياة لمن تنادي، وكانت تلك الفترة خصبة بالمطالبة بوقف الحرب في فيتنام كما شاهدت طرفاً من محاكمة ريتشارد نيكسون وكان يعجبني بلاغة بعض المحامين أو المدعين العاميين. وكان الحديث عن السياسة والأخلاق وكيف انفصلا في حياة نيكسون ومن شابهه.
أما القراءات فلا بد أن أعترف الآن أنه كانت هناك تيارات تدعو إلى قراءة الكتب التي تدعو إلى المتعة واللذة ومن أبرزها كتب هيرمان هسّه الألماني،  وكتاب أو كتب كازانتازاكي اليوناني ومنها "زوربا اليوناني" و"تقرير إلى اليونان" وكتاب ماكسيم جوركي "الأم" وكتاب جورج أورويل (1984) عندما أعلن أن وكالة التحقيقات المركزية FBI  تمتلك ملفات لأكثر من مائتين وخمسين ألف مواطن أمريكي عادي، بل كتبت بعض وسائل الإعلام أن الحكومة الفيدرالية تحلل صور المظاهرات السلمية وتتعرف على الأشخاص المشاركين فلا تسمح لهم بالوصول إلى الوظائف الفيدرالية.  وقرأت كتباً أخرى تتناول الشأن السياسي والحضارة. بل أذكر أنه لفت انتباهي في القناة الثقافية برنامج المناظرات واللقاءات مع كبار المثقفين والعلماء مثل اللقاء مع عالم النفس وعالم الاجتماع إيريك فروم. كما انتشرت الكتب التي تتناول الجنس بل ألقى أستاذ أمريكي محاضرة عن الجنس في جامعة بورتلاند في بداية السبعينيات تحدث فيها بصراحة وحتى بوقاحة عن الممارسات الجنسية، وروجت وسائل الإعلام لأفلام جنسية فاضحة وجعلت من ممثلي تلك الأفلام أبطالاً ونجوماً.
والسبب في قراءاتي أني كنت أميل إلى صحبة الأمريكان المثقفين والابتعاد عن صحبة الطلاب العرب على الرغم من عدم المقاطعة كلياً، فقرأت تشارلز ديكنز الذي كان يتحدث عن المجتمع الإنجليزي وما فيه من أمراض اجتماعية بأسلوب فني راق، كما قرأت بعض الروايات أو القصص التي كتبها مساجين ومنهم صاحب (سجين زنداً) كما قرأت عدداً من القصص عن مساجين وكان أحدهم قد درس القانون حتى أصبح قادراً على الترافع عن نفسه.

وأختم الحديث عن هذه المرحلة بقصة طريفة أنه بعد أن قبلت للعمل في الخطوط السعودية بعد انتظار زاد على سنة كاملة أنه كان علي أن أجري الفحص الطبي فلما جئت إلى فني الأشعة وسألني عن دراستي فقلت درست عدة سنوات في أمريكا فقال (الذين يفشلون في أمريكا، يأتون للعمل في الخطوط السعودية) قالها بلهجة الساخر المحتقر. فآلمني جداً فهل كنت فعلاً فاشلاً في أمريكا أو كانت أسباب عودتي ليست بسبب فشل في الدراسة؟ ولن أتحدث بالتفصيل فيكفي أنني عدت والحمد لله لأبدأ مشوار الدراسة من جديد حتى حصلت على درجة الماجستير وحضر والدي رحمه الله مناقشة الرسالة ولكنه رحمه الله مات قبل حصولي على الدكتوراه، التي تأخرت بسبب التعقيدات الإدارية والأحقاد والاستبداد ولكن لهذا حديث آخر ليس هنا مكانه.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

تلخيص كتاب منهج البحث التاريخي للدكتور د. حسن عثمان

الكلمات النورانية: وتحمل الكل

الإسلام وتعلم اللغات الأجنبية